لا دين للظلم ولا لضحاياه - جواد بولس
انتشر قبل ثلاثة أيام، في مواقع التواصل الاجتماعي، شريط فيديو لمواطن أمريكي مسلم تعرّض، حسب ما يظهر في الشريط الموجود حاليًا على موقع يوتيوب، لتفتيش أمني مذلّ من قبل طواقم الأمن الاسرائيلي في مطار بن غوريون . ويظهر في هذا الشريط المواطن وهو بصحبة أمرأة تحاول حثه، بصوت عال، للاسراع وتحمّله ذنب تسبّبه بتأخير سفر ثلاثمائة راكب، اضطروا أن ينتظروه داخل الطائرة، حسب أقوالها. في الشريط يظهر وهو يطلب منها ألا تصرخ عليه لأنه لم يكن هو السبب في ذلك التأخير ويشدّد على أن عناصر الأمن الاسرائيلي مذنبون لأنهم أخضعوه للتفتيش لمدة ثلاث ساعات، حتى أنهم أجبروه خلالها أن يخلع جميع ملابسه ليتركوه عاريًا أمامهم. ويرى مشاهد ذلك الشريط كيف يدخل المسافر الى بطن الطائرة وهو يعتذر من الركاب ويعلمهم أنه تأخر بسبب احتجازه لدى عناصر أمن المطار واخضاعه لعملية استجواب وتفتيش، أُجبر فيها على خلع ملابسه كلها وابقائه عاريًا، كان يعتذر ويؤكد انهم عرّوه بالكامل، فلا يكترث أحد لذلك على حد تعبيره. ويقول: " لقد عرّوني لأنني مسلم, هذه هي الحقيقة". ثم نشاهده في لحظة ما وهو يبكي ويجهش ويقول: "هل تعرفون ماذا يعني ان تبقى عارياً .. كل ما اريده ان اعامل كما يجب ولو لمرة واحدة".
من الواضح أن ما مرّ به هذا المواطن الأمريكي المسلم كانت عبارة عن عملية اذلال متعمّدة لا علاقة لها بضرورات التفتيشات الأمنية، وهي كما نعرف، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، ليست محصورة على من هو مسلم ولا في ديانة بعينها؛ اذ واجهها منا المئات من جميع الديانات والملل، مسلمين ومسيحيين ودروز أيضا، وواجهها كذلك الكثيرون من مسافري الدول الاجنبية الذين زاروا اسرائيل من جميع أصقاع العالم.
تمارس اسرائيل سياسة الاذلال، من خلال عمليات التفتيش الأمني، بأشكال متعددة ومواقع مختلفة، لا في مطار بن غورين وحسب. وقد تُعدّ حواجز التفتيش العسكرية المنتشرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتلك المقامة على حدود اراضي عام 1967، واحدة من أهم وأبرز نقاط التماس التي تشهد على تلك الممارسات المُذلّة المتعمدة بكثافة وبدون انقطاع.
من المؤسف أننا لم نعد نكتب عن هذه الحالات حين تحصل معنا أو أمامنا. من الجائز اننا لا نفعل ذلك لكثرتها من جهة، ولإدماننا عليها من جهة ثانية ؛ أو ربما بسبب انتشار أجواء العنف في قرانا ومدننا، وسيطرتها على مشاعرنا وتحكمها بمجسّاتنا واخضاعها بشكل تلقائي لعمليات مقاربة ومقارنة نفسانية تؤدي في النهاية الى تهميش قيمة ما يجري معنا هناك على الحدود وعلى حواجز عسكر الاحتلال؛ لأن الذي نعانيه في حياتنا اليومية من عنف وخوف هو أخطر وأقرب إلينا.
يزورنا من كندا في هذه الأيام ابن خالتنا وزوجته، ومعهما ابنهما وزوجته وطفلهما الرضيع. لخالتي وزوجها خمسة أولاد كانوا من سكان مدينة يافا، في حي العجمي تحديدًا. لم تحتمل عائلتهم أجواء المَذلّة التي واجهوها قبيل وبعد حرب حزيران 1967 مباشرة ، هي حرب الستة أيام التي لا يحب العرب ذكرها بهذا الاسم، لما يحمله من اهانة "لكبريائهم الحربية"، فهاجرت العائلة كلها الى كندا. هاجروا وفي قلوبهم غصة وحلم لا ينام اسمه يافا. ورغم بُعد المسافات، حافظ الابناء على تواصلهم معنا في الجليل، ومع اقربائهم، من طرف والدهم المرحوم ، من عائلة فحل المتواجدين في يافا واللد والرملة، وبعض الاولاد واظب على زيارتنا بشكل دوري .
هذه هي المرة الاولى التي يزورنا بها الابن ، وهو عمليا من مواليد الجيل الاول في كندا، برفقة زوجته البرازيلية ورضيعهما. قمنا باصطحاب العائلة وتعريفها على القدس وبيت لحم وبير زيت. وقبل العودة الى يافا والجليل، زرنا رام الله أول أمس. في المساء قررت، انا وزوجتي ان نعود الى يافا عن طريق عين عريك- نعلين، كي يتعرف ضيوفنا على طبيعة قرى الريف الفلسطيني. كانت الرحلة جميلة ومثرية وصلنا في نهايتها الى حاجز الجيش القريب من قرية نعلين أو "حاجز موديعين" حسب قاموس الاحتلال: وهو أحد الحواجز العسكرية الكبيرة، ويشكل معبرًا رئيسيا لآلاف المستوطنين، ومثلهم لآلاف العمال الفلسطينيين الذين يتوجهون من خلاله للعمل الى اماكن عملهم داخل اسرائيل.
في الحاجز عدة مسارات كي تستقبل مئات السيارات. كانت الحركة "سالكه"، وهي الكلمة التي نحبها في فلسطين عندما نقترب من الحواجز. دخلنا في احد المسارات فاستقبلنا في نهايته شاب نحيف؛ مد من بعيد وحرّك أمامي اصبعا نحيفًا فتوقفت. سألني من اين أتيت والى اين اتجه، فاجبته: "من رام الله والى يافا". طلب بطاقات هوياتنا فأعطيناه وبعد تدقيقها اعادها وأمرنا بالتوجه الى هناك، واشار بذات الاصبع النحيف الى سقيفة كبيرة. ففهمت ان رحلتنا مع الفرح قد انتهت، وسيبدأ فصل الشقاء والمذلّة. حاولت أن استفسر عن سبب قراره بينما كانت تمر أمامنا عشرات السيارات، فأشاح بوجهه عنا وتطلع نحو السيارة التي خلفي وأشار بإصبعه نحوها. كانت سيارة قريبي الشاب وزوجته وطفلهما. تقدمت نحو السقيفة، ولحقني، بعد لحظات، قريبي الشاب وزوجته. كنا في حالة سكون وغضب دفين.
بعد لحظات توجهت الينا مجندة من مهاجرات اثيوبيا. كانت متحمسة بشكل لافت وصارمة كالليل، فطلبَت ان افتح جميع أبواب السيارة وأن نخرج نحن ونخرج جميع الحقائب وأن ندخل الى ذلك المبنى، وكانت تشير بيدها نحو باب لم نعرف ما وراءه .سألتها اذا كانت تنوي تفتيش جميع الحقائب يدويًا، فقالت : "أمامكم خياران : إما إن نفتشها يدويًا وإما أن تقوم الكلاب بتفتيشها"، واشارت نحو مجندة شقراء كانت تجر كلبًا أشقر كبيرًا . قلت لها اعتقد ان الوضع يلائم اكثر لفحص الكلاب فدعوا الكلاب تنهي المهمة . نظرت نحوي باشمئزاز وقالت: "اذا اتركوا كل شيء وادخلوا الى هناك".
والى جانبنا كانت مجندة أخرى تطالب ابن قريبي وزوجته ان يُخرجوا من سيارتهم جميع الحقائب وكذلك طفلهم، بالرغم من انه كان يغط في نوم عميق في مقعده الخاص. حاولنا ان نقنعها أن تشفق على الطفل وتتنازل عن ايقاظه، الا انها اصرّت وصرخت بشبه تهديد: "لن أكرر طلبي مرة أخرى" . فهمَت أمه البرازيلية من الاشارات، ما تريده المجندة فنقرت على كتفه نقرتين فصحا. بكى الطفل في البداية ثم تبسم وهدأ، ودخلنا نحن السبعة وراء الباب.
كانت الغرفة معدّة للتفتيش وفيها ماكنة لفحص الحقائب، وبوابة لفحص البشر. سمعنا من ورائها صوت فتاة يطلب من كل واحد منا أن يضع جميع ما عليه وفي يديه داخل الماكنة ثم ندخل بترتيب وبنظام في الباب المغناطيسي . دخلنا تباعًا فطلبت من كل واحد منا مرة اخرى بطاقة هويته وهاتفه وقامت بفحصهم بجهاز يشبه فرشاة الشعر. ثم توجهت اليّ وطلبت ان افتح حقيبتي الخاصة، بعد ان مرّرتُها في الماكنة ؛ فاخبرتها بانني محام ولن اقبل ان تفحص الاوراق التي بداخلها. نظرت اليّ مستغربة من "وقاحتي"، لكنني بدوتُ مصرّا، فقبلت بعد مناقشة بسيطة ان تنظر الى داخل الحقيبة ثم طلبت مني ان اعيدها الى فحص مكرر داخل المكن، كأنها كانت تريد الثأر "لكرامتها" ومعاقبتي.
