من 'صفقة البرتقال' إلى صفقة 'نعمة يسخار
5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
مقابلة في جريدة النهار
من 'صفقة البرتقال' إلى صفقة 'نعمة يسخار'... روسيا تريد أملاكها في فلسطين | النهار العربي (annaharar.com)
أعلنت روسيا أخيراً أنها تنوي البدء باستعادة ثلاثة مواقع مرتبطة بها تاريخياً في فلسطين، وقال رئيس مجلس الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية إيغور أشوربيلي إن المواقع تشمل كنيسة الصعود التي يطلق عليها شعبياً اسم (الشمعة)، وهي الأكثر أهمية بالنسبة إلى الأرثوذكس وروسيا، ودير مريم المجدلية والكنائس على جبل الزيتون في القدس في مربع الجثمانية، أما الموقع الثالث فهو أيمان الجليل.
وقامت الجمعية بمسح كل الأراضي والقطع التي لم يتم تحديد مالكها. وأشار أشوربيلي إلى أن موسكو تتمتع الآن بفرصة تاريخية فريدة لتغيير الوضع القائم إلى ملكية تابعة لروسيا الاتحادية، وإذا لم تقم بذلك الآن فإن جميع الممتلكات التي لم تنجح في تمرير تعريف المالك ستصبح ملكاً لإسرائيل.
ويقول الخبير في الشؤون الروسية الدكتور سمير الخطيب لـ"النهار العربي" إن "الجانب الروسي يؤكد أن القضية هي قانونية بحتة مع الجانب الإسرائيلي، وحتى مع الجانب الفلسطيني هناك نقاش قانوني مع السلطة الفلسطينية حول ملكية بعض العقارات. فبعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أصبحت العلاقات الروسية - الإسرائيلية متوترة جداً، ومن الطبيعي أن يدخل هذا الموضوع أيضاً ضمن الصراعات، ويصر الروس على قانونية هذه القضية وعلى أنه لا يمكن المساومة عليها رغم كل التعقيدات، فأملاك الروس في فلسطين التاريخية تقدر بنحو 5000 دونم موزعة في مناطق القدس، الناصرة، طبريا، يافا، حيفا، بيت لحم، بيت جالا، أريحا والخليل.
وتابع الخطيب: "هذه القضية معقدة لأنها مرت بثلاث حقب تاريخية مختلفة: أولاً روسيا القيصرية، ثانياً الاتحاد السوفياتي وأخيراً روسيا الاتحادية. وهناك جهات مالكة عديدة لهذه الأراضي: الدولة الروسية، وزارة الخارجية، الكنيسة الروسية، روسيا البيضاء، الكنيسة الحمراء، الجمعية الأرثوذكسية الفلسطينية البيضاء والجمعية الأرثوذكسية الفلسطينية الحمراء، والآن يتابع الروس بجدية هذا الأمر بعدما أهملوه لسنوات طويلة، كما تم تعيين رئيس الوزراء الروسي الأسبق سيرغي ستيباشين رئيساً للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية. لهذه الدرجة تولي روسيا أهمية للموضوع".
وأوضح الخطيب أن "الروس يتابعون أملاكهم متابعة دقيقة، سواء في المحاكم الإسرائيلية أم الفلسطينية، لاسترجاع هذه الأملاك والأراضي، وبخاصة في مدينة القدس، لمكانتها ورمزيتها العالمية وحتى يكون لهم التأثير، فمن يملك السيطرة الدينية فيها يملك السيطرة السياسية لاحقاً لكل تطور قد يجري فيها".
من أين لروسيا ممتلكات في فلسطين؟
عام 1856، وبعد هزيمتهم في "حرب القرم" التي كان من أبرز أهدافها السيطرة على الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين، أدرك الروس أن تحقيق هذا الحلم لن يتم إلا بالقضاء على الدولة العثمانية، في عام 1882 تأسست "جمعية فلسطين الأرثوذكسية الإمبراطورية"، وامتلك الروس عدداً من العقارات في الأراضي الفلسطينية بهدف توسيع نفوذهم الجيوسياسي وحضورهم في المنطقة التي تعتبر مهد المسيحية.
وفي أوائل القرن التاسع عشر، تمكنت الإمبراطورية الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الروسية من الاستحواذ على مجموعة كبيرة من العقارات، وإنشاء البنية التحتية المصممة لاستقبال الحجاج الروس القادمين من روسيا والبلدان الأرثوذكسية الأخرى، فقامت ببناء الفنادق والمدارس التي وصل عددها إلى 114 والمستشفيات ودور العبادة، وهو ما يُعرف بفلسطين الروسية، مستغلة نظام الامتيازات العثماني لفرض وجودها، ونصّبت نفسها راعية على المسيحيين الشرقيين - الأرثوذكس. وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، احتفل أكثر من 20 ألف حاج روسي بعيد الفصح في مدينة القدس، وبلغت القيمة الإجمالية للأموال غير المنقولة للجمعية رقماً خيالياً هو مليونا روبل ذهبي، فيما سيطرت القوات العثمانية على الأملاك الروسية لغاية عام 1917.
