حين تصير لندن جالية - جواد بولس
بلكنة إنجليزية خالصة، يبلغنا قائد الطيّارة أننا سنهبط في مطار "هيثرو" قبل الميعاد بربع ساعة. فرحت، سنكسب في لندن مزيدًا من الوقت. من الشبّاك بدأت المدارج تكبر. ما كان يشبه خربشة طفولية رصاصية صار مطارًا عظيمًا. خلال ثوانٍ بدأت الأرض تهرب وتبتعد، خرطوم الطائرة صار كالسهم ينشد كبد السماء. "الطائرة ترتفع" همست بصوت مكبوت بوجه زوجتي. لم تعلّق فلقد سكن الخوف حلقها، بحركة عفويّة ضمّت ثلاثًا من أصابع يمناها ومررّتها على جبينها وصدرها، تمتمت كأنّها تحدّث أحدًا ما وأغمضت عينيها. بعد لحظات جاء صوت المضيفة معلنًا أننا لن نهبط، الطائرة عاودت إقلاعها وقائد الطيّارة سيحدّثنا بعد قليل.
كانت تلك الثواني برائحة ما روى أجدادنا عمّا أجاده الانجليز يوم حكموا بلادنا وفعلوا ما فعلوا. "نأسف من حضراتكم، لن يسمح لنا بالهبوط، لقد وصلنا قبل الوقت والمدرّجات مكتظّة، علينا أن نجوب في سماء لندن عشر دقائق"، ببرودة أذاع الصوت هذه البشائر. كأنّنا نجونا من كارثة، كم هشة أرواحنا! ما أخوفنا نحن البشر! بعض الركّاب شرع بالتصفيق، تظاهرت بعدم الاكتراث، وتشاغلت بالنظر إلى لندن من فوق. هبطنا بسلام، وكانت لندن ملكة بالرمادي.
اسمه هيثم، لن تخطئه، أسمر كصخرة منسيّة وقعت قبل الصباح من قمة الكرمل، أشعلها رذاذ البحر فمالت إلى خضرة فريدة، لونه لون الملاحة في بلادي. وقف في الصدر، مباشرة عند خروجنا من قاعة الوافدين، اسمي على ورقة حملها وبسمة كالمنارة. أسرعنا صوبه، ألقى بنفسه على صدري، كما يليق بمواعيد العاشقين. في سيّارته قص عليّ حكايته، حكاية الفلسطيني حفيد النكبة والتشرّد.
وصلنا لندن استجابةً لدعوة من السيدة سناء العالول، رئيسة مجلس الجالية الفلسطينية هناك، والمحامي جورج سعيد عضو مجلس الجالية التي بالمشاركة مع سفارة فلسطين وباشتراك مجلس اتحاد الجاليات الفلسطينية في أوروبا أقاموا مهرجانًا فلسطينيًا على مدار ثلاثة أيام خصّصت خلالها النشاطات وندوة عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. شاركت والوزير عيسى قراقع ورئيس نادي الأسير قدورة فارس، كذلك حضر والدا الأسير سامر العيساوي والأسير المحرر محمود السرسك. كانت أيامًا حافلةً. لقاء جميع الأخوة الوافدين من عواصم أوروبا أثلج الصدر. نوافذ للفرح شرّعت، وأحلام غرست بذورها. القوامون على هذا النشاط هم مجموعة صغيرة تعمل بهمّة لا تعرف مستحيلًا وبإمكانيات متواضعة. إصرارهم ضمانة ورصيد في حسابات فلسطين الجريحة. المهرجان حقق ما أقيم من أجله وسجّل قسطًا وافرًا من النجاح. على هامشه أود أن أسجل على وجه التخصيص تلك "اللفتة" التي بادر إليها المنظمون حين قرروا دعوة بعض من مناصري القضية الفلسطينية الأوروبيين لتكريمهم والإعلان عنهم أصدقاء للشعب الفلسطيني. برز من بينهم عضو البرلمان البريطاني لسنوات طويلة "الشيخ طوني بن" وكذلك عضو البرلمان البريطاني القديم الجديد "جيرالد كوفمان"، معهما كرّم المنظمون أربعة مواطنين إيطاليين أبرزهم كانت عضوة البرلمان الأوروبي والناشطة صديقة فلسطين "لويزا مورغانتيني".
خطوة تكريم هؤلاء خطوة هامة واختيارهم لتلك الشخصيّات كان خيارًا حسنًا. وقع هذا القرار كبير وتأثيره مؤكد، علاوةً على رجاحته الأخلاقية. أملي أن يتحوّل هذا الفعل إلى إجراء ممنهج، وممأسس، وأقترح على المسؤولين الفلسطينيين تأمين الكفاءات والإمكانيات لتنفيذ هذه المهمة بما يكفل نجاحها على مساحة أوسع، الاسترشاد بتجربة جالية لندن وشركائها ستفيد، فبداية من الواجب إقامة هيئة إليها تعهد هذه المهمة. الشروع بتجميع أسماء شخصيات ناشطة مع القضية الفلسطينية للتواصل الدائم معها وللتوصيل بينها، ومن ثم الاتفاق على تحويل ما حصل في لندن إلى حدث سنوي يجزي من هم أكْفاء له، وتبقى فلسطين "حصّالته" الوحيدة.
لن تكفي هذه المقالة لتنقل بأمانة أحداث تلك الأيام في لندن ونبضها، حلوها ومرّها. لكنّني أذكر تلك الليلة التي اجتمعنا فيها على وقع نبأ عن إحدى الكنائس الكبيرة التي اتخذت رئاستها قرارات تنصف فيها القضية الفلسطينية، وتنبذ بذلك موقفها السابق، حيث كانت تنادي من أجل دعم إسرائيل والحركة الصهيونية. لقد تبيّن أن عددًا متزايدًا من الكنائس في أوروبا وأمريكا أبدت مواقف معاضدة للفلسطينيين، وبعض هذه الكنائس بدّل عمليًا دعمه التقليدي لإسرائيل إلى وقوف إلى جانب فلسطين والفلسطينيين.
كان بيننا إجماع على ضرورة متابعة هذه المسألة بشكل صحيح وفوري، واتفقنا على ضرورة إقامة هيئة خاصة تكون مسؤولة عن تركيز هذه المسألة والاهتمام بها. بات واضحًا إن ما تفعله فلسطين في هذا الشأن غير صحيح، غير كاف وغير مهني، وهو يفسد علينا كثيرًا من الدعم المهم والمؤثر. لقد ذهب بعضنا إلى القول إن هذا الملف قد ينقذ القدس لأن ملايين من المسيحيين لن يرضوا بأن تهوّد، فلندعهم يصرخون في وجه ما هو حاصل ريثما تفيق ملايين العرب والمسلمين من سباتها أو حروبها.
للندن في ذاكرتنا الجمعية أمكنة للوجع، أذاقنا ساستها الحنظل والخديعة وحوّلها ساستنا إلى حوافز لعقدنا فغدت في مأثورنا مرايا للسخرية والتهكم عن مرابط لحكام خانوا. وإذا استمرت لندن تلك هناك في دهاليز السياسة والساسة فإنني أشهد أنّنا وجدنا لندن الأخرى؛ لندن التي يبرز وجهها الآخر سناء وسعد وهدى، فلندن هذه تركناها على موعد وأمل وجالية تحلم بوطن.