مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

اثنتا عشرة ساعة في مطار هيثرو - بطرس منصور

0.00 - (0 تقييمات)
نشرت
798
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

اثنتا عشرة ساعة  في مطار هيثرو - بطرس منصور

مضيفي الانجليزي قلق. رغم برودة الانجليز المعروفة لكن آثار التوتر تظهر في كلماته. "يتوقعون عاصفة ثلجية اليوم ويجدر بي أن اقلّك الى المطار باكراً وأستعجل بالعودة قبيل إغلاق الطرق". برودة الطقس كسرت جليد الطبع الانجليزي. لم اولِ الأمر أهمية اذ اختبرت كذب رجال الارصاد الجوية، ولو صدقوا . لم انس  كيف أغرقنا الاعلام في إسرائيل بتوقعات الطقس المتطرف المتوقًع قبلها بأسبوع، وكيف خاب أملنا اذ لم نحظ في الناصرة الا بندف خفيف للغاية من الثلج. لكنها انجلترا هنا، إنها بلاد الضباب والشتاء والبرد.

فعلاً ابتدأ سقوط الثلج في ساعات الصباح الباكر واكتست الارض بحلّة بيضاء خلال دقائق معدودة. حين يقولون "ثلج" هنا، فعلاً يسقط ثلج. التقطت بعض الصور للذكرى اذ لا تتاح فرصة لأعرابي مثلي أتى من بلاد الشرق أن يختبر الثلج .

نسافر باتجاه المطار. الشوارع مفتوحة ولكن اللون الابيض يغطي كل شيء. الضباب والجو المكفهر يمنعان رؤية الثلوج بمظهرها الخلّاب.

نصل مطار هيثرو في لندن. برد قارس في الخارج. مع هذا البرد ما كانت خيولنا لتجد مرابطها في لندن، كما غنى العرب. فخيولنا مثلنا لا تصمد أمام البرد. ألسنا شعباً  انحدر من الصحراء والتحف السماء وعدّ النجوم في ليالي القيظ؟ وداع قصير ويعود صديقي أدراجه. أدخل باحة المطار الدافئة. لا بدّ ان عبدة النار اتوا من هذه الامكان الباردة.

أسرع للشاشات المطرزة بلوائح الطائرات المغادرة. عدد كبير من الرحلات قد ألغى. لسعادتي، سفرتي الى سان دييغو قائمة. لكن موعدها بعد 5 ساعات. أزور حوانيت "الديوتي فري" وأجرّب عطرًا جديدًا من نماذج العطور الجميلة. تسمع بين الحين والآخر اعلاناً في مايكروفون المطار بالعربية: "إن الحقائب التي بدون سيادة سيتم اتلافها". إن كان العرب أنفسهم بدون سيادة فكم بالحري حقائبهم! أتفقّد أحوال بقية الحوانيت التي تشتم منها الغنى والوفرة والبطر، فحتى ثلج بريطانيا لا يطفئ نار أسعارها.  أعود إلى حانوت العطور، إلى رشة مجانية جديدة. أتعمّد تجنّب محلات هارودز والبارباري ذوات الاسعار السفّاحة. "لا عين تشوف ولا قلب يحزن". لن أشترى شالاً ب-230 ليرة استرلينيّة، ولو لبسه وينستون تشرشل، أو الامير وليم أو حتى وين روني نفسه.

أفحص الشاشة مرة أخرى، فاذا بهم يعلنون تأجيل موعد السفر بثلاث ساعات. كفشة خلق- ابحث عن مكان لتناول طعام الغذاء. عجيب كم تكون معرفتنا بالانجليزية ضئيلة حين يقدمون لنا لائحة الأطعمة! هل يتعمدون استخدام كلمات لا يفهمها غير الانجليزي؟ أختار وجبتي بحسب السعر المعقول وبحسب كلمة واحده في اسمها نجحت في سبر غورها. الوجبة جيدة.

أعود للتجول في المطار. مفعول رشة العطرالسابقة قد ولّى، فأرش صنفًا آخر. أفلح بالارتباط بالانترنت وأفحص الفيسبوك طبعاً، والرسائل الالكترونية التي وصلتني.

موعد السفر يتأجل مرة اخرى حتى التاسعة مساء، والدقائق تمر بطيئة. تنتشر إشاعات أن الرحلة ملغية، ثمّ تتأكّد الاشاعات.

المسافرون يتوجهون بأدب ونظام لباحة أمتعة السفر لاستلام حقائبهم ومن ثم ترتيب مبيتهم في تلك الليلة، ريثما تتوضح الصورة ويتم إدراجهم في رحلة أخرى في اقرب فرصة.

