لولا الحياء لهاجني استعبار - المحامي جواد بولس يكتب عن المشاركة العربية او عدمها في مظاهرات الاحتجاج والاعتصامات
لولا الحياء لهاجني استعبار! لا أبالغ ولا أراوغ ولا أمزح، هكذا كان حالي بعدما قرأت كمّا من المقالات والتعليقات والتحليلات، يتطرّق كتّابها لمسألة وجوب امتناع الجماهير العربية الفلسطينية، المرابطة في "مدن الصفيح" وأحياء الفقر و"الليجو"، عن المشاركة في مظاهرات الاحتجاج والاعتصامات الجارية في أماكن مختلفة في إسرائيل.
بعض الكتبة أسهب ونظّر وأتحف، ممتشقًا أشجار العلم وقاموس المصطلحات السياسي، وآخر أمطرنا بما تيسّر من بحور علم الاجتماع السياسي، ومتمكّن آخر أغرقنا في ما بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع. آخرون جمعوا الأدب وقلته وخلطات من "سخين" كلاميّ عرفته العرب منذ كانت عاربة إلى أن أمست غاربة.
أن لا يرى الواحد منّا ضرورة أو دافعًا أو سببًا للمشاركة فيما يجري من عمليات احتجاج واسعة في بقع مختلفة في الدولة، هو أمر معقول ومقبول ومبرَّر. الغريب في المسألة أن تقوم مجموعة أو مجموعات، تنتمي إلى حزب أو حركة سياسية، وتؤدلج عدم المشاركة وتدعو إليها وتتحول إلى وعّاظ تلهب الفضاء بنظريات تؤسس لصحة المقاطعة وكونها ممارسة وطنية فلسطينية تتسق مع أحلامنا كشعب يناضل من أجل حريّته وحقوقه القومية.
لم يكتف هؤلاء الإخوة بإشهار موقفهم، وهذا حقّهم طبعًا. القضية المزعجة أنّ بعضهم بدأ، كما في كل مناسبة لا يتفق فيها رأيهم مع رأي آخرين، يهاجم أصحاب الرأي الآخر وعند بعضهم وصلت الأمور حد التخوين والهمز واللمز والتقريع، (كما في حالة الأخ عصام مخول).
الظاهرة معيبة ومرفوضة وخطيرة. فأنا أعتقد، كما كتبت في عشرات المرات، أن لا أسهل على المرء، خاصة عندما ينعم في مكتبه "المكندَش"، مؤمِّنًا معاشًا دسمًا من إحدى الجمعيات المدنية المدعومة من دول الدعم الغربية، ومن موقعه هذا يطلق يوميًا لاءاته المكرَّرة في وجه كل من يعمل ويجتهد ويفكر ويبادر ويتظاهر ويحتج ويكتب وما إلى ذلك.
لا أسهل من أن تكون "مثقّفًا" حاصلًا على شهادتك الجامعية من إحدى جامعات إسرائيل، وحائزًا على منحة دراسة مدعومة من جمعيتك لإحدى جامعات أمريكا "الطاعون" أو أوروبا "الفرنجة"، وعائدًا إلى الوطن، أو غير عائد، وتتحفنا صباح مساء بنظريات نارية ثورية لا تتطلب منك إلّا هزة قلم أو رجة وتر!
المعذرة أيها القارئ، فأنا أحب العلم والتعلم، وأرى بالمثقفين نار المجتمع وحطب التقدم والعيش الكريم والرغيد، وأصلّي وأتمنى أن ينعم كل فرد من شبابنا بعمل مريح ومشرّف، لكنني أمقت، كما كتبت مرارًا، ظاهرة استسهال التخوين والاستخفاف بالآخرين. أمقت ظاهرة احتكار الحقيقة والصواب وتصغير من يجتهد برأي ويخطو بخطوة يحسبها إلى الإمام ويقتنع بها.
