حديث غرناطة - جواد بولس
مع صديقين يحبان الفَرَاش، صريع الضوء، شهيد الأمل، جلست في "غرناطة" كفرياسيف. لفّنا صخب تدفّق من استحكام عادة وعُرف مستوطن في حناجر شرقية، والليلة كان أعلى من شوق وألفة أحباء تحلّقوا طاولات العيد. على الجدران عرقُ موسيقى تجاهد لتحيا، يتصبّب رذاذ أحرف وشظايا كلام. الصوت كان صافيًا، لم تسعفه الوداعة على ذاك الصخب.
"يستهوي الورق تأوُّهُهُ" يبادرنا الطبيب العاشق لسحر البيان ودلع الناي في حضن الكمان: ماذا قصد شوقي بذا الشطر؟ يسارع ثالثنا/نديمنا الحائر بين لغة وقانون ويلجأ إلى هديل الحمام تستفزه آهات أمير عاشق. تناقشنا وهوينا فاعتمدنا ما اعتمده المفسرون الرسميون حين أفادونا أنه من شدّة تأوه عاشقِنا بدأ الحمام يهوي/يتساقط من علٍ. هكذا نقل الطبيب الرأي وأبقى تساؤلنا لماذا إذًا خصَّ الحمامَ بالسقوط وليس غيره؟ اتفقنا والقول للغابرين، هكذا هي دروب الشعراء، خاصة حين يعشقون، لهم يحق ما لا يحق لغيرهم.
حاولنا أن نبقى مع عذب السؤال والمستظرف من كل قول مستطرف، إلى أن أدار صديقنا شاشة "آيفونه" وعليها بضع كلمات تفيد أن برلسكوني، رئيس وزراء ايطاليا، قدم استقالته من منصبه. بضع كلمات أعادتنا لهمِّ الساعة وشؤون "الكبار"، عالم الاتصالات وما يتيحه من سرعة في نقل المعلومة وما يترتب على ذلك في عصرنا والأهم في مجتمعنا المحلي في هذه الدولة.
بدأ الحديث في دائرة صغيرة وأخذ يتشعَّب ويكبر وإذ بنا ننسى وُرقَ شوقي ونعود للقلق ومصائب قومنا التي لن تكون فوائد قوم آخر حتى لو اعتقد المتكهننون ذلك وتغافل المستذكون في كل جبل وواد.
هكذا هي الليالي وقواعد السمر العصرية. قليل من فرح وندرة في هدأة البال، مقابل كثير من قلق وخوف وضياع في المدى الأبيض. إيغالٌ في الوحدة ووقوعٌ في التوحُّد. فليأتِ الطوفان، فأنا وأنا وليأت الطوفان، يهزج فريق مدجَّجٌ بإيمان بنصر مظفّر على أرتال الفولاذ وبرق العقول، وفريق آخر ينتشي ويصدح، أنا وأنا فلا طوفان ولا غيم، لأن الزمن لي والدم لي ولي الغفران ومقبض السكين ولي الفيافي ومنقار الشرف وضحكة العربيد في ساحات البلد وعند ملتقى النهد بأحلام الولد.
هكذا هي الليالي، نفيق فيها لنسمع كم نجمة تهوي من سمائنا وكم يجف واد على أكتافه ربينا النرجس والأمل. لم تكن تلك برقية قصيرة على شاشة خادم البشر لتشعل نيازك القلق بيننا وأكثر تستفزنا، أبناء أمة وأولاد قوم، نفاخر بسنام الجمل ونجيد ونبرع بثقافة الحَمَل. لكنّها شرارة دعوة حذفتنا فبدأنا الحديث عن تخلُّف أمتنا وانتهينا بواقعنا هنا وما قد يلحق به من أذى وسوء مصير.
يحيطنا بحر هائج مائج، سيطالنا زبدُ أمواجه ويغمرنا ملح أيامه ومائه. هناك في "غرناطة" كفرياسيف أجمع ثلاثتنا أن الأهم والأخطر هو زبد التنين الهائج في ساحاتنا وعلى تخوم بيوتنا. نار وهاجة بدأت تحرق أذيال ما سترنا من مخمل وخزٍّ وصوف. من يخمد النيران؟ ومن يوقف التنين؟ شوارع التي كانت حصني وملاذي ومنزل الفؤاد أصبحت وأمست ملاعب رماية وساحات لعرابيد ترقص على شفرات "موسى" وتلهو بأقدار البشر/نحن البشر.
أمّا عن ما يجري في الدولة اجتررنا على عجالة ورجفة، أننا على منزلق خطر، نقولها في كل مرة حتى غدت لازمةً في نشيد رعبنا الوطني وصدًى لغناء عندليب حزين عافَ قضبان القفص. في غرناطتنا مررنا وخيالَنا الجليلي بدار الحكومة وخرجنا بسجل لبعض الوزراء المتفوقين في علم الكراهية والمكاره وهم على أهبة سيف وقلم لنحت الرقاب وقوس قزح. وعرَّجنا على دار القضاء فوجدنا وزيرَ عدلٍ ورئيس لجنة قانون وتشريع ومستشار حكومة ورئيس دائرة أراضي دولة و..و..و..، كلّهم يسابق على المرتبة الأولى في سفر التكوين الجديد وتاريخ عرب كانوا ورحلوا.
كم كان مساؤنا جميلًا في غرناطة كفرياسيف العامرة. كم صار ليلُنا أسود أسودَ في جليل يضيع ويبكي على قلبه كما بكت غرناطة تلك على قلبها الذي أدمته ديدان الأرض وضيَّعه نومُ السكارى.
لا أعرف، أيّها القارئ، لماذا كتبتُ بهذه السوداوية والغضب. فأنا لست على يقين مَن سيذكر التاريخ أكثر، نبيَّ الغضب أم بائع الحرير وعطر الياسمين وطوق العقيق. لكنني أقرُّ وأعترف أنني لم أكن نقّاقًا وحارس الأمل في غرناطة وحسب، فهناك تمنيت أن تتاح لي الفرصة والقدرة لأختار، لاخترت حينها الحياةَ على وقعِ رباعياتٍ، ولا بأس أن تكون لعمر، ومع قومٍ ينامون بعقول يقظة ويستيقظون بقلوب هائمة تحب ولا تعرف إلّا الحب مهنة وهواية ووصية.
لو قيّض لي لاخترتُ أن أحظى ببلاد يعيش فيها من لا يعاب بكونه ثانيًا لحاكمةٍ تفوقه حكمة وجدارة ورقة. وأن أكون طالب علم وحق ومعرفة من معلمين يدوسون على رزم من المال والذهب ليقطفوا وردة وتنهيدة حلم تنضَّدُ على دروب مستقبل، معهم لن يكون إلا بنكهة الياسمين والصباح ورائحة الأرض بعد الوسم.
هل سأحظى بغدٍ كهذا؟ ربما، هكذا كانت الأمنية وكان الوعد مع نديميَّ الساهرَين في غرناطة كفرياسيف.