كم أخشى هذا الأمل – من وحي ساحات رام اللة - جواد بولس
على غير عادتي، أفقت اليومَ ولم أسرع في مغادرة البيت لأتجه إلى حيث أعمل في رام الله. لا من كسلٍ تلكأت ولا مِن غنج مَن ولِدَ في أيلول، بل حاولت التأكد أنّ طريقي "سالك" وأن جيش الاحتلال لم يغلق حاجز "قلنديا"، فمنذ الصباح الباكر التقطتُ بعض الإخباريات التي أفادت أن "محور قلنديا" معطّل ولن أقدر على دخوله. انتظرت حتى أصبح الانتظار لا يطاق وأقرب إلى عقوبة لا مبرّر لها.
عليّ أن أصل رام لله، فإدمان العمل، لمن هو في عمري، صحّة وعلاج، وهو أوفقُ عندما تلازمه فائدة ويصاحبه نفع لشريحة لولا ما قدّمته في تاريخ فلسطين ما وصلنا إلى أيلول وما "نيزَكَ" أمل. فالعمل مع ومن أجل أسرى الحرية والأمل هو رسالة نحاول نحن في "نادي الأسير الفلسطيني" أن نفيها بعض الحق والواجب.
لكن رام الله اليوم محطتي لأنٰني أريد أن أكون مع آلاف من بنات وأبناء فلسطين، بدأوا منذ ساعات الصباح الباكر يتقاطرون من فضاءات رام لله، من كل قرية وخربة وحي إلى صرح صاحب الوعد والحلم، فاللقاء في ظلّه والمسيرة من هناك ندىً على صبح ياسر وإيفاءً لوصيّة "معلم العْمَار" يحملها البنّاؤون إلى أن يزهر الأمل وتقوم دولة فلسطين.
أغادر بيتي وبعد دقائق أصل حاجز قلنديا. لوهلة خيّل لي أنّه مهجور. لا مركبات تتنافس وتحشر كالسيوف في غمد ولا راجلين يتهيأون لرحلة عذاب ومهانة في علب مدهلزة غدت علامات تعريف لمحترفي القمع والإذلال العصريين. الحاجز مغلق ولكن دخول رام الله جائز باستدارة خفيفة ورشيقة لمن أدمن المكان وخبِر مفارق الخطر.
الشوارع المؤدية إلى دوٌار الساعة مغلقة في وجه المركبات. طوابير من شعب تحث خطى الصباح وكأنها على ميعاد مع نسمة أو خوفًا من خسارة غيمة أو فوات المشهد والصدارة. أطفال بعربات الوليدين وشيوخ يتكئ بعضهم على ذكريات شباب ولٰى وآخرون على بسمات السماء التي كانت كلّها فلسطينية السمات والقسمات. أجيال كفيلة بأن تغطي سنيّ رزنامة التاريخ، منذ بدأ بوعكة وتحوّل إلى وخزة وتجلٰى بنكبة وتعرّى بنكسة.
أجيال، مرايا تشهد على التنهيد المباح والحسرة وتصرخ بألم دفين وأمل يتولّد وعزة كالمسنّات، هكذا بدت شوارع رام لله كالشرايين لكن لا دماء ولا أنين، تنبض وتنبض ولا يفوح غير عرق الفرح ولا يتطاير إلا بريق عيون العاشقين والحالمين.
جموع ملأت رام لله بعهد جديد وصلاة. فلسطينيون يحيون أملًا كادت سكرة الدم أن تضيعه وطيور الظلام أن تدفنه تحت ركام الكلام وهزال النشيد وما صدئ من سيوف وخناجر!
نعم في رام لله كان الأمل طافحًا إلى حد الخوف. خوف عليه لا منه. في رام الله لم ينتظر أحد ما ستفعله إسرائيل لأنها، ستخسر لا محالة، هكذا أكدت "الكلمة" وهكذا ستكفل حكمة الفلسطيني معززة بسطوة الحق وعهد المؤمنين والمؤمنات. وفي رام لله لم يتوقعوا خيرًا من أمريكا ولا من أتباعها، فهؤلاء آثروا وتعوّدوا على الخريف ولهم ستبقى صفرة الأفق، أما لفلسطين وشعبها فستبقى حمرة الربيع وخضرة السنابل وزهر اللوز وأكثر.
في رام لله كان من يحب "الرئيس" ومن لا يحبّه. في رام الله كان من يصلي مع الرئيس ومن خلفه ومن بجانبه ولكن آخرون مِن مَن ليسوا على دين "محمود" كانوا كذلك. في رام لله كانت حكمة ونضوج وقبول بما يقوم به "الرئيس" ومن معه في القيادة. كانت كذلك قناعة بأن ما يجري الآن لم يكن إلّا تتمة لمسيرة طويلة وحكيمة جعلت من "فلسطين" كيانًا ذا جهوزية ليكون دولة عصرية مقبولة في عائلة الشعوب.
هناك في دوار الساعة كانت وجوه مشرقة كاشفة مضيئة، لا لثام ولا بنادق مشهرة في وجه الردى والقدر والآخرين. جموع، هكذا يبدو، قبلت وقنعت بما قاله وردده رئيس وقيادة ماضون بخوض معركة الحق وإعلان الدولة وقادرون على مراكمة التأييد والنقاط لصالح قضية غبن وما زال حقها مغموطًا.
كان النهار مميزًا في فلسطين فالآلاف استنفرت وملأت شوارع المدن والقرى بالزغاريد والأناشيد والأمل. فلسطين، اليوم، كانت الحبيبة وكانت الخيمة والوعد. ورام لله اليوم امتلأت بأبناء الأرض، أناس عاديين توافدوا من غبطة وفرح وسرور بالوعد ورائحة الفجر القريب ولذا لم يأبهوا لخطباء جاؤوا ناقلين التحيات والعهد والطمأنة ولم يصغوا إلا لنبضات قلب الحبيبة وأناشيد "العاشقين" الأبديين!
كم كان الآمل وديعًا وكبيرًا وخفّاقًا وعاديّا في رام لله ... فهل سيزهر هذا ويضوّع شذاه على روابي فلسطين ووهادها؟ كم أخشى هذا الأمل.