نسمةٌ أقل - جواد بولس يكتب في ذكرى رحيل الدكتور سليم مخولي
بخفّة صديٍّ يلقّط حبيبات الندى عن أجفان فجر رحل، وهو الذي عاش النكبة غصّة سكنته فأوسعت صدره، تنفَّسها، كناي تئنّ لتحنو فبها يحلو النشيد ويكتمل "المقام"، تمامًا كرعشة الأخضر دقٌه في خاصرة السدى الأبيض أحلامًا ومدى فوهبه حياة ووهبتنا ريشته بردًا ودفئًا ومتعة. عاشها طمّاعًا كنحلة، فحوى ورد الرياض بشخصه.
من أوائل الطلبة العرب، ترك قريته، كفرياسيف، تجبّر عظامها وتساهم في ترميم جراح أخواتها وصعد إلى الجبال ليتزوّد بالحكمة. هناك في "أورشليم" غرف من نبع الغربة، قرويّا متأهِّبًا جريح وعد الأخوة الخائب يحلّ ضيفًا أخطأه القدر على من توهموا وما زالوا أنّهم صنّاع الأقدار، قدرهم وقدر غيرهم. ما تبدّل في غربة ولا بهت معدنه. زادته التجربة علمًا وأكثر زادته قناعة بأن الشفاء في اللغة وبأنّ الحياة تدق تفاصيلها بإزميلك أنت وليس لغيرك أن ينحتها ويهندسها ويحييها.
من هناك عاد وكلّه يقين أن النعمة لن تطفو ولن تزهر إلّا إذا أتقنت تزويج السين للام وأقفلتها بميم محكمة، فعندها سيكون الوعد سليمًا والحب سليمًا والعقل سليمًا.
من هناك عاد يرشح إيمانًا بأن الوطن رقعة من جسد ولن يفلح أحد بسرقته مهما جففت وديان واغتصبت تلال. الوطن رقعة يستحضرها الحكيم بروحه وبريشة مبدع يخلق الأمل ويورث الألم وتناهيد السرو للغمام.
من هناك عاد كما ترك، ابنًا لبيادر كفرياسيف عاشقًا لسِحْرها ولسَحَرها ولعائلة ألفت معنى الرجولة والوفاء والعزة. عاد وروحه تفيض نبضًا وطاقة وحبًّا لكل شيء جميل، طبيبًا تسربَل الأبيض ليمسح دمعة عليل ويزيح عتمة مَن مِن سهد تقرّح ليله وجفاه مرقده.
أصيلًا كأجداده الأوائل سعى إلى كمال. لم يكتف بحكمة تبرئ الأجساد وهي إلى فناء، فألحقها بنفحة من طيب وعنبر لتصير دواءً شافيًا لكل روح عليلة.
أجاد فنون الأزاميل جميعها، ذلك الذي يذبح حيّا ليشفي وليرتق ويريح، وذلك الذي يذبح حجارة لتدب فيها حياة وتجري في عروقها دماء.
بيني وبينه أقل من عقدين وعرض شارع. بيننا كذلك عقود من ياسمين وورد. من بيته أشع نور خافت حتى ساعات الفجر. كنّا، جميع جيرانه، شهودًا على السر، فها هو الطبيب يداوي الحرف بالحرفة وها هي القصيدة تولد من محنة ومن فرحة ومن حب. ها هي فرشاته تمسح الدمعة من عيني "بروة" وتحيلها وعود أمل وشروق، لأن الحكماء مثله فقط يعرفون أنه لن ينتصر فاتح على "حكيم" ولن يقوى موت على فنان مبدع عاشق للريش ولهديل الحمام.
لقد عشتَ في كفرياسيف وبقيت فيها لكنّك، ككل المبدعين، أكبر من المكان وأبقى من الزمان.
برحيلك خفت ضوء القمر في حارتي. برحيلك نقصت عِذاب النسيم نسمةً في قريتي. برحيلك ندمتُ على خسارتي لوعد بيننا سيبقى سليمًا حبيبًا علي وحسرة في صدري.
برحيلك رحل الطبيب وعاش دواؤه وانتصر. ما نحت إزميلك باق وسليم. ما رسمت ريشتك وفرشاتك باق وسليم. وما قرضته من شعر وقصائد باق قلائد سليمة على صدر الزمن.
جواد بولس