هذا هو شعبي الذي به سررت - جواد بولس
انتخبت الجماهير العربية في إسرائيل من سيقودها لخمسة أعوام جديدة. معارك الانتخابات التي جرت في القرى والبلدات العربية تركت مجتمعات مثخنة بالجراح الحقيقية، وهذا ليس من باب مجاز واستعارة. إلى حدّ بعيد انحسار دور الأحزاب السياسية الوطنية جاء نتيجةً لغياب دور قادة حقيقيين لم يفلحوا باستيعاب ما يجري عميقًا في بطن النهر، ولم يلحظوا في أي دلتا يستقر طميه. لا نبالغ إن قلنا إنّ عهدًا قد انقضى، وما سيكون لا يُترك للحظ ولمن يجيد رمي النرد أو اللعب بلعبة "الثلاث ورقات".
القضية ليست بالمفاضلات الشخصية. فعلى الرغم من أهمية الشخص يبقى المقلق انكشاف مفاعيل إنتاج هذا الرئيس أو ذاك، فهنالك فارق بين رئيس يمثل حزبًا سياسيًا وطنيًا يقوم على مبادئ واضحة وتنظيم سليم يكفلان وضع الخيارات والأولويات الوطنية، ويحاسبان من ضلّ الطريق وحاد عن بوصلة الجماهير، من جهة، وبين رئيس سيكون أسير مخاتير "مودرن" وحفنة من رجال المال الذين يسعون لحماية مالهم وزيادة أرباحهم، وإليهم ينضم بعض من ذوي العضلات المؤمنين بأنّ ما لم يؤخذ بالقوة يؤخذ بقوة أكبر، ويبقى المخفي وراء انتخاب بعضهم أعظم.
من المشاهد الحزينة التي أصبحت تتصدر المواقع الإخبارية هي تلك التي ترصد زيارات أعضاء الكنيست العرب لدواوين الرؤساء المنتخبين بمسعى مستفز لركوب هذا الحزب أو تلك الحركة على ظهر فائز هنا ورئيس منتخب هناك. رؤساء، معظمهم انتخبوا باسم حمائل وتحالفات عشائرية محلّية، بعدما باعوا ذممًا واستباحوا كل وسيلة، يصيرون أهدافًا يلهث وراءها "قادة" حركات وأحزاب لينتسبوا إليهم ويفاخروا "كالقرعان يفاخرون بشعر ابنة أختهم"، بمجاز مما قالته العرب.
حملات استكشاف مرشحين "دسمين" في بعض القرى والبلدات عكست عمق الهاوية التي وصلت إليها الحالة السياسية العامة. قيادات أطلقت أعنّتها وبدون أي محاسبة للذات أو خجل، شرعت بعرض اسم الحركة/الحزب وتاريخه للبيع أو للتأجير، بالخلو والمفتاحية، وأحيانًا على طريقة "الدي- يوس". فمع اشتداد المنافسة، حتى الزواج العرفي غدا مقبولًا.
في كل بلدة أنين ولهفة على مستقبل صار ذبيحًا. في كل بلدة نصر وقهقهة تذكّرك بأفراح روما. أمّا مدينة الناصري فتختزل كل الدهشة والجحود. "المجدلية"، التي من أرض المتاهات والضياع، شقت صدرها وفكّت ضفائرها، تولول: مَن حلم ببقاء مدينة واحدة فاضلة في بلاد يغزو قراها الملح فهو واهم! من مضى يلعب في عليائه دور "هارون"؛ صوته سوطه، حنجرته في رأس أنفه وحاله كحال الواثق في سرّه يقول: "مهما يكن، أمطري يا سماء حيث شئت فلسوف يأتيني خراجك!" قامر وخسر ظبيته وضاع منه القمر.
ها هي الناصرة تشهد من جديد على شقاء أخواتها. من سمع مثلي النداء ينذر ولا يرحم؛ الناصرة للناصريين، جفل وبكى على نشيد الشباب "بين نقب وجليل دمنا الحر ينادي، واسلمي يا ناصرة واسلمي لي يا بلادي"، ألم نكن جميعنا أولادًا لتلك البشارة؟ أحقًا لم تعد الناصرة إلّا للناصريين؟ من أنا إذًا، لأقول لتلكم الآلاف الراقصة طربًا إنهم من جند الليل وغير جديرين بعناق الصباح؟ من أنا لأعزي من كانوا غفاة وأنكروا دماء أخيهم قبل صياح الديك، ورقصوا عليها رقصة الموت مع جند قيصر؟
لتفرح تلك الناصرة بفرح أبنائها، وليبكها من لم يصونوا لها ودًّا وتاريخ مجد. أنا لن أبكي لأنني عرفت أن "للحقيقة وجهين، والثلج أسود فوق مدينتنا"، فخبأت دمعي للقاء أحبابي لأننا، "لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا".
ما جرى هناك لم يكن معجزة. لقداستشعرت ما صار واقعًا في الناصرة عندما تكلّمت عن مصادر شرعية بعض قيادات حركاتنا وأحزابنا العربية. كان الخلل واضحًا. بعضهم فقد "صلة الرحم" مع جماهيره، وأصبح كالمنبتّ يعيش على تخمة ووهم، آخرون ولدوا طفرات، اكتسبت شرعيتها من رمشة عين التاريخ، وفئة جاءتهم تلك معلّبةً مدعومةً بمواد حافظة يقترب تاريخ نفادها.
توجِعنا المفارقات، ربما ولكن يبقى الجرح أقوى من الوجع؛ فكلٌما كبرت الأسئلة التي واجهها المواطن العربي كانت قيادته هذه تصغر تباعًا، كلّما تشعّبت السبل ضلٌت الخراف طريقها، لأن الرعاة كانوا في عليائهم يتخاصمون على معنى الرعد ويعدّون عشاءهم الأخير. لا فراغ في السياسة. فشلوا بطرح الأسئلة الصحيحة فغابت الحلول الشافية، عمّت الفوضى وساد ضياع.
كل خاسر مقابله رابح. الرابحون بحلّ من التعليل وللخاسرين علم الذرائع ورب قدير غفور عليم. لا أعرف كيف "خانت" مساقط رأس قادة شعبنا وأسقطتهم أو أسقطت مرشحيهم؟ أهي صدفة؟ لن يتعبوا ولن يخبروكم عن سر الفشل. ذاكرة الشعب المهمومة القصيرة لهم ضمانة والشكوى عن كون أعدائهم ليسوا أكثر من قطيع حجة سامة قاطعة.
آمنوا كما شئتم؛ أنا سأكتفي بمطر "أحمد" الذي قال:
"يتهادى في مراعيه القطيع،
مشهد يغفو ويصحو في فؤادي،
هل أسميه بلادي؟
أبلادي هكذا؟
ذلك تشبيه فظيع! "
قد تستبدلون أحبابًا وأحزابًا ولكن هذا الشعب باق كما في القسم: "على صدوركم باقون كالجدار".