سراب الفؤاد - جواد بولس
أقنعني أحد أصدقائي قبل مدة أن أكتب مقالًا بالعبرية وكفل هو أن ينشر في صحيفة "يديعوت أحرونوت". كتبت ونشرت الصحيفة المقال. تهافتت تعليقات القرّاء التي كانت بمعظمها "نابحةً جائحةً"، فأصحابها تسابقوا بالهجوم عليّ والتفنن بوصفي عدوّا ولا ساميا. معظمهم أجمع بأنني خائن للدولة وجاحد لما منّت به عليّ من نِعَم وفي طليعتها بقائي على قيد الحياة على ثرى أرضٍ مقدسّة خصّها الرب لأبناء شعبه المختار.
قرأت وأقرّ أنني امتعضت وتحسّرت وندمت. بعد يوم هاتفني المحرر المسؤول في الجريدة ليهنئني على مقالتي. ظننت أنه يعزّيني ويشد من آزري، لكنه أصر على موقفه بأنه مهنئ وليس بمعزٍّ، وعززه بأنه كمحرر يعتبر هذا الكم الاستثنائي من الهجوم والتهديد المبطن شهادةً على مكانة المقالة وسببًا لمدحها. محادثة ذلك المحرر علمتني مجددًا أن أحاول التريّث قبل أن أتّخذ موقفًا والحكم على ظاهرة ما أو على فعل أو على تصريح لقائد أو زعيم أو مفكّر أو غيرهم!
كانت محادثه هذا الصحفيّ معزِّزَةً ومذكّرة لما تعلمته على خشبة مسرح حياتي وعن ما يمكن لنبأ أو خبر أو مقالة أن توهم به أو تنقله أو تخفيه. وللحقيقة لم أكن بحاجة لمحادثته لأتيقن أنه لا ينبغي للحكيم الحليم المجرب أن يطير على جناحيّ صرخة تدوي من على منصة، خاصة إن كانت من تلك المكتظّة بالقادة والزعماء، أو اندفاع حنجرة تتميّز وتبرق بشعار يسبق السرب، يحلق عاليّا ويخلّف الجمع والربع من وراء ضباب وسراب!
وإن كنت قد كتبت في الأسبوع الفائت عن بسمة استدعتها ذكرى ذلك الزمن الشاب النضر يوم كنا نأكل من كتف "رومانسية ثورية"، سأشاركك اليوم، أيها القارئ، بتداعيات زيارة يتيمة حظيت بها قبل أكثر من عام بقليل لإمارة قطر، شاغلة الدنيا والناس.
في قطر شهدنا ثورية صارخة مكتنزة داهمة لا تعرف المواربة ولا الاستحياء. لم نلمس أية رومانسية أو عذرية، بل قولَ فصل وتحدٍّ. دعينا للمشاركة في مؤتمر عن الديمقراطية والتنمية. للحقيقة لا شأن للعناوين والأسماء، فالدوحة، منذ حكمها "خليفتها" المستورث أباه عنوة، أعلنت عن نفسها عاصمةً أبديةً للمؤتمرات، وهكذا ينبئك الشعار حال وصولك إليها.
وصلنا إلى مطار الدوحة وسبقتنا أخبار الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية المبحر إلى غزة المحاصرة. بعد دقائق سمعنا عن فظاعة الاعتداء ووحشيته وعن وجود قتلى وجرحى. اعتلينا حافلة لتقلنا إلى صالة التشريفات وفوجئنا بوجود السيد بنيامين بن اليعيزر "فؤاد" يجلس برفقة وفد واسع الانتشار والبسمات في جنبات الحافلة. ألقينا التحية ورد بأحسن منها .
"ماذا تفعلون هنا في قطر؟" سأل صديقي النائب فؤادًا باستهجان. "ألم تسمعوا ما فعلت حكومتكم بأسطول الحرية؟". لم يبدُ أي ضيق على وجه "فؤاد" فلقد بقيت حمرته متوردة من فائض سمنة وضيق نفس أججه لهيب الصحراء وارتفاع في رطوبة الجو. ضحك بسخرية خافتة وأجاب نافيًا أي حرج أو قلق. كان الصوت كمن خبِر قادة العرب، لا سيما الأمراء منهم، مَن ورث أو ورَّث أو استورث، أو من لم يزل حاديًا يستدعي الحظ ورضا "الفؤاد" هناك على جنبات قوافل الصحراء.
حاولنا أن نستفز هدوءه ونشرح له عن ما رشح من غضب وأكثر في العالم العربي والإسلامي. لم يبدِ أي اهتمام خاص، وأخبرنا أنه في قطر ضيف لدى الدولة ولدى الأمير تحديدًا، وأنه مشارك في مؤتمر اقتصادي هام ولذا جاء إلى قطر بوفد كبير وبعدة مستويات وخبراء!
أنهى حديثه بشبه تحدٍّ مداعبٍ قائلًا لنا: "سنصل بعد لحظات لقاعة الاستقبال وسترون كيف سنؤخذ نحن إلى صالة الشرف الأولى وأنتم، أخبروني ما سيحصل معكم!".
وصلنا وانقض المضيفون على وفد "الفؤاد" وكان العناق وكانت القبل وكان غياب أحضان على أكتاف. اختفوا جميعهم وفي البهو الأميري الأنيق. بقايا نظرات طيّرها الوزير الإسرائيلي المحتفى بوصوله، من فوق أكتاف معانقيه القطريين، إلى صوبنا وكأنه يريد أن يقول: "ألم أقل لكم يا أصدقائي العرب؟ أتريدون مساعدة ما؟". لم يقل فلقد طغى العناق وغاب أدعياء الصحافة الحرة، من عربية وجزيرة، في جزر السياسة والمصالح والمصالحة.
في المساء اجتمعنا في صالة فاخرة في أحد الفنادق، الكل ينتظر وصول الأمير"المفدّى". وفي الساعة المقررة يحضر الأمير. يعتلي المنصة ليفتتح مؤتمر الديمقراطية والتنمية. يصفق الحضور مرحبين بصاحب البلاد والجاه والسلطان. يتكلم الأمير ويستهل حديثه بأقسى عبارات الشجب والإدانة لإسرائيل لاعتدائها على أبطال الحرية. يصف الأمير هجوم إسرائيل بقرصنة دولة والضحايا شهداء. يستنكر الأمير ويشجب ويطالب ويصلي للجرحى ولغزة. القاعة تسمع ويعلو التصفيق ويقف الجمع لتحية الأمير ولشكره على ما يقدمه للمقاومة وفلسطين وأحرار العالم. يترك الأمير في صباح اليوم التالي قطر فميعاد عطلته السنوية مقرر منذ زمن ولا وقت لديه لتغيير جدول الأعمال والشجب والاستنكار.
نحن في قطر نسمع محاضرات ومداخلات عن الحرية والتنمية والديمقراطية. في فندق قريب منا تجتمع وفود عالية المستوى لتبحث في شؤون المال والاستثمار وبقاء الأنظمة الحاكمة الموالية والقريبة على "الفؤاد" والمعدة.
لم نقابل "فؤاد" في قطر ولم نقابله في إسرائيل، ولا أعرف ماذا كان ليقول لنا لو التقينا. يقيني أنه ما كان ليشمت بنا فالشماتة نصيب الضعفاء.