المتأسرِل من كفر برعم - بقلم خالد عون
في سياق الحديث الدائر في هذه الأيام, حول مشاركة او عدم مشاركة العرب الفلسطينيين في داخل اسرائيل في الاحتجاجات والمسيرات المناهضة للسياسية الاقتصاديّة لحكومة اسرائيل, لقد صدحت العديد من السيمفونيّات السياسية المغرّدة "بأسرلة" العربي الذي يشارك في هذه الاحتجاجات, ووطنيّة من يسبّها ويسبّ المستطونين واليمين (واليسار طبعاً) الاسرائيلي – كحلّ للقضيّة .
اعرّف عن نفسي لما يستوجب التوضيح, فلسطيني ابن فلسطيني, والدي مدفون في كفر-برعم (قريتنا المهجّرة) وانا مدفون في الديون في القدس, وقح ابن شيوعي محترم, وشيوعي اذا ما استطعت سبيلاً.
الى لُب "أسرلتي" :
النضال بجانب اليهود, الصهاينة, المستوطنين, خادمي الجيش وقتلة الأطفال على رتباتهم وتلطيخ ايديهم بالدماء, في سبيل تحسين مستوى المعيشة, تخفيض ايجارات البيوت, سعر "الكوتّيدج" (جبنة فارطة منقوعة بجبنة مش فارطة), قسط التعليم, معاشات الأطباء والعمّال الاجتماعيين – هو نضال اجباري, مشروع ومطلوب.
لن يروق للبعض ما اكتب, ولكنّها نظرتي – وتمثّلني انا وحدي – وعساها تمثّل من عليها ان تمثّل – للأمور, ومن واجبي توضيحها:
من الواضح انّ الموضوع ليس بالسهل من ناحية مشاعر, وواضح انّه يثير الكثير من التساؤلات في صفوف الوطنيين الصادقين. واضح جداً انّ الصهيوني يحتل بلادنا وقاعد فيها ع قلبنا وواضح انّه يسلب كل حقوقنا. كل ما قيل في هذا الصدد واضح وصادق وانا مؤمن بصدق الكلام والنوايا. بس لازم نوضّح بعض النقاط : الفلسطينيين داخل اسرائيل يحملون الجنسية الاسرائيلية, يتعلمون في الجامعات الاسرائيلية ويدفعون الضرائب, يعملون في الوظائف الحكومية, يتعاملون باللغة العبرية في الاوراق الرسمية والخ.. لقد فرض عليهم ان يكونو - على صعيد رسمي - جزء من المجتمع الاسرائيلي, وفرض عليهم ايضاً النضال الشاق من اجل الحفاظ على الهويّة الفلسطينية ومعالم البلاد بعروبة اصلها واهلها. وبما انّ موضوع الكفاح المسلّح و"زت اليهود في البحر" في الداخل ليس مطروحاً على الساحة, والمطلب السياسي الرئيسي بين غالبية (70%+) الجماهير العربية الفلسطينية هو دولة فلسطيني بـــجــــانــــب اسرائيل (وليس مكانها), فمن الطبيعي ان يتوجّه ابناء هذا الشعب (العربي الفلسطيني الصامد في بلاده تحت حكم اسرائيل) الى النضال ضمن آليات هذا المجتمع, بالذات وانّهم يعانون (اضافة الى العنصر القومي ومسألة الأرض) من الخنقة الاقتصادية القاتلة, اسوةً بجيرانهم اليهود, بل واكثر من ذلك (مع حفظ الفروقات التاريخية والاحتياجات الثقافية والخصوصية الاجتماعية لهم). لا يمكن فصل الامور عن بعض كالماء والزيت, والوطني هو من يناضل ضمن الظروف التي لا تؤدي به وبمن معه (الشعب الذي يدّعي تمثيله) الى الهاوية ويحافظ على المسؤولية في نضاله.
انا اوّل من يقرف من المستوطنين, المجنّدين (عرباً, يهوداً, اثيوبيين, فارسيين ونُدّل على جميع الاشكال والألوان), اقرف مِن من يسلب الأرض – تحت حماية الجيش – لكي يعيش فيها ويقرف حياة اهلها. لم اكُن بعد في خيمة من خيمات الأعتصام "الاسرائيليّة" ولا حتى "العربية-الاسرائيلية" في الناصرة (لأنّي مدفون بالديون, مجبور اخلّص اللقب اسّا, وبالموت عم بدفع اجار داري ومواصلاتي), ولكنّي, بموقفي, لا اتبنّى اي شراكة استراتيجية مع الجنود ولا مع المستوطنين, ولا مع ليبرمان ولا مع الليكود ولا حتى مع التجمع او الجبهة في مطالب هذا النضال. ان هذا النضال عليه ان يكون نضال طبقي صرف, نضال من يستحق الحياة بكرامة, بمسكن ملائم, بأسعار معقولة, بمعاش ملائم, ان يعيش قبل كل شيء.