فما جرى في الأسبوع الماضي من حفلة "تحشيش فكري"، من على ظهر "عوّامات" مؤدلجة بفائض قومية جوفاء، مستفز ومرفوض، خاصة عندما يكون في حق من ماضيه يشرّف كل عربي حر وإنسان. المزعج أكثر عندما يشارك "بالزفة" شباب صاعد واعد، غدا كالببغاوات يردد ما لقّنه "السيّد" من شتائم ومسبّات.
الطبيعي والذي لا يحتاج لبرهان ودليل هو أن يشارك عرب الدولة في هذه الاحتجاجات. فهم أكثر الفئات تضررًا وفقرًا وبطالة. هم أكثر من يعاني من ضائقة السكن. بديهي أن يتواجد العامل العربي المهدد بمستقبل عمله في ذات الخيمة مع زميله اليهودي وبديهي، كذلك، أن يتصرف هكذا الطبيب العربي والمعلم. هذا هو الطبيعي والبديهي. هكذا، بدون نظريات وفلسفات وفذلكات أنا وكثيرون مثلي نفهم الأمر والمسألة.
من يعارض هذا الأمر الطبيعي عليه أن يقنعنا، لا من خلال شعارات طنانة وديماغوغية برّاقة لا تستدعي سوى مضغها وإعادة مضغها ونحن في بيوتنا عاطلين عن العمل أو منتظرين ما سيضخه التأمين الوطني كمنحة أولاد أو بطالة أو مؤملين ومنتظرين ما سيتصدق به علينا جار غيور أو نشيط حزب أو حركة سياسية.
لن أخوض فيما أراه كأسباب حقيقية لمواقف المقاطعين والمهاجمين لشراكة النضال هذه. لكنني أعتقد أن حركة دينية تؤمن بحتمية إقامة دولة الخلافة وإحدى ولاياتها ستكون فلسطين، لن تجد لها دافعًا وسببًا للمشاركة في هذه الاحتجاجات، خاصة أنها تملك وتتحكم بمصادر مالية هائلة تسهّل عليها دعم ومساندة أتباعها وحلفائها. وتيّار سياسي يراوغ في مسألة وجود إسرائيل كما فرضه واقع ما جرى عام ١٩٤٨، ويمارس عملية سياسية هي أقرب إلى حالة إجهاض مستمرة تؤدي إلى إشهار مواقف ديماغوغية مراوغة ومتماشية مع واقع مفروض عليهم سيلجأ دائمًا إلى تبريرية وأحيانًا إلى مزايدات مغلفة بالقومية والوطنية، بينما على مستوى الفعل ستكون ذروة نشاطهم مظاهرة متواضعة في يوم من أيام العرب وتردادًا مستديمًا لشعارات عذبة مطربة ومترفة.
تاريخ جماهيرنا العربية هنا حافل بالنضال الحقيقي والكفاح والانجازات، وهذا كله راجع لقيادات هذه الجماهير التي عرفت وخبرت دائمًا طرح الشعار السياسي الصحيح، والأهم ما واكبه من أعمال وتضحيات شيّدت ما شيّدت من بنيان وصروح وبقاء على أرض الوطن. ولن يغفل إلّا مغرض شراكة بعض القوى الديمقراطية اليهودية ومهما كان هؤلاء قلائل وضعفاء، إلٌا أن بشراكتهم قدموا البرهان والوسيلة لما لن يصح إلّا أن يكون أفق العيش السليم ومستقبل هذه الدولة.
لكل فرد وجماعة الحق بالإيمان بما يراه صحيحًا ومناسبًا وخادمًا للمصلحة العامة ومستقبلنا ومستقبل أولادنا. وواجب هؤلاء احترام رأي وموقف الآخرين.
ولعصام ورفاقه أقول لا تعتذروا عمَّا فعلتم، فالحكمة نصَّت "من قدر على تشييد الأبنية أمكنهُ خراب الأخبية"، وأنتم الخلف لمن شيّد الأبنية فإلى بناء المزيد منها .