استكشاف - جواد بولس
كم منكم يتابع ما أسميَ بلقاءات فلسطينية إسرائيلية عقدت وتعقد وستعقد في الأردن؟. وصْفُها باللقاءات يستجمع موافقة من الجميع. تحميلها همَّ وسِمةَ المفاوضات يستجلب امتعاض البعض وعتاب آخرين وزجرهم، فما يجري، وفقًا لأولئك، ليس بمفاوضات بل لقاءات استجلاء وجس نبض، عسعسة وتغماز جانب لآخر كتغماز تين الحجاج.
العناوين التي تصف لقاءات الفلسطينيين والإسرائيليين المستأنفة في عمان تتلون بألوان الواصفين وحبر نواياهم. ما يثيرني شخصيًا هو ذلك الإعراض وعدم الاكتراث الشائع بين شرائح الشعب الفلسطيني ليس فقط لمجريات هذه اللقاءات، بل حتى لحقيقة حصولها. غيبوبة بائنة وقطيعة واضحة قائمة بين الشعب وتلك الطاولات التي تجزر وتمد في عمان، على الرغم من أن ما يجري هو باسم أبناء الشعب والجماهير.
ماذا استجدّ؟ وعلى ماذا التفاوض؟ ومن هي الهيئة الموكلة بهذه المهمة الخطيرة؟
لا أزايد على أحد ولا أناكف صاحب حق. لا أنافس ولا أسيّل ريقًا على مهمة أو وظيفة في هذا المضمار، لكنٌني أسأل لأطمئن، ولأنّه حقّي وحق كل من يضرع لله العلي القدير بأن يأخذ بيد الفلسطيني وينصره في مطالبه العادلة وينصفه عما تأخر واستحق من عدل سماويّ ويعوِّضه عن ضيم أهل الأرض وتواطئهم.
لا أزايد على أحد، فأنا من الفرقة التي تؤمن بضرورة التفاوض وبالمفاوضات وسيلة لإحقاق الحقوق الفلسطينية الضائعة والمتعثرة. ولكنني تعلمت وعرفت أنّه بالجد والجهد والجود والعمل تتحول الأماني إلى بذار تحصد على بيادر الساسة والسياسيين، ولا بأس عندها أن تكون بيادر مفاوضات، على رحاها يجني الفالح ما زرع من ورد وشوك وروى بالدمع والعرق والدم أحيانًا .
ماذا استجد وأيلول الأمم المتحدة ما زال يرعى أفراخ أحلام "زغب الحواصل"؟ ماذا استجد وفي القدس تستباح كل يوم بكارات التراب فيمتلئ الفضاء شهوة كشهوة الصابون في عين المليحة!؟
لا يا أخي إنّها أبعد من أن تكون مفاوضات، لأن السلام المرتجى لا بد أن يكون في نهاية المطاف بين طرفين، وكي تصبح إسرائيل طرفًا معنيّا في السلام عليها أن تتخلص من فائض شهوتها وهي منذ أن بزغت نطفة ركنت إلى القوة، مرساتها ومرفئها، وإلى خلق واقعها على أرض تزاحم عليها الأنبياء وما زالوا، واتعظت من تاريخ الدم أن لا تأمن أحدًا وأن لا تستأمن إلا نفسها، حتى وإن كان عضدها سيد البحار والوهاد صاحب الشبح والتوماهوك.
ولن تكون هذه لقاءات استكشافية ولا عسعسة... "فإسرائيل ما زالت صغيرة الحجم وقابلة للانجراح ولذا لا بد من أن تشعر بالأمان كي تقدم تنازلات من أجل السلام، وعلى العرب أن يعوا أن ما من شيء يمكن أن يُدق إسفينًا بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وإن إسرائيل لن تختفي أبدًا من الوجود". إسرائيل لن تتنازل إلّا إذا ضمنت أمنها وهذا بمفهوم الإسرائيليين مختلف عن مفهوم خصومهم، "فهم يصرّون على أكثر من مجرد التسليم بوجودهم، إنّهم يريدون القبول به".
