مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

وَيَبقى القمحُ يانعاً يا أبا الشادي - في ذكرى أستاذي المرحوم حنا كامل عويّد

0.00 - (0 تقييمات)
نشرت
657
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

وَيَبقى القمحُ يانعاً يا أبا الشادي - في ذكرى أستاذي المرحوم حنا كامل عويّد

 

سقط عامودُ وعُمْدَةُ البيت، لكنّ رائحته الزكيةَ بقيت وستبقى فواحةً في كلِّ ناحيةٍ وَطأتْ رجلاهُ ترابَها،وصدح صوتُهُ الجهورُ يرسمُ على اللوحِ زوايا المثلثِ المبهمِ لتلاميذه،وهو يرشدُهُم الى حلِّ المبهمِ منهُ.

نعم كُنتَ جاداً في تعليمِكَ،صارِماً في مسارِ تصرفاتِ طُلابِكَ،صديقاً لهم في المناسباتِ والرحلاتِ،وهذا عرَفناهُ عن قُرْبٍ حينَ كُنّا معلمينَ في المدرسةِ الثانويةِ التابعةِ للمجلسِ المحليِ في منتصفِ السبعيناتِ وأوائِلِ الثمانيناتِ من القرنِ الماضي.

كُنْتَ في غرفةِ المعلمين لتستريحَ بينَ الدرسِ والدرس،وكانَ أحدُ الطلبةِ يطلبُ الإذنَ منكَ ليسألَكَ سؤالاً،فكنتَ تنهضُ عن الكرسيِّ بسرعةٍ ملبياً الطلبَ،فتشرحُ لهُ المسألةَ برحابةِ صدرٍ،ثمَّ تليها كلمةُ الشكرٍ من الطالبِ،فتقولُ كلمتَكَ التي عوَّدْتَ طلابَكَ عليها:أهلاً،والابتسامةُ تعلو شفتيْكَ.

نعم يا أبا الشادي،عرَفتُكَ عن قُربٍ كتلميذٍ لكَ،لم تُهادِنْ أبناءَ بلدتكَ حينَ درَّسْتَ في الكلية الأرثوذكسية العربية بحيفا،بل أردتَهُم أنْ يكونوا أسوداً في غاب هذه الحياة،فكنتَ الأبَ والأخَ لهم،تسيرُ معهم في ساحةِ المدرسةِ وأنتَ صاغياً لكلامِهِم ومشاكِلهم التعليميةِ،ومما كنتَ دائماً تقولُ لهم: لا تنسوْا بأنَّ آباءَكُم يعملون في الأرضِ في الشتاءِ قارصِ البردِ وفي الصيفِ شديدِ الحرارةِ كي يعلموكم،ولكي تخرجوا الى الحياةِ بالمستقبلِ ومعكُم زادُ الحياةِ الذي لا ينقصُ.

لم تكن لتقطعَ حبالَ الوصلِ بينكَ وبينَ طلابِكَ حتى في حالةِ لفتِ نظرِ هذا الطالبِ أو ذاك الى تصرفاتٍ لم تعجبْكَ،فكنتَ تقولُ لهُ الكلماتِ التربويةَ محذراً إياهُ من هذا التصرفِ،ثمَّ تبتسمُ لأنَّ الطالبَ تعلَّمَ  شيئاً في هذهِ الحياةِ،وأصبحَ جاداً في الدراسةِ.

زرعتَ حبَّ العلمِ في نفوسِ طلابِكَ من خلالِ تعاملِكَ معهم ومع زملائِكَ المعلمين،لم تدَّخرْ جهداً في الشرحِ والتفصيلِ حتى تتأكدَ من أنَّ طلابَكَ قد فهموا المادةَ.

كنتَ أباً وعمّاً وخالاً حنوناً على أبناءِ عائلتِكَ وأقارِبِكَ،لم تُفَوِّتْ أيةَ مناسبةٍ لهم،فكنتَ من أوائلِ الحاضرين والمستقبلينَ للضيوفِ والمهنئين،طارحاً جانباً كلَّ اختلافاتِ الرأيِ والمشاكلِ،وقائلاً:كُلُّهُ بِنْحَل،المهم نقوم في واجب هذا وذاك،لهذا أحبَكَ أقرباؤُكَ وقدَّروا لكَ هذا التصرفِ،وكانوا دائماً يقولونَ:عمنا وخالنا حنا عظيم،فقلبُهُ لا يعرفُ الحقد بالرغمِ من الوهْنِ والمرضِ الذي ألَمَّ بهِ.كنتَ تقارعُ هذا الداءَ بالمحبةِ،وكنتَ تغمرُ هذا القلبَ بالأمواجِ والمياهِ النقيةِ،كي تروي بها تعاملَكَ مع الآخرين.

لم تدَعِ التقاعدَ ليكسرَكَ ويحبط َمن عزيمتِكَ،بل كنتَ عنيداً ومُحِقّاً في هذا العناد، فاستمريتَ في التعليمِ والتعلّمِ،تؤلفُ الكتبَ في مجالِ الهندسةِ والرياضيات،لتُسهلَ الموضوعَ على طلابِكَ.لهذا سيذكرُكَ طلابُكَ بهذا العملِ المفيدِ،ليس آنياً أو زمنياً بل على عشرات السنين.

هذا هو المربي الذي أحبَّ أولادَهُ "الطلابَ" فبادَلوهُ هذا الحبَّ والاحترامَ،إذ كانوا يصافحونَهُ وهم مبتسمونَ ويقولونَ بصوتٍ عالٍ : أستاذ حنا علّمنا.

نعم هذا هو القمحُ اليانعُ الذي أعطيتَهُ ومنحتَهُ لأبناءِ مجتمعِكَ العربي في هذه البلاد،وسيبقى يانعاً لأنكَ تركتَهُ ولحقتَ بركابِ الراغبينَ برضا الله في تذكارِ القديسةِ بربارة،كي تحتفلَ معها بتناولِ حباتِ القمحِ في السماءِ.

إفرَحْ يا أبا الشادي بسرِّ هذا الإنتقال ِالذي لا يعرفُ كُنْهَهُ إلا الله عزَّ وجُلَّ،إنعَمْ بهذا النصيبِ وهو محبةُ الناسِ لكَ في هذه الحياةِ وما بعدها،إنعَمْ برضا الأقاربِ والأحباءِ،الذين قدَّروا لكَ أعمالَكَ واحترامَكَ لهم،إنعَمْ بجنةٍ لا ينعمُ بها إلا المؤمنون.

وأنتَ يا شادي لقد تَرَكَ لكَ والدكَ أماناتٍ غالية على قلبهِ وقلبكَ،الأمُ والأخوات،صُنْها كما صانَها والدُكَ كي تبقى في رضا الله عزّ وجلّ وفي رضا الوالدين.

وأنتِ يا أم شادي،لقد أحبَّ ابو شادي الحياة بأفراحها وأرادَ لكِ ولأولادِكِ السعادةَ،فاعملي وتعاملي معهم كما ارادَ والدهم هذا،لا تجعلي الحزنَ والقهرَ يسيطران على حياتكم بل حولي هذا الحزنَ الى غبطةٍ وسعادةٍ كما أرادَها لكم ابو الشادي.

ولتَبقى حباتُ القمحِ التي زرَعتَها في حياتِكَ يا أبا الشادي يانعةً الى الأبد.

فليكُنْ تذكارُكَ مؤبداً والى جناتِ الخلدِ يا أستاذي  حنا.  

الله أعطى الله أخذ فليكُنْ اسمُهُ مبارَكاً الى الأبدِ.

تلميذُكَ

جاسر الياس داود

657
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

جاري التحميل