منبت العيدان - المحامي جواد بولس يكتب عن محاكمة الرئيس حسني مبارك
ما زلت أذكر سخونة الدمع يحاول التدحرج على خدي. لا أبالغ إن قلت إنني ما زلت أحفظ تفاصيل زيارتي الأولى لجمهورية مصر العربية. قصدناها عام ١٩٨٨، بعد عقد من مقاطعتها، انصياعًا لما أملاه موقف العديد من القوى اليسارية في ردها على اتفاقية "كامب ديفيد" التي وقّعها نظام أنور السادات مع حكّام إسرائيل.
قررت زيارتها، لأن المحب لمن يهوى زَوّارُ، وذلك بعد أن تحوَّلت المقاطعة إلى فعل بلا جدوى، وشعار لا يعني شيئًا وممارسة هامشية، فأكثرية الشعب غلبتها نزوة الإغراء وشدّها الحلم "لمصر التي في خاطري وفي دمي" فزاروها وعادوا عربًا لا أقل مما كانوا.
من المطار أقلّنا تاكسي إلى القاهرة. ما أن بدأت الشوارع تبلعنا وتنساب بين البنايات الضخمة والأرصفة العريضة الملأى بأكوام بشر على بشر، بدأت أرتعش ودونما تحكّم أحسست بحرقة الدمع لا ينهي رحلته على الخد، فالجوّ حارق وما يبدأ دمعًا يغدو حالًا بخارا.
دهشت وسُحرت. ربما كانت العراقة سببًا وربما عدم تصديق ابن أمّةٍ، حرمته "أيام العرب" نعمة الحركة والتنقّل، بأنه على أرضٍ علّمته، عن بعد، أول الحب وأول التحدي، في بلاد كانت لعقود موئل الحلم وانكساره، لكنّها دومًا بقيت ملاذًا لعشاّق السراب.
في القاهرة وطيلة أيام عشت سعادة الشقي وحموضة الواقع فهل من سعادة بدون حموضة الأيام؟! مشاعر وأحاسيس تُجيز تفعيل قاموس الوصف غير المنقوص، والأهم كان شعوري بأنني عدت من دولة فيها شعب مغلوب على أمره ومؤسسات يعتريها وهن وأكثر. الأكثر إيلامًا كان ذلك الشعور بأن المواطن المصري مهان في كرامته وذليل. كان الذل كثيرًا ومنتشرًا إلى درجة المقت والمضايقة.
إلى مصر عدت في مناسبات مختلفة. لم أعش مشاعر كتلك التي عشتها أول مرة، لكننّي كغيري كنت أشهد أن الفقر يزداد وتتسع حلقاته وأن العوز أصبح واقعًا تلمسه في كل مكان وزاوية مهما كانت زيارتك قصيرة أو مختصرة.
هكذا كانت مصر تغرق في بحر من الذل والمهانة. كانت المهانة فوقية ومعوَّمة. استطاع قادة الدولة تغليفها وتسويقها بشعارات كاذبة وحجج واهية. عندما أمست وأصبحت هذه مصيبة كل فرد وفرد فاضت وغمرت الميادين فكانت ثورات كرامة وكرامة وكرامة.
هكذا اختصر العديدون ما جرى في ميدان التحرير وما زال يجري. لم تنته الرحلة بعد ومعيقاتها كثيرة وتزداد مع الأيام، ولكن يبدو أن هذا الشعب الثائر من أجل لقمة عيشه الكريم وحريته لن يتراجع بسهولة ولن يذلّ ثانيةً.
هكذا شعرت، وهذا ما تصوّرته، عندما تابعت وقائع الجلسة الافتتاحية لمحكمة مبارك وأولاده وغيرهم من المتهمين. كثيرون تابعوا الوقائع وبعضهم لا يصدق أن ما يجري هو محكمة حقيقية ستفضي إلى إدانات وعقوبات أو غيرها. البعض لا يصدق لأنه ما زال يعيش بوقع ما بناه هذا النظام طيلة عقود، وأهم ما بنى، باعتقادي، هو فقدان الثقة بقوة الشعب أو المعارضة لأي نظام عربي.
الأنظمة العربية، بشكل عام، والمصري في طليعتها، جعلتنا جميعنا نعتقد أنّها أنظمة خالدة لن تمس ولن تغيّر وأن شعوبها خُصيت مرة وإلى الأبد. شعوب لن تقوى على مقاومة الذل والمهانة ولن تستطيع إحراز أي نصر. من هنا بات البعض لا يصدق بأن ما يجري هو حقيقة وأن هذه الدولة المصرية لديها نظام قضائي قادر على ممارسة سلطاته وتنفيذ أحكام القانون.
ما شاب جلسة المحكمة من انعدام نظام وفوضى برزت بشكل واضح يضيف لتلك المشاعر ويعززها، لكنني أعتقد أن ما جرى كان في نطاق المعقول والمحتمل، آخذًا بعين الاعتبار سابقيّة هذه المحكمة وظروف انعقادها.
البعض يعتقد أن ما يجري لا يتعدى كونه دفع فاتورة جزئية يقدَّم من خلالها مبارك وأولاده، ومن معهم من متهمين، قرابين عن النظام السابق، بينما يستعد رموز هذا النظام وحلفاؤه للانقضاض على الحكم مجددًا في عملية اختطاف للسلطة مع حلفاء فاعلين اليوم على الساحة السياسية المحلية والعالمية.
أعتقد وكما قلت سابقًا أن الاحتمالات جميعها واردة، لكنني أستبعد أن تكون المحكمة ساحة لمثل هذه المسرحية، فما يجري يحتسب لصالح المؤسسة المصرية وإنجازات الشعب الثائر، وعلى أمل أن تستطيع هيئة المحكمة وجهازها الإداري بالسيطرة على مجريات التقاضي، أتصوّر أن نحظى بمحكمة تأخذ مجراها السليم وتنهي إجراءاتها بإصدارها أحكامًا تحقق العدل والعدالة. يجب أن نتخلص من عقدة فقدان الثقة والأمل.
يجب أن نؤمن أن ما جرى ويجري في مصر، تحديدًا، هو ثورة شعبية سلمية جبارة أطاحت بنظام عتيّ وما زالت تناضل من أجل جني ثمار كفاحها. ويجب أن نؤمن أن هذه المحكمة هي واحدة من ثمار هذه الثورة ورمز من رموز قوتها وسلامتها. أقول هذا من باب إيمان وثقة وحلم وذلك لأنني أعرف حجم ما على هذه الثورة تغييره وتحقيقه، وحجم العراقيل المقذوفة في طريقها.
أقول هذا لأنني كما كثيرين مثلي ما زلنا نؤمن أننا سنعود ونزور مرة أخرى مصر التي في خاطري وفي دمي ذلك لأننا نحب النيل وماءه ونعشق السراب. سنزور مصر الحضارة والثقافة والأحرار، فمنبت العيدان يأبى أن يتغير!