"قول الحقيقة ضرورة وليس ترفًا" هكذا كتب دينيس روس صاحب الكلام المقتبس أعلاه. عدت إلى ما روى في قصته عن السلام المفقود، عندما فاجأني نبأ اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية في عمان. عدت إليه لأنه من السياسيين الأساسيين الذين تابعوا حكاية السلام المفقود وأكثرهم تواصلا وتأثيرًا فيها وعليها.
عدت إليه لا من باب إعجاب أعمى بحقيقة تروى، ربما بترف وربما بنزق، إنّما من ضرورة وحاجة لنتذكر بعضًا من ماض قريب ما زال ضبابه يكتنف هضاب أحلامنا ولهاثًا وراء سراب عتيق عشقناه فركضنا وراءه إلى يوم تمنيناه كموقعة "عمورية" حين آمنا "أن السيف أصدق إنباءً من الكتب".
ماذا استجد، يا أخوتي، وميادين فلسطين ما زالت تضج بصدى الحناجر الداعية لرئيسها وصحبه بالفوز المبين والنصر في حلبات أمم تكابد كي تبقى متّحدة. ماذا استجد وغبار عربات أطفال تجرها صاحبات الوعد المراهق ما زال يتسامى أنغامًا في شوارع بلاد ناءت من حملها الوهمي. ماذا استجد وإسرائيل ما عافت لعبة الذئب ولا ثغاء الحمل؟ ماذا استجد وهل غيّرت أمريكا ما علّقته تمائم من ذهب وماس ويورانيوم تجاهر: لن يُدق إسفين بينها وبين إسرائيل، أمن إسرائيل أوّلًا وواسطًا وأخيرًا، والأهم مفهوم إسرائيل لهذا الأمن وقناعتها به وإلّا لا مصالحة ولا سلام ولنعد لإدارة الأزمة.
من حق كل فلسطيني وكل مناضل من أجل فلسطين أن يعرف حقيقة ما استدعى هذه اللقاءات وحقيقة ما جرى ويجري فيها. من حق كل من يحلم وكل من يكافح ضد احتلال إسرائيل لأراضي فلسطين أن يسمع ممن أولوا الثقة وأكثر حقيقة ما يجري، فالحقيقة هنا، كما دائمًا، ضرورة لا ترف. من حقنا أن نعرف لمن أوكلت مهمة التفاوض/ اللقاء/ الاستكشاف/ الاستجلاء وما إلى ذلك مما يفيض به بحر العربية وأنهارها من ظلال أو ضلال.
من هم أولئك المعتمدون والموثوقون وما هي كفاءاتهم وحدود تجربتهم؟ هل لديهم ما يكفي من المناعة والقوة والقدرة على مجابهة عناد باطش ومراوغة فاسد وحزم مجرّب وإغراء قادر؟!.
أسأل من غيرة وأعرف أن لمثل هذه القضايا مقتضيات ومحاذير، لكنني لا أطالب بأكثر مما تتيحه أصول التعاقد بين أفراد شعب يناضل من أجل حريته وقيادة أوكلت واستوثقت على مقاود سلامته وأمانه وخاصةً بعدما غصنا قبل مدة ولصنا بـ"جزيرة" من التحريض ودق الأسافين.
"إنّ الرئيس محمود عباس يمثّل مصالح فلسطين وشعب فلسطين بأعلى درجات المسؤولية الوطنية، وإن كل من حاول ويحاول، بالتلميح أو بالتصريح، التشكيك بوطنيته لن يتعدى كونه مزايدًا أو مغرضًا أو جاهلًا أو مدفوعًا بسوء". هكذا كتبت في مقالي "فجر أم عاصفة" الذي نشر قبل توجه الرئيس عباس إلى نيويورك. ولأنني ما زلت أومن بما كتبت أسجل هنا صرختي ولتكن صرخة استكشافية واستدعاء طمأنينة .