هذه المطالب لا تأتي "لتحسين حياة المُحتل", واعطاء الشرعية للبناء ليهود اكثر في ارض فلسطين المحتلّة, انّما هي فُرصة, لكي يتحرّك من يؤمن بالنضال السلمي, لمحاولة تغيير وجهة نظر اليهود الصهاينة, لمحاولة تغيير العقلية الحربية الفاشية الاحتلاليّة.ان اصل الصراع الفلسطيني-الصهيوني هو اصلاً صراع طبقي, صراع ضد الهيمنة الرأس-مالية والتي تريد توسيع بؤرة ارباحها والحفاظ على قوّتها في الشرق الأوسط ضمن مشروع "الوطن القومي للشعب اليهودي", للحفاظ على ردع الشعوب العربيّة (عندما كان جيش عبد الناصر وسوريا والعراق لهم هيبتهم) في حال تمرّدت على الزعرنة والخاوا الأمريكية. انّه نضال, وكم مشتاقون نحن لنضال شوارعي وليس لنضال تنظيري, لنضال نقول فيه اننّا لن نرضى بأن يستمر من سرق ارضنا بسرقة مالنا ايضاً, وبسرقة مال اليهود المخدوعين بحلم الصهيونية "الوردي والذي يحقق لهم حق تقرير مصيرهم في ارض الميعاد" – نعم هذا ايماني, وايمان الكثيرين, ان اليهود في غالبيّتهم "مضحوك عليهن" ومقتنعون بفكرة الصهيونية وهذا المشروع , ومن واجبنا ان نحاول تفتيت هذا الوهم. ان كان احدهم يؤمن بالحل السلمي, وبتوعية اليهود "الصهاينة" على كذبة "الصهيونية" فمتى يكون ذلك ان لم يكن الآن؟ انا اعلم ان الجمهور في اسرائيل يفصل بشكل كبير ما بين الاقتصاد والسياسة الحربيّة, ولكن لا منفذ امامنا غير محاولة الأقناع بأن الاحتلال هو اصل "شفط النقود", وأن الشركات الرأس-مالية الخنازيريّة هم لصوص النهار, وأن فقّاعة "الوطن القومي للشعب اليهودي" سوف تنفجر في وجوه سكّانه جوعاً, وعبوديّة, وفاشيّة وتدمير الذات.
سوف اناضل مع اليهودي, مع الصهيوني, مع حمّال الطبل, لكي يتم اضعاف قوى الشركات الكبرى, عمالقة النهب والنصب ومموّلي الاحتلال على انواعه واشكاله. انا "المتأسرل" لا انسى قضيّة شعبي الفلسطيني, بل من ضمن هذه الخطوات عليّ ترسيخ النضال الطبقي المحارب لرأس المال, لمنظومة نهب الفقراء واغناء الاغنياء. السيد نتانياهو عبّر عن نظرته مؤخراً, حيث قال : يجب محاربة الفقر لا محاربة الغنى – بمعنى سياسي اسرائيلي : "يجب محاربة الفقراء, ليس الاغنياء", وعليّ, هذا مرفوض جملةً وتفصيلاً, ولهذا, لا بُد من خيمتي.
عندما اشارك في نضال كهذا, من قال اننّي اشارك المستوطن وجهة نظره؟ من قال انّي اتبنّى مقولة "البناء في المستوطنات سوف تحل قضية السكن"؟ من قال اننّي افضل اعطاء جنود الاحتياط "امتيازات في شر اء البيوت وايجار الشقق" ؟ بعكس الكثير من الجالسين على الجدار, لديّ مواقفي, لديّ وجهة نظري, لديّ ما اسعى من اجله, وعليه اودّ ان اناضل ضمن الآليّات المتاحة, ومنها خيم الاعتصام. في "خيمتي التي لم تُقَم لأنني لا املك سعرها", سوف اعرض مواقفي المناهضة للاحتلال, المناهضة للاستيطان, المناهضة لمقاطعة المتسطونات ومنتوجاته, مواقفي التي ترفض تهويد طابع الدولة كليّاً ورفض اي حل سلمي للقضية الفلسطينية, والتي ترفض منحي حقوقي البسيطة- والتي شرعيّتها من كون مواطن, ومواطن تحت حكم غريب, على ارضي وارض وطني.
