مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

لا تخشَ التفكير، فالله ليس كاثوليكيا، هكذا آمن البابا فرنسيس - جواد بولس

0.00 - (0 تقييمات)
نشرت
32
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

لا تخشَ التفكير، فالله ليس كاثوليكيا، هكذا آمن البابا فرنسيس - جواد بولس

 رحل البابا فرنسيس يوم الإثنين الفائت، عن  ثمانية وثمانين عاما، تاركا وراءه سيرة عطرة وإرثا من القيم الانسانية الرفيعة التي أشار اليها معظم من عزّوا بوفاته في جميع أرجاء العالم.

ولد خورخي ماريا برغوليو في مدينة بوينس آيريس عام 1936 وعندما صار شابًا قرر، عام 1958، أن ينضم ،الى الرهبنة اليسوعية ليمضي في طريقه الصعبة نحو الكرسي البابوي ؛ وهي قصة جديرة بالقراءة، أو مشاهدة فصول منها كما رويت في فيلم درامي اسمه "البابوان" صدر  عام 2019. اختار البابا اسم "فرنسيس" تيمّنًا بالقديس "فرنسيس الاسّيزي" الذي ولد وعاش في مدينة اسيزي الايطالية في القرن الثاني عشر، لعائلة ميسورة الحال، لكنه اختار أن يترك حياة البذخ العائلية ليصبح راهبًا معروفًا بتواضعه وبسماحته ويدعو الناس إلى مخافة الله والايمان بالمحبة والاحترام ، تماما كما آمن بها البابا فرنسيس وجسّدها من خلال جلوسه على كرسي البابوية في العام 2013.

ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن البابا فرنسيس؛ ففي عام 2014 في اعقاب زيارة قام بها  البابا لبلادنا،

كتبت له وقلت: "شكرا لك أيها الراعي النبيل، لقد كبرت وفرحت فلسطين بك". لقد كتبت ما كتبت وقتها بسبب ما أثارت زيارته من "هرج ومرج"، لا في فلسطين وحسب، بل داخل اسرائيل أيضا؛ اذ رحبت معظم القيادات الفلسطينية الرسمية والشعبية بمجيئه لفلسطين، بينما عبّرت بعض الجهات عن امتعاضها من الزيارة  وشجبوها، باسم عقيدتهم، معلنين: "لا اهلا ولا سهلا بك". أما اسرائيل فلجأت الى لعبة توزيع الادوار المعهود، بين رسميين يرحبون بالزيارة وهدفهم ابقاء "خيط المودة" مع أكبر وأهم مؤسسة دينية مسيحية، وبين من يهاجمونها إمّا لاعتبارات سياسية ودينية متعصبة لا تعترف بحق غير اليهود في أي مكان مقدس في هذه المنطقة، أو كوسيلة للضغط على رئاسة الفاتيكان بهدف ردعها عن اتخاذ أي موقف ضد سياسات اسرائيل في فلسطين. لم يكترث البابا لجميع تلك الترّهات، فوصل الى منطقتنا، وزار الاردن ومنه عبر الى فلسطين واسرائيل. ولقد اجتمع مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس وزار كنيسة المهد ومدينة بيت لحم وزار مخيم اللاجئين الدهيشة وتناول الغذاء مع بعض العائلات الفلسطينية. كانت زيارته محطة هامة في زحزحة موقف الفاتيكان الرسمي تجاه الحق الفلسطيني كما جسدتها لحظة ترجله من سيارته ووقوفه مقابل "سور الفصل العنصري" وصلاته هناك وعلى يمينه كانت تقف بنت وهي تحمل علم فلسطين وأمامه كان يصرخ شعار احمر ويعلن  " free palestine ". نقلت كل كاميرات العالم ذلك المشهد الذي رتبته، ربما ، "العناية الالهية" ليحمل كل الدلالات والمفارقات النبيلة عن فلسطين، حتى أن العلم وهو على يمين البابا ظهر كشمعته المنيرة، والشعارات، التي كانت محفورة أمامه، كسور من "انجيل المحبة والحرية" الذي عاش راهنًا نفسه لخدمته. وهذا ما لم يفعله معظم زعماء العرب والمسلمين طيلة السنين الماضية.

لقد عاب بعض المنتقدين زيارة البابا لاسرائيل وراهنوا على أنه سيتركنا ليعود الى أحضان مؤسّسته المتخبطة في صراعاتها الداخلية والكفيلة بابتلاع أمانيه ووأد احلامه. مضت السنون وبقيت ذاكرة الشعوب كما كانت قصيرة، فنسي الذين هاجموا البابا أو تناسوا أن "ثقوب الفاتيكان السوداء" لم تقوَ على وأد أحلام وأماني "سيّد التواضع " وأنه بعد أقل من عام على تلك الزيارة أعلن فاتيكان البابا فرنسيس اعترافه بفلسطين ورفع العلم الفلسطيني في حاضرته.