الآف الناس تنتظر حقائبها على الاشرطة المختلفة، والطابور يمتد لعشرات الامتار من مسافرين ينتظرون فرصة لمحادثة موظفي شركات الطيران. لنضع الامور في نصابها: أنا متواجد في إحدى أرقى دول العالم والتي تفتخر بذاتها وقدرتها وعنفوانها، دولة قد تنكّرت لجذور إيمانها القديم وأدارت ظهرها لله ووسط كل اعتدادها بنفسها وفخرها بقدرتها يأتي قليل من الثلج ليشلّ حركتها، وتعمّ والفوضى أرجاء مطارها الرئيسي، وتسود في البلاد عامة. انها نقطة للتفكير.

الشاشة الغبية للرحلات الجوية تطلب من الذين كان من المفروض أن يسافروا الى سان دييغو التحلي بالصبر، في الوقت الذي تعلن فيه لآخرين ممن ألغيت سفرتهم التوجة لشريط ما لتسلم حقائبهم. فجأة يختفي اسم رحلة سان دييغو كليّاً. ما الخطب؟ هل ضاعت الحقائب؟ هل سافرت الطائرة بدوني؟ لماذا اخفوا سان دييغو؟ هل هي مؤامرة ضدي لأني عربي؟

كثير من المسافرين يبحثون عمن يستطيع الاجابة على التساؤلات لكن سدى. اسأل قبطان طائرة في لباسه الانيق وقد تجول مثلنا في الباحة المكتظة، فيجيبني، بأدب، إجابات عامة.

رغم رباطة جأش المسافرين لكن البعض بدأ يفقد أعصابه. رجل ذو لهجة صعبة (لربما كان اسكتلندياً) يطلب بنبرة غاضبة حمّال ذي سحنة سمراء (يبدو هندياً او باكستانياً وقد ملأوا كل مكان في بلاد الانجليز) يعمل في المطار أن يأتيه بإجابات و-"أن يطلب من رئيسه ان يحضر الى الباحة ليأتي بالاجابات".  الحمّال يختفي ولكنه يعود فعلاً مع إجابات غير واضحة. أتخيل وضعاً شبيهاً في مطار بن غوريون. لو حدث ذلك هناك لكانت النتيجة هرجًا ومَرَجًا، وخناقًا وقتالًا وزعيقًا وعويلًا يشقُ عباب السماء. لكنها أوروبا هنا، يا صاح.

فتاة انجليزية مدللة تحدّث كل من اراد الاستماع بصوتٍ باكٍ بأنها لن تقدر أن تقابل صديقها الذي ينتظرها بسبب الغاء الرحلة. ذهبت افكاري الى سوريا حيث يُقتل مئة شخص يومياً وما من إنسانٍ تهتزّ مشاعرهُ أو يضطربُ كيانُه، وها فتاة تتوقع الاهتمام والتعاطف معها لانّ موعدها الغرامي... أُلغيَ!

تمر ساعة وقد ابتدأ الخناق يضيق بي فأنا في المطار منذ حوالي 11 ساعة. شركة الطيران تزوّد المسافرين بكوبونات للنوم في الفنادق ولكن هيهات! إن طابور المسافرين لاستلام الكوبونات طويل جداً. قررت الاتصال بصديق الطفولة النصراوي الساكن على بعد حوالي ساعة عن المطار. لم اتصل به خلال وجودي في انجلترا لأني مررت على انجلترا لزيارة عمل قصيرة للغاية، ولربما لا يعرف أصلاً اني في بلاده. اتصلت به فسرّ لسماع صوتي وكطبيعة النخوة العربية قال لي انه سيحضر للتو. طلبت ان يتريّث حالما أستوضح شأن الحقيبة. وبينما تابعت تجوالي في الباحة، أحاول الاستفسار، سمعت مجموعة مسافرين يذكرون الاسم السحري "سان دييغو". ركضت اليهم مستفسراً فأفهموني أنه قد أغلق على الحقائب في بطن الطائرة . وطمأنوني أن حقيبة كل مسافر سترسل الى الطائرة التي سيتم إدراجه مجدداً فيها للسفر الى سان دييغو، ولربما تبقى في ذات الطائرة في حال تم السفر فيها نفسها. اتصلت بصديقي وقلت له: "أبى القدر إلا ان يجمعنا فالرجاء ان تأتي لتأخذني من هذا المطار". أجابني: "برهة وأكون في السيارة. أهلا وسهلاً ستشرّفنا"!

تحية نصراوية في صقيع انجلترا... فشعرت بالدفء.

 

 

IMG_2482.jpg
IMG_2485.jpg
798
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

جاري التحميل