تجرّعتَ كأسَ الموتِ وأنتَ صابرٌ - في ذكرى طيّب الذكر الطبيب الإنسان جبور جريس جبور خوري - بقلم جاسر داود
الله يسعدَك بجنّة النعيم آمين - جاسر الياس داود
وَضعتَ رأسكَ على الوسادة المُخمليّة التي تعوّدتَ عليها في النوم،لكنّك لم تشعر بالراحة التي كنتَ مُعتاداً عليها بالسابق،إذ كنتَ تغفو فوقها والإبتسامة تعلو فوق شفتيكَ،لمساعدتك المرضى في ذلك اليوم،أو لأنّكَ قرأتَ شيئاً أو فقرةً أو كتاباً كعادتكَ في تثقيف نفسك أدبيّاً وعلميّاً،إلى جانب ثقافتكَ في مجال الطبّ والصحّة السليمة،أو تفكيركَ في إسعاد الجيل الصاعد عن طريق المخيّم الصيفي،الذي كنتَ تُخطّط له دائماً أنت وأصدقاؤكَ في نادي المحبّة بعبلين،أو لِعظةٍ وعظتها لأحد أبنائك المطيعين لكَ، كما ربيتهم أنت وشريكة حياتك أطال الله بعمرها.
وضعتَ الرأس على الوسادة والعقل يُفكّر ويقول:أسعفْتُ الكثيرين ممَّن طلبوا أو كانوا بحاجة للإسعاف الطبّي،ساعدْتُ في وقتٍ قلّت المساعدة في هذا الزمن المادي،الذي يفتقر لأمثالي الروحانيين،الذين يُفتّشون على إسعاد الآخرين إلى جانب إسعاد أفراد عائلاتهم ومن ثمّ أنفسهم.
نعم،يا طبيب الإنسانيّة،صلّيتَ وتضرَّعتَ للخالق أن يعبُرَ كأس الموتِ من فوق جسدكَ وحال لسانكَ يقول:يا ربّ لم أشفِ بعد كلّ الذين بحاجة للإسعاف منّي أو بعلاجي،يا ربّ لم أتمّم بعد واجباتي الزوجيّة والأبويّة لأفراد عائلتي،يا ربّ هناك أجيالٌ تنتظر الإرشاد في هذه الحياة،لكي لا يتحوّلوا إلى ذئاب تصطاد الفرائس لضعفها في هذا الزمن الذي لا يرحم.
نعم،يا أبا جريس،فكّرْتَ بكلّ هذا،إذ كان نهجكَ في هذه الحياة،وعرفَ عنكَ كلّ مَنْ جالسَكَ وسار معكَ في مشواركَ الثقافي – الإنساني في هذه الحياة.
عَرَفتكَ في حياتكَ،وأذكُر حين دخلتُ لعيادتك وأنت جالسٌ تسمع كعادتكَ فيروزيّاتك بصوتٍ منخفض،لتحلَم وتغوص في أفكاركَ البنّاءة لهدفٍ نبيل في الحياة الصاخبة والكثيرة الإلتواء،أهديتُكَ كتابي بعد أن كتبتُ لكَ كلمتي،فابتسمتَ وقُلتَ: الليلة سأقرأه،إنّه سيرة القديسة مريم بواردي،فهذه كنز لعبلين وللإنسانيّة.
بعدها دار الحديث حول مشروع يُعيدُ أو يُبقي الذاكرة في عقول أبناء الأجيال القادمة.في داخلك عميقاً كان التساؤل: مِن أين نحن قبل النزوح إلى عبلين؟!!!
فتَّشتَ كالطفل الذي يبحث عن أمِّهِ،فأدركتَ بأنّ هناك سيرة طويلة في داخلها أحداث وصور لحياة طمرها الزمان ومحتها الأيّام ولكن ليس بأكملها.
بدأتَ بمشروعكَ وأنت تُقاوم المرض الذي لم يشفع بك،بالرغم من تقديمكَ الكثير والكثير لِمرضاكَ ولكلّ مَنْ طلب المساعدة منكَ دون تأفّفٍ أو ملل،بل بالعكس كنتَ تسعدُ لتقديم المشورة والمساعدة لوجه الله تعالى.
كان يشعُّ من عينيْكَ وأنتَ تفكّر بمشروع إحياء الذاكرة للقرى والبلدات العربيّة المُهجّرة،شعاع الأمل بالمُحافظة على ذكريات هذه الأماكن،لأنها جزء من تاريخ شعبنا العربي الفلسطيني في الأراضي المقدّسة،فحَملتَ آلة التصوير وتنقّلتَ من مكان إلى آخر،والمرض يُطاردكَ لكنّكَ لم تبالِ،فأردتَ قهره بالصمود كعادتكَ في هذه الحياة،واستطعتَ أن تتركَ للأجيال القادمة " ذكريات الجذور الفلسطينيبّة ".
لم تعبر الكأس كما تمنّيتَ وتمنّى لكَ كلّ مَنْ عرفكَ،بالرغم من الصلاة التي رفعوها للخالق،فنِمتَ على وسادتك المُخمليّة وأنتَ راضٍ بحُكم الخالق، لأنّكَ إبن عائلةٍ أحبّت الكنيسة وعملت بحسب طقوسها وأسسها المُقدّسة.
لم تعُد حجارة الطنطورة المُهجّرة لتضحك،كما تعوّدَت عندما كُنتَ تحضر أنتَ وأعضاء نادي المحبّة العبلّيني (المرشدون) والمشتركون بمخيّم نادي المحبّة إليها،ليقضوا أسبوعين من العمر الذي لا تمحوه السنون.
الأشجار بظلالها حزينة حانية،لا تعرف ما تتحدّث به،لأنّها لم تعُد لتسمع صوتك وأنتَ تُحاور أبناء المخيّم هناك،والأزهار ذابلة حزناً وألماً عليكَ،فقد عَرَفتَ قيمة عبيرها الفوّاح،فقُمتَ بتكرار العودة إليها صيفاً مع أبناء المخيّم،لتُحيي فيها روح الحياة بذهابِكَ وإيابك بينها،تتنقّل من هنا إلى هناك أباً حنوناً على أبناء المخيّم.
زرَعتَ في قلوب المشتركين من الطلاب في نادي المحبّة جسور المحبّة الصادقة،إذ عَرَفتَ بأنّ الحياة في بلدتنا الغالية عبلين،يجب أن تستمرّ كما أرادها لنا الأجداد والآباء،حياة محبّة وودّ وشراكة ومشاركة.وهذا كان استمراراً لعلميّة الجسور الإجتماعيّة،التي بدأتَ تعمل بها أنت وأعضاء نادي المحبّة،وكانت عبارة عن حلقات إجتماعيّة تثقيفيّة،تغرس من خلالها في قلوب طلاب المرحلة الإعدادية محبّة الإنسان العبليني وغيره،وتُنمّي بقلوبهم ذرّة الإنتماء للوطن الصغير عبلين،لينطلقوا منه إلى محبّة الوطن الكبير،الذي دخل فكركَ وقلبكَ منذ نعومة أظفاركَ.
أنت يا أبا جريس زهرة في روض الحياة الحيّة،والتي لا ولن تذبل أبداً،فعبيرها فوّاح وسيبقى.
فإلى عائلتك الكريمة وأهلك وأقاربك ومعارفك والأصدقاء التعازي القلبيّة،وإلى جنة النعيم يا طبيب البلدة والله يسعدك آمين. أنتَ تُحاور أبناء الخيّم هناك،أنت
31/5/2013م - عبلين