لست في معرض الحديث عن تاريخ علاقة الفاتيكان بقضية فلسطين، أو مواقفه ازاء المشروع الصهيوني منذ أعلنت عنه الحركة الصهيونية في مؤتمرها في بازل عام 1897؛ لكنني لن اكون ظالما لو قلت أن مواقفه كانت على الأغلب أكثر ايجابية من مواقف عدة انظمة عربية واسلامية كما سجلها تاريخ الصراع وشهدت عليها الكواليس وخزائن أجهزة المخابرات الغربية وارشيفات الحركة الصهيونية. فالفاتيكان اعلن مباشرة في العام 1897 عدم استعداده للموافقة على اقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة وأن تكون الأماكن المقدسة تحت سيادته. ظل الفاتيكان متمسكا بموقفه المذكور لعقود طويلة حتى أنه لم يعترف عام 1948 باسرائيل رغم محاولاتها المتكرره لنيل اعترافه، فبقيت العلاقات بين الدولتين ملتبسة ومتقلبة حتى تسعينيات القرن الماضي، وتحديدا بعد توقيع اتفاقية اوسلو التي بسببها حصل تغيير في موقف الفاتيكان تجاه اسرائيل ودعم منذ ذلك الحين حل الدولتين كما عبرت عنه زيارة البابا فرنسيس للمنطقة عام 2014. ولكن على الرغم من هذا التغيير ما زالت قيادات الحركة الصهيونية وزعماء اسرائيل يتعاملون بحذر وبريبة مع مواقف الفاتيكان الخاصة بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني . ولعل هذه الريبة هي ما دفعت حكومة اسرائيل الى حذف منشور لها كان قد نشر على منصة (إكس) قدمت فيه التعزية وجاء فيه" ارقد بسلام ايها البابا فرنسيس ، لتكن ذكراه مباركة". تلا سحب المنشور تصريح لمسؤولين في الخارجية الاسرائيلية يفيد بأن البابا ادلى "بتصريحات ضد اسرائيل". كانت التصريحات التي تقصدها الخارجية الاسرائيلية هي سلسلة المواقف التي أعلنها البابا فرنسيس في سياق الحرب الاسرائيلية على غزة وشجبه المتواصل لجرائم الجيش الاسرائيلي ووصفها بجرائم الحرب ودعوته للتحقيق فيها واتخاذ الاجراءات اللازمة بحق المسؤولين عنها وفق المواثيق والقوانين الدولية. ومرة اخرى ظهر تلون الديبلوماسية الاسرائيلية وتوزيع الادوار، فالخارجية وشرائح واسعة من المجتمع الاسرائيلي تهجموا وسخروا من البابا، بينما بعث رئيس الدوله يتسحاك هيرتسوغ رسالة تعزية يصف فيها البابا بأنه "رجل كان يتمتع بايمان عميق ورحمة لا حدود لها ".

خلافات الرأي داخل اسرائيل مدروسة ومبرمجة وليست مثل خلافات الرأي التي تابعناها داخل فلسطين وبين العرب والمسلمين بشكل عام . ولئن كان موقف تعزية الرئاسة الفلسطينية ومعظم المؤسسات الفلسطينية والعديد من زعماء الدول العربية وشيخ الازهر برحيل البابا، واضحا وحقيقيا، شاهدنا في فلسطين وفي العالم العربي مَن يهاجمونه ويهاجمون الفاتيكان بشدة مدفوعة بالجهل المطعّم بنعرات دينية وبالعمى العقائدي. لقد كان بيان تعزية حركة حماس في وفاة البابا فرنسيس لافتًا وكان اعترافهم بانه "كان من ابرز الداعمين للحقوق الفلسطينية المشروعة" كلمة جريئة وهامة في تخفيف وطأة الخلافات المذهبية، وفي نفس الوقت بيانا عرّى حقيقة غياب مواقف قيادات الحركات الاسلامية في الداخل الفلسطيني خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها مجتمعنا داخل اسرائيل.

انتشر في الأيام الماضيه فيلم فيديو قصير يظهر فيه البابا فرنسيس وهو يتحدث عبر شاشة التلفون مع عائلة غزية ويسأل ابنها يوسف عن احوالهم ويهتم بطعامهم في ذاك النهار. كان منظره وهو يتحدث بلهفة الأب الحاني والمتوتر مؤثرا حتى الدمع، فشاهدت الفيلم مرارا وعرفت عندها لماذا يخافه من يخافه، لا في إسرائيل وحسب؛ يخافه الذين لا يقدسون الحياة ويعشقون رائحة دم "الآخرين" وأولئك الذين لا يعرفون التواضع حين ترافقه عزة النفس ونبل الروح، ويخافه من ليسوا على استعداد أن يسامحوا غيرهم ويحترموهم مهما اختلفوا معهم سواء على عقيدة أو على فكرة او على رأي. يخافونه لانه القائل "لا تخش التفكير، فالله ليس كاثوليكيا" وهي دعوته الجريئة للبشر لكسر جدران الخوف واعلان منه بأن الله ليس حكرا على ديانة أو طائفة أو شعب، واشارة الى استعداد الكنيسة الكاثوليكية لحوار مع الآخرين، كل الآخرين. ما أروعها من مقولة وما أصدقه من ايمان !     

لم تكن طريقه سهلة حتى داخل كنيسته، لكنه آمن بها وصارع من أجلها بهدوء وبقناعة المؤمن حتى آخر أيامه . لقد رحل خورخي ماريو الارجنتيني في ثاني أيام عيد الفصح، وبقي البابا فرنسيس في قلوب الناس، وبقي "شعب الخيام" في بؤسه يرددون مزامير"محمودهم" ويصلون معه : "يطول العشاء الأخير ، تطول وصايا العشاء الأخير، أبانا الذي معنا كن رحيما بنا، وانتظرنا قليلا ، ولا تبعد الكأس عنا . لقد ضاق هذا المكان الصغير بصرختنا ، ضاق هذا الجسد بفكرتنا ". ينتظرون، لعل سماء جديدة تنصفهم. 

 

32
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل