آية للرجال - جواد بولس
في عام ١٨٣٩ أعلن فرنسي اسمه لويس داغر أنه اخترع آلة تقوم بطباعة أي هيئة على لوح صفيح وأسمى "آلة التصوير" هذه "داغروتيب". كثيرون من أهل ذاك العصر لم ترق لهم الفكرة، وبعضهم رأى فيها فجورًا ومعصية لكلمة الرب وحكمته. أحدهم كتب في صحيفة شهيرة قائلًا: "إن الأمنية لالتقاط انعكاس عابر لأي جسم ليس فقط سيكون مستحيلًا .. بل أن مجرد الرغبة لوحدها لفعل ذلك هي كفر شنيع. لقد خلق الرب الإنسان على هيئته وصورته ولن تستطيع أي آلة يصنّعها إنسان أن تطبع أو تخزّن هيئة الرب. هل يعقل أن يتخلى الرب عن مبادئه الأبدية ويسمح لفرنسي بتزويد العالم باختراع من الشيطان؟".
هكذا كان المناخ في فرنسا وقتئذ، مشبعًا بالجهل وفائض إيمان وكواسر أمواج القلب والعقل والتقدم، بالرغم مما جرى في منتصف عام ١٧٨٩ حين ثار الفرنسيون ضد ظلم مليكهم وجشع بطانته وحلفائه ممن عُرفوا بالنبلاء، وإكليروس أصبح شريكًا في الشحم وخبيرًا في ضروب ودروب اللحم والكذب والرياء، فالكهنة جنّدوا الكنيسة والرب قائدًا في كتائب الاحتياط، متأهبين للذود عن أصحاب كروش لا تعرف الشبع وعن "منجِّدي" فرشات، أساطين استمتاع ومؤانسة.
ثورة الفرنسيين دامت عشر سنوات وأطاحت بملكية لصالح جمهورية وبنبلاء لصالح برجوازية وبإكليروس لملم شظايا صليب وخطيئة من ساحات قصور ودهاليز ساسة وسوس ليعيدها إلى معابد الرب. فرنسا تسعى لعودة عقل وإحياء إنسانية. فرنسا تبشّر بالحرية والمساواة والإخاء.
كان المخاض طويلًا وكان الدمع غزيرًا. لم يكن سهلًا حصاد بيادر الفرح والنصر، فما زرعه الطغاة وحلفاؤهم وجيوش من المرتزقة حكموا باسم السماء، وباسمها شرّعوا عبودية الحر وسلبه كرامة وعقلًا ومعدة، كان متجذّرًا عميقًا في الأرض ومنتشرًا في الجو والفضاء ومع المطر.
عقول عُطّلت. نفوس استوطنها الخوف من كرباج حاكم، وأكثر من لعنة وغضب مَن باسم السماء يفتي فيشفي أو يميت. ظلمة قبور أدخلوها إلى مخادع الفقراء والبسطاء فلفّتهم وحوّلتهم أشباه أحياء وهياكل عظمية لا تسأل ولا تتساءل ولا تفكر فلا تنتج إلا الولاء والطاعة لمن بعذاب القبر يتحكم ويعد بحسن الخاتمة والعزاء.
كان المطلوب أكثر من إعلان ثورة فالأرض بحاجة إلى حرث بمحاريث جديدة وحرّاثين أكفاء صبورين، يعزقون ويبذرون أسلم وأصح البذور لتنمو أشجارًا وزهورًا وورودا، تنشر أريجها وشذاها فيصح مناخ ويطيب فضاء.
كانت تلك البداية إلى السكة السليمة، فمكّنت العقل قائدًا وبوصلة وياطرًا، حتى وإن بقي مَن بعد أربعة عقود يؤمن أن الشيطان وراء خطوة تكنولوجية كان لها بالغ الأثر في تقدم البشرية وخدمته.
