كفاية! - بقلم جواد بولس
واثقًا كصباح أنيق، أجمل مديرُ عام "مركز القدس للدراسات السياسية"، السيد عريب الرنتاوي، أعمال الورشة التي عقدها المركز في عمّان بعنوان: "المسيحيون وربيع العرب"، وحضرها نحو خمسين شخصيّة عربية وفدت من ثنايا الجروح التي تثخن أجساد أوطانهم.
بعد يومين حافلين بأوراق قدّمها المنتدون، ونقاشات لم تفتقد إلى سخونة المشهد، كان واضحًا أن الوصول إلى خلاصات يجمع عليها جميع من حضر هي أمنية "أعزُّ من بيضِ الأَنُوق"، بيد أن ذلك لن يحول، كما أعلن ووعد السيّد عريب الرنتاوي، دون إصدار جميع مواد الورشة في كتاب سيشمل أيضًا بعضًا من التوصيات التي على روحها تحصّل إجماع أو اتفاق واسع.
عدد المشاركين وتنوّع أصولهم وأطرهم السياسية والأهلية يعكس أهمية ما اختاره المركز عنوانًا للورشة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبرهن على إقرار بتفاقم قضية المسيحيين العرب في زمن ربيع العرب. أمّا الأهم فيبقى في تلك المحاولات الدؤوبة عند كثيرين يعيشون همّ الواقع الدامي، ساعين بدايةً لتشخيص بواطن الأزمة ومحاولين، من ثمّ، وضع تصوّرات وتوصيّات من شأنها أن تنقذ مجتمعاتنا مما يعتريها من عطب أو أن تحدّ من فداحة النزف.
بعد أن استمع الحضورعن الدور النهضوي للمسيحيين العرب بجلسة رأسها النائب اللبناني فادي كرم، رأس الجلسة الثانية رئيس اللجنة القانونية في مجلس النوّاب الأردني، النائب مصطفى ياغي، ليفتتح جولة من جلستين (الثانية أدارها النائب جميل النمري من الأردن) وناقش فيها مجموعة من المجتمعين قضية المسيحيين في الدساتير والتشريعات العربية.
لقد اتّسمت نقاشات اليوم الثاني بصراحة وموضوعية عكست روح المسؤولية عند معظم المشاركين، لكنّها كشفت بذات الوقت عن عمق الأزمة وقتامة الواقع، فقضية المسيحيين في خطاب الحركات الإسلامية كانت موضوع النقاش الذي استجلب وتائر حادةً في بعض من تفاصيله ومحطّاته.
أدار الجلسة الأولى النائب محمد الحاج قيادي في حزب الوسط الأردني وطلب من الدكتور يحيى الكبيسي وهو باحث ومستشار في "المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية" أن يطلعنا عن وضع المسيحيين في خطاب جماعة الإخوان المسلمين وتفريعاتها، تلاه الأستاذ مراد الشيشاني ليطلعنا عن المسيحيين في خطاب الحركات السلفية. ثالث المتحدّثين كان الدكتور وجيه قانصو أستاذ في الجامعة اللبنانية الذي أفادنا عن المسيحيين في خطاب الحركات السياسية الشيعية.
خاتمة الجلسات كانت بعنوان: "المسيحيون والربيع العربي شركاء في التغيير أم حلفاء للأنظمة القائمة"، أدارتها النائبة باسمة بطرس عضو مجلس النواب العراقي وشارك فيها جورج إسحق المنسق العام لحركة كفاية المصرية، والأب رفعت بدر مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام، والأستاذ آشور كيواركيس رئيس حركة آشور الوطنية.
لن يتّسع صدر مقال أسبوعي لنقل حيثيات يومي نقاش مستفيض، شارك فيه نوّاب وناشطون وأكاديميون يمثل بعضهم، علاوة عن نفسه، حزبًا أو حركة أو مؤسسة، ولكن يبقى لافتًا أن المبادرين- مركز القدس، انتقوا واحدة من الأزمات المتداعية في الوطن العربي وبمسؤولية وطنية وإنسانية عليا اختاروا أن يضعوها، وبمنتهى الشفافية والمباشرة والصراحة، في الصدارة وتحت مجهر المصلحة العليا الجامعة. فالعبرة بكشف العلّة ومجابهتها لا بالتنكر الخبيث والطبطبة التي تفاقم الأزمة وتنهك الجسد العليل.
جمع المركز أطيافًا غطّت، تقريبًا، كل الجهات (مسيحية، إسلامية علمانية سياسية وأكاديمية) ذات الوجود في ساحات الوطن العربي، لا سيّما في الدول التي تنبض فيها قضية الوجود المسيحي العربي (مصر، العراق، لبنان، سوريا،السودان وفلسطين).
على الرغم من ارتفاع وتائر النقاش في بعض المسائل، فلقد سادت بالمجمل أجواء إيجابية بين المجتمعين، فإصرار الداعين على تثبيت قاعدة الإدلاء بالرأي الصريح كحقٍّ لا يشوبه عائق، والسماح لصاحب الرأي النقيض المغاير أن يسمع صوته كحق كامل، أكد للحاضرين كيف تكون بدايات مسيرات أمة تسعى للانعتاق من نير أنظمة طاغية نحو حرّياتها؛ فالحوار البنّاء وسيلة واحترام الآخر ضرورة.
قبل الوداع، مع بعض من الأصدقاء توجهنا الى النادي الأرثوذكسي في عمّان. جورج إسحق، تلك الشخصية الفذة التي بدأ العالم يسمع بها قبل عشرة أعوام، يتقدّمنا بهمّة شاب لا يشيخ. حدّثنا عن حركة "كفاية"،عن بداياتها وعن أحداث سمعنا عنها، وأخرى كانت بتفاصيلها جديدة ومثيرة. ساعتان في حضن تاريخ دافئ قضيناها وزملاء عطاشًا للحقيقة وللحرية. "أعظم ما حققته "كفاية" يا أحبتي أنّها تحدت كرباج النظام، وأنها كسرت حاجز الصمت وحطّمت أصفاد الخوف"، هكذا أجمل منسّق الحركة المصرية للتغيير الذي تحدث بإيمان لا يشوبه خدش عن مصير مصر الوردي المؤكد. وعندما سألناه أين "كفاية" اليوم؟ أجابنا "كفاية" هي فكرة والفكرة لا تموت. رسالتي ستبقى: "اكسروا حواجز الصمت، حطموا قيود الخوف واصرخوا "كفاية كفاية".
بدأت لحظات الوداع، كلّنا يحتضن كلّنا، كتف على كتف، ودعاء للقاءات قريبة، "عَلْعايش" أكَّد البعض، "إن شاء الله" طمأننا آخر، "إن بقي وطن" تأسّى آخرون.
عدت في صبيحة الإثنين، بخلاف كل أولئك العرب وجدّت فلسطين، وطني، سالمًا معافىً، فهنا في وطني نعيش كالحمام، تمامًا كالحمام. أقسمت أن أرجع لأصرخ في وجوههم "كفاية".