عجبي على من يتعامل مع الواقع على انّه صاحب القرار الأول والأخير, عجبي على من يقنع نفسه بأنّه يستطيع الاختيار ما بين فلسطين التاريخية وفلسطين 67, عجبي على من يعتبر النضال السياسي السلمي لفلسطينيي 48 هو نضال مستسلم وانهزامي, وكأنه يزوّدهم بالسلاح يوميّاً وينتظر نتيجة نضالهم. عجبي على من يحارب طواحين الهواء خلف شاشات الانترنت (والذي تجني اسرائيل بعض الملايين الاخرى منه لتمويل جيشها), ويخوّن غيره, يؤسرله لأنه يريد ان لا يكون تحت احتلال, وفارغ الجيوب ايضاً. عجبي على من يتم اغتصابه, وعندما لا يستطيع رفض الاغتصاب يبدئ الاستمتاع بالعمليّة. عجبي على من يعتقد ان بمقدوره, عبر ستاتوس في الفيسبوك نزع الشرعية الدولية عن اسرائيل, واعادة الاّجئين فيسبوكيّاً الى حيفا ويافا وصفورية وكفر برعم ولفتا والدامون. عجبي على من يدفع نصف معاشه ايجار شقّة في مدينة اغلب سكّانها من اليهود الشرقيين المتديينين والعنصريين بامتياز, ويهزّ رأسه عند دفع الضريبة للبلدية والدولة, ويتّهمني بالأسرلة عندما ارفض دفع هذه الضريبة المذلّة. لا اعلم كيف يكون المستسلم للضريبة, للاسعار الباهضة, لرأس-المال – رأس الحيّة , للضغط الاقتصادي – وطنيّاً وذو كرامة وطنية وحس جماعي ومسؤول, والفقير الذي يريد الحياة, ليعمل ويناضل- متأسرلاً جباناً, لا يعوّل عليه. اي نضال هذا الذي يكون وراء الشاشات, بالتنظير والتزمير والتخوين- بعيداً عن هموم الناس ووجعهم وجوعهم هو نضال فاشل, مستسلم, انهزامي, ويعطي المكافئة للقوانين العنصريّة في اسرائيل بابتعاده عن الساحة.
مواقفي المتأسرلة :
- استحقاق ايلول – الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الامم المتحدة هو خطوة قانونيّة في المرحلة الأولى, وتحسين لموقع بداية المفاوضات لا غير. انا لا اعوّل على المفاوضات, ولا على القيادة الفلسطينية الحاليّة, ولا على الاسرائيلية طبعاً, واعتبر هذا الاستحقاق "ضحك عاللحى", لكنه سوف يفرحني ان اكسب بعض الشرعيّة, ولا حول ولا قوّة الاّ بالنضال.
- اي حل للقضيّة الفلسطينية لا يشمل اي حل لقضية اللاجئين ومسكنهم بشكل عادل (العودة او التعويض) هو حل ظالم, غير كافي, ولن يكن مقبول عليّ, انا المتأسرِل.
- ارفض يهوديّة اسرائيل, واعتقد انّ يهوديّة اسرائيل هي الطريقة المثلى للحفاظ على صهيونيّتها, والأمر مرفوض, جملة وتفصيلاً.
هنالك العديد من المواقف "المتأسرلة" لديّ, ولكن سأحفظها لنفسي في هذه المرحلة.
نعم, اسرائيل دولة موجودة, قائمة بحد ذاتها, لها شرعيّتها الدوليّة , نحن كعرب فلسطينيين ليس لنا اي "ظهر" نستند عليه الاّ انفسنا, بنضالاتنا المميزة بحد ذاتها, لا يوجد اتّحاد سوفييتي ليقوّي ظهرنا, ليس هناك خلافة اسلاميّة تحرر الاقصى من ظلم "احفاد القردة والخنازير", ليس هناك من نعتمد عليه غير نضالنا السياسي, والذي به لا بد من توعية الجمهور اليهودي من مخاطر الصهيونية والاحتلال, وبغير هذا, ليس لنا اي افق لأي حل, وحتى لو توحّد كل العرب الفلسطينيين في الداخل, لن نستطيع تغيير اي شيء (سياسياً) بدون التأثير على المجتمع الاسرائيلي.
سوف يتهمني البعض بالانهزامية, كأنهم يحملون الاسلحة لمقاومة الصهيونية, سوف يتجاهلون الحكم العسكري الذي فُرض على اهلهم, سوف يعتقدون ان نضالات الصالونات هي التي سوف تحرّك الشعوب, وسوف يتجاهلون جوع البو-عزيزي الذي به احرق نفسه لكي يحرق الظلم في الوطن العربي, وبهذا الجوع سوف احرق الرأس-مالية والاحتلال, بالطرق السياسيّة.
انا فلسطيني, ابن فلسطيني, اشدد على الكتابة بالعربيّة, ومناداة البلدان باسمها, انا المتأسرل الذي لا اذهب لحفلات الفنّانين غير-الفلسطينيين في رام-الله, انا المتأسرل الذي لو كان مواطناً يحترم القانون لكان سيقدم طلباً خطيّاً لقائد لواء الشمال في كل مرّة اراد زيارة ضريح والده في كفر برعم, انا المتأسرل الذي يرفع صوته مع المستوطن ضد الغلاء, ويرفع بصقته لجبين المستوطن في كل يوم , حتى اثناء نضالي معه. انا المتأسرل الذي ارفض المفاوضات العبثية, الذي ارفض سيطرة اليمين الفلسطيني على السلطة, الذي ارفض اوسلو اليوم بعد دراستها, الذي ارفض الهام مدفعي في القدس وسعاد ماسي في رام-الله, والذي ارفض ان اجوع لكي ادفع للصهاينة ضريبة الأرنونة, والذي ارفض ان المع في فضائيات امريكا وحلفائها . انا الفلسطيني المتأسرل الذي يرفض الجوع, والجوع هو المرحلة الأخيرة ما قبل الذل, ان لم يكن بعدها.
خالد عون