خرجنا من الغرفة فوجدنا الحقائب ملقاة على الأرض والكلاب قد أنهت مهمتها؛ لكننا لم نجد من نكلمه. انتظرنا منهكين وواجمين حتى عادت تلك السمراء ووراءها الفتاة الشقراء تجر كلبها الاشقر. كان يبدو الفرح على وجهيهما. نظرَت إلينا وأعلنت بحركة بهلوانية بكفيها انهم انهوا المهمة، وبمقدرونا ان نعيد حقائبنا ونرحل.
كان الحر شديدًا وكان الطفل يبكي وكنا نعاني من اعراض مشاعر اليأس ودوس الكرامة .كانت سيارات اليهود والمستوطنين تعبر الحاجز بحرية وبيسر ظاهرين، وكان بعض المجندين/ات يلوحون لهم أحيانًا بأياديهم. رحنا نعيد اغراضنا الى داخل السيارتين بصمت حانق، بينما كانت صدورنا تغلي بالوجع وبالصبر. لاحظت ان زوجة ابن خالتي، الفلسطينية الكندية تبكي بالسر وتحاول ان تخفي بكاءها عنا.
كانت يافا وجهتنا، حيث سيمضي اقربائي بصحبة اصدقائهم بضعة أيام ، يعودون بعدها الى قريتنا، كفر ياسيف الجليلية. " لا بأس، دعوهم يعربدون كما يشاؤون"، هكذا بهدوء مهجري توجه قريبنا الينا، وطلب مني ألا أغضب، "فصحّتك أهم من سفالتهم " قال، وأضاف: "أعرف أن العجز قاهر ، وأعرف أن الاذلال قاتل، لكنني أعرف كذلك ان الظلم باطل وان الحق باق وأن الأمل في الغد أقوى من كل الحواجز المحروسة بالسلاح وبالكلاب والمسكونة بالشر وباصحاب النفوس المعطوبة".
حاولنا ان ننسى ساعتين من الشقاء والمهانة وكدنا ننجح لولا بكاء الرضيع المتواصل وصدى اوامر المجندات وطنينها في آذاننا. وصلنا يافا فملأت رائحة البرتقال صدورنا.
لا اعرف من يكون ذلك المواطن الامريكي المسلم الذي انتشر شريطه قبل يومين على منصات التواصل الاجتماعي. لكنني كنت اتمنى لو يقرأ مقالي هذا، ليعرف، هو ومن يؤمن مثله، أن الشر ، مثله مثل كل حالة وايمان وسلوك، عندما يصبح مطلقًا، لا يفرق بين ديانة وديانة ولا بين انسان وانسان . الشر في حالتنا هو طبيعة الاحتلال المطبوعة فيه والمطلقة، وهو طبيعة من يولدون في حضن هذا الاحتلال ويترعرعون في فضاءاته، وهو حين يولد يكون خالصًا وطبيعيًا. كم كنت أتمنى لو يقرأ هذا السائح عمّا نعانيه نحن في فلسطين كل يوم الاف المرات، وليعرف انهم عاملوه كما عاملوه ليس لانه مسلم وحسب ، بل لأن طبيعة هؤلاء الاشرار لا تعرف إلا ان تمارس الشر والظلم ضد المسلمين وغيرهم .
قد يقرأ البعض ما أكتب هنا فلا يعيره اهتمامًا أو قد يسخر منه، ربما لأنه قد عانى مثله، أو أقسى منه على احد حواجز الاحتلال، او في احد المعابر الحدودية الاسرائيلية. عانوا ولم يكتبوا عن تجاربهم ولم ينشروها، لأنهم، كما قلت، قد اعتادوا ممارسة حياتهم اليومية في ظل الشر وفي كنف وكلائه. لقد اعتادوا على مسايرة الشر والظلم ومهادنته حتى الصمت والرضوخ . كم كنت اتمنى أن يعرفوا أن الصمت عن المذلة عبودية، وأن العيش في حضن العجز مذلة، وأن لا شيء سوف نتركه لاولادنا ولا لجيل ذاك الطفل الرضيع، سوى حفنة من الأمل، وارادة تصر على مواجهة الظلم والظالمين أو على الأقل فضحه وفضحهم.