عهدك بسّام - جواد بولس
يا عَزْمَةً تُنبيكَ خَطْوَ رِجالِنا في يَوْمِ جِدِّ
بَتَروا لَكَ السَّاقينِ لكن سوفَ تَمْضي ثُمَّ تَفدي
(فاروق مواسي)
منحت جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس شهادة الدكتوراة الفخرية في العلوم السياسية لقائد من قادة فلسطين الحقيقيين وابن نابلس النبيل المناضل بسام الشكعة.
دعيتُ لحضور الحفل والتشرّف بكتابة نبذة عمّا تجود به ذاكرتي عن تلك الأعوام المجيدة، يوم كان "البسام" عنوانًا وأبًا للنضال وأكثر. حالت ظروفي عن التشرّف بحضور الحفل وها أنا اليوم أعترف بندمي وتقصيري، فمثل هذه المناسبات أولى ولبقية الأحداث ما قُدّر من عمر وأيام. منك أيّها الأخ الكبير المعذرة وفيك من النبل ما يسعف والكرم ما ينقذ.
كان ذلك النهار من شهر آب حارقًا. شمس الجليل لا تساوم. سيّدة النهارات والعرق. في ساحة قريبة من كنيسة القرية وقفت وبضعة أصدقاء وأقارب. كنّا ننتظر وصول قافلة السيّارات التي رحلت منذ ساعات إلى "كفركنا" كجاهة تطلب وترافق من ستصبح شريكة حياتي ومن سيرافقها في مراسم "الإكليل" وهو طقس تزويج الكنيسة لرعاياها المولودين على دين الصليب.
فجأةً اقترب منّي ابن عمّتي، على وجهه علامات من دهشة. اندفع بجسمه القوي صوبي وأطلق باغة من الجمل، لم أفهم منها إلّا ما طن ورن: "ابن خالي، بسام الشكعة هون، من هناك جاي على العكاكيز.. " أشار بيده نحو النور وفتّش عن قليل من هواء، لم يجد. سمعته يلهث "يجب أن أحمله على كتفي..".
هكذا اندفعت الذاكرة، عندما هاتفني "هيثم" وأخبرني عن الاحتفال المقرّر. عدت الى ثلاثين عامًا خلت. أذكر أنه كان عائدًا من رحلة علاج في فرنسا. كان متعبًا لكنّه النبيل، أبى إلّا أن يشاركنا تلك الفرحة في كفرياسيف. حضر المراسم الطويلة في الكنيسة، واقفًا بسّامًا مشاركًا العائلة والقرية التي فرحت به وسجّلت ذلك اليوم كيوم من أيامها البيض.
كنت محاميًا في بداية طريقي، التي بدأت كَقَدَر واستمرّت كمهنة ورسالة، حين تعرّفت على كبار فلسطين في تلك الأزمان. كطالب نشيط في الحركة الطلّابية بدأت أتعرّف على جيل القيادات الفلسطينية في وقت مبكر، ثم في مكتب المحامية التقدمية الشيوعية فيليتسيا لانجر كنّا نلتقي وقادة الحزب الشيوعي الذين كانوا الجسر مع من قاد النضال ووقف في وجه عنتريات إسرائيل في تلك الأعوام.
لن تكفي هذه المقالة لسرد ما شهدته وواكبته من أحداث عقدين من زمن كان فيه بسّام الشكعة عنوانًا للنضال الوطني وهدفًا للتنكيل الإسرائيلي. يبكيني أن لا تعرف أجيال اليوم كيف عاشت فلسطين سنوات القهر تلك وكيف صمد أبناؤها وفوّتوا على إسرائيل وحلفائها فرص وأد الحلم الفلسطيني بالتحرر والاستقلال.
حاولت إسرائيل بكل وسيلة وحيلة أن تحدَّ من تأثيره وفعّالية دوره النضالي. بداية من خلال معادلات نابلسية محلّية. فشلت وبقي بسّام رقمًا وعلمًا لا يستثنى في حدث ولا يغفل في ديوان. أشاعت أنّه بعثي وولاءه دومًا لسوريا وللعروبة على حساب فلسطين والوطن، فأثبت خبث المشيع وحماقة القائل. انتخب لرئاسة بلدية نابلس عام ١٩٧٦، وشكّل مع زملائه من رؤساء وطنيين منتخبين ضمانات حقيقية للمشروع الوطني الفلسطيني. قالوا عنه: ارستقراطي ابن عائلة مترف. وقف في طليعة المواجهة. كذبوا وخسروا. أقام مع رفاق ذلك الدرب "لجنة التوجيه الوطني"، دعامةً للمشروع الوطني الفلسطيني ولتثبيت دور منظمة التحرير الفلسطينية وما عنته وحدانية التمثيل في ذلك الحين وما زالت تعنيه لليوم.
شكّل أبو نضال فريق عمل هامًا، وكان مع رفيق دربه الراحل الكبير وحيد حمدالله رئيس بلدية عنبتا بمثابة خليّة لا تنام ولا تهدأ. علاوة على ما أنيط بهما من مهام وطنية جسيمة تابعا بشكل علني وسري جميع قضايا مصادرة الأراضي في بداية الثمانينات. سهر الاثنان على جمع المعلومات ورصد خطط التصدي للهجمة العاتية. كنت في تلك الأعوام معتمدًا من قبلهما فتولّيت ما أوكلاني به من مئات القضايا. انتفضَ عند سماع كل أمر مصادرة أو خيانة خائن ضعف وباع ذمّته وأرضه. في ذلك الوقت لم تكن الخيانة وجهة نظر.
عرفوا أهميّته ومدى تأثيره. فشلوا في إسكاته وثنيه عن مواصلة ما كان يقوم به في ميادين القيادة والنضال المتعدّدة، فحاولوا منع الناس من التواصل معه. وضعوا على باب بيته حاجزًا، كانت مسؤوليته التنكيد على من يخرج من بيته وأكثر على من يدخل. أرهب الجنود كل زائر، سجّلوا الأسماء وتفاصيلها ولاحقوها. ولكن كثيرين كانوا شرفاء لم يرتدعوا ولم يتخلّوا. تحدّوا وتواصلوا وبقيت الدار عنوانًا وبقي بسّام أبًا للنضال.
انتمى "بسام الشكعة" إلى فلسطين ولم يساوم. أخضع لها كل انتماء مهما غلا وعلا شأنه. شكّل ورفاقه مظلٌةً وسقفًا وطنيًا يحمي من يلجأ إليه ويلمُّ من تاه وكبا. أقاموا مناخًا من القيم: التضحية سمو. للعطاء معنى. للوفاء عهد والعرفان واجب ودين. تحدوا بكبرياء أحرار غطرسة البارود وجنازير دبابة الفاتحين فوصلت تلك إلى عتبات بيته. حاول القتلة أن يغتالوه فأصابوا ساقيه وروّت دماؤها تراب نابلسه.
عملت معه لسنوات طوال. شرّفني ذلك اللقاء والعمل. عن ذلك التاريخ سأكتب يومًا ما تستحق يا أخي الكبير وما يستحقه من كانوا معك في السرّ والعلن. فمثلكم كانوا ضمانات لفلسطين الدولة وللحرية والعدالة ومثلكم علّمني أن بعض القيادات حين تفتقد تترك وراءها فراغًا وبعضهم يترك هوّات سحيقة.
شكرًا لجامعة النجاح الوطنية على ما قامت به. بعضٌ من حق يوفى لصاحبه، ورسالة تعلن لأبناء جيل "اللايك" و"التويتر": للكرامة جذور وتاريخ، للنضال آباء وجدود. فليسبروا غور هذا البحر وليتعرّفوا على من كانوا خيرة الملّاحين. فقد كان عهدهم بسّامًا.