الثورة لن يحميها إلّا عقول الثوار الثائرين، ذاك هو درس ثورة الباستيل وكل ثورة توخت الخير لأبنائها. ومن قانون النور هذا شع الضياء على ما تلا وتهافت من نور في مطارح أخرى بأرجاء معمورتنا وما أصبح عروة تتشابك وعروة مشكّلات تاج الحرية والكرامة والعدل الإنساني. فلا ديمقراطية بدون ديمقراطيين ولا ديمقراطيون بدون مناخ وجو مشبعَين بمبادئ وقيم ديمقراطية. ولا حرية لمن بنفْس عبد يعيش وبنَفَس عبد يتسلط أو "يتسلبط".
أكتب وأتأسى لأنني من أمّةٍ متوسط ما يقرأ الفرد فيها لا يتعدى ست دقائق في السنة (ابن فرنسا الباستيل وإخوانه في بلاد الفرنجة والمعصية والخطيئة يقرأ بالمعدل مائتي ساعة في السنة".
أقرأ عن فرنسا وكيف من ظلمة غدت بلاد الضوء والعطر، وكيف أحالت ما أوصد من آفاق إلى فضاءات حلم وضفاف مستحيل، وهي التي عانت من ظلم وجور وتغييب عقل ووعي فأنّت تحت بساطير جنود ملك وسواطير كهنة باسم الدين والرب تفننوا وصنعوا للعذاب قوالب وقبعات، مسجلين للشيطان براءة الاختراع على محاكم التفتيش، سلطة عصر الانحطاط.
أقرأ عن فرنسا وعن أخواتها وأرثي لحال فتاة اسمها آية، نريدها أن تجترح المعجزة لتبقى آية تحتذى ربما، أو تعلق على جدران الندم والنسيان. بإحباط وغضب حاولتُ تصوَّرَها وهي بعزيمة حلم وخفة أمنية "تتشعبط" بماسورة باب حافلة أعدتها "القيادة" لتقل "مناضلين" من شمال، أبقتهم غفوة جيش الإنقاذ في وطنهم أسرى لدى أبناء شعب الله المختار، إلى جنوب كان ولم يزل شاهدًا على درب القوافل والقوافي.
حرة فتحت آية عينيها، وعلى جناح نسمة هبَّت لنصرة إخوانها وأرضٍ تميد تحت نعال رجال أغراب. أرجأت خيبتها إلى ما بعد ميعاد مع السراب حرة مصممة ومؤمنة أنها ستضربه بعصاها وسينز هذه المرة ماءً وعرقًا ونبيذا. تجهزت بكل ما يستعان به ليوم صحراء، تبكي لا من عطش بل من جهل حاديها. كانت على أهبة وعد وتضحية لكنهم هناك على عتبة الفرح وأدوا حلمها وتوجسوا من رائحة المسك المدسوس فيها. زجروها كممسوسة لا مكان لها بين عقّال، وكرجسة لا تلائم جلسة طاهرين.
ما نخّت آية وما أشفقت على من بجهله ينعم، فهي ورفيقاتها تؤمن أن نضالات التحرر لن تتم إلا بمن يحمل ويمارس قيم التحرر. فهكذا كان في يوم الباستيل وهكذا كان من فجر الحرية وهذا ما سيبقى .
عنيدة كانت آية وحرة. أصرت فأوت إلى رفاق ورفيقات لها في النضال وفي الحرية وسواسية في حبهم للمسك وأكثر للظباء تركض وراء الريح وضحكات نحلة عند الغروب .
لك يا آية أصلي ليحميك الرب من كل أذيِّة، وليحافظ عليك حرة كريمة مناضلة. ليبقيك إنسانة عاقلة تسمو بعطائها وتكبر بصمتها وبفرحها أختًا لابنتيَّ، وبكن يكون السند والمدد على كل ظالم لا تهزه قصعة زهرة ولا تحركه دمعة ناي. فلا بأس أن يدمع النرجس ولكن "ترفَّق بدمعِكَ فاسْتَبْقِهِ/ فبينَ يديكَ بكاءٌ طويلٌ".