بعد أشهر قليلة اندلعت الثورة البلشفية التي أطاحت روسيا القيصرية، ليقوم الاتحاد السوفياتي الذي قلص سلطة الكنيسة، وقطع عنها تدفق الأموال، كما امتنع السوفيات عن تعيين ممثل بطريركي كونهم دولة علمانية ونظاماً لا دينياً، فرفض ممثلو الاحتلال البريطاني في فلسطين الاعتراف بسلطة السوفيات، وأدى ذلك إلى إبقاء العديد من الممتلكات الروسية مغلقة كلياً. بعد النكبة واحتلال فلسطين التاريخية عام 1948، وفي ظل العلاقات الإسرائيلية – الروسية الجيدة، إذ كان الاتحاد السوفياتي أول دولة تعترف بإسرائيل، تساهلت الحكومة الإسرائيلية بإرجاع كل الممتلكات الروسية إلى الكنيسة في موسكو، بخاصة في الجزء الذي احتلته، لكن لأن السوفيات لم يهتموا بالأملاك الدينية خاصة، تم عقد صفقات لبيع الممتلكات وتأجيرها إلى الحكومة الإسرائيلية، ومن بينها مبنى البعثة، الكنيسة الروسية، كاتدرائية الثالوث ومبنى سيرغي.
صفقة البرتقال
أطلق المؤرخون على الاتفاقية الرقم 593 عام 1964 التي باعت بموجبها حكومة الاتحاد السوفياتي معظم أملاكها في فلسطين إلى الحكومة الإسرائيلية "صفقة البرتقال"، وقد سُميت بذلك لأن إسرائيل دفعت قيمة المبلغ المتفق عليه من برتقال يافا 3.5 ملايين ليرة إسرائيلية آنذاك (ما يعادل 4.5 ملايين دولار أميركي)، وقد وقع على الاتفاقية من الجانب الإسرائيلي كل من وزيرة الخارجية غولدا مائير ووزير المالية بنحاس سابير، وعن الجانب الروسي السفير فوق العادة – الوزير المفوض للاتحاد السوفياتي ميخائيل بودروف، ورغم إبرام تلك الصفقة لا تزال روسيا حالياً في الترتيب الثالث بعد اليونان والفاتيكان من حيث حجم الممتلكات في الأراضي المقدسة.
ويرى الخطيب أن "روسيا أعادت اليوم فتح ملف صفقة البرتقال على مصراعيه، وهي تدّعي أن هناك تزييفاً كاملاً، بخاصة أن صفقات بيع الأراضي يجب أن يوقّع عليها إما رئيس الدولة خورتشوف أو وزيرالاقتصاد في ذلك الوقت، وفي صفقة البرتقال لم يوقع أي منهما".
واعتبر الخطيب أن "القضية مركّبة، إذ لم يكن للاتحاد السوفياتي الشيوعي أي أطماع دينية، لذلك كان من السهل التفريط بهذه الأراضي مقابل مواقف سياسية معينة، ولم يكترث الروس كثيراً لهذه الصفقة كما يجب من الناحية الدينية. تبدأ القضايا بالناحية الدينية ثم تأخذ منحى سياسياً، حالياً تتم دراستها من جديد ويتم بحثها من كل النواحي القانونية، وهناك مستندات مخفية وما زال الخبراء يدرسون كيف للاتحاد السوفياتي أن يتخلى عن أراض تابعة له بهذه السهولة".
وكان الروس قد تحركوا لاستعادة أملاكهم الكنسية في فلسطين في بداية التسعينات، وفي عام 2008 وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت على إعادة "ساحة سيرغي" في مبنى المسكوبية، بعد ضغوط وتحركات ظهرت كبادرة حسن نية مقابل أن لا تقوم روسيا بتزويد سوريا وإيران بنظام إس 300، علماً بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون كان قد اقترح عام 2003 تسليم الساحة إلى الروس مقابل توقف روسيا عن بيع الأسلحة لدول الشرق الأوسط، لكن الروس حينها رفضوا العرض بالمطلق، خضعت بعدها الساحة للترميم بكل مكوناتها وتم افتتاحها عام 2017، وفي عام 2018 احتفل فيها باليوم الوطني الروسي لأول مرة في القدس.
يسخار مقابل كنيسة ألكسندر نيفسكي في القدس
اعتقلت السلطات الروسية عام 2019 شابة إسرائيلية تدعى نعمة يسخار في مطار موسكو بتهمة تهريب مواد مخدرة، وحكم عليها بالسجن لمدة سبع سنوات ونصف سنة، لكن تم الإفراج عنها في آذار (مارس) من عام 2020 بعد أقل من عام، عادت الشابة الإسرائيلية على متن طائرة نتنياهو الذي أجرى مفاوضات حثيثة لإطلاق سراحها، وفي اليوم التالي لإطلاق سراحها كتبت الصحف الإسرائيلية أن الإفراج عن الإسرائيلية المتهمة بحيازة المخدرات لم يكن مجانياً أبداً، بل كان نتيجة لصفقة أُبرمت بين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يتم بموجبها تسليم كنيسة روسية في القدس، تقع داخل البلدة القديمة، تحديداً إلى الشرق من كنيسة القيامة، إلى روسيا.
ونصت الصفقة على إطلاق سراح يسخار، مقابل تسجيل ملكية كنيسة ألكسندر نيفسكي باسم البطريركية الروسية الاتحادية، وتعتبر الكنيسة صرحاً مسيحياً هاماً، مساحته الكلية تتجاوز دونماً ونصف، وتضم كنيسة وفندقاً ومنشآت أخرى.
عام 1859 نُقلت ملكية الأرض من الدولة العثمانية إلى القنصل الروسي من أجل بناء مبنى للقنصلية الروسية في القدس، وبعدما بدأت الحفريات في المكان، تم اكتشاف آثار رجح أنها مرتبطة بكنيسة القيامة، لذلك قرر الروس بناء كنيسة أطلق عليها اسم ألكسندر نيفسكي تحت إدارة "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" حتى تاريخ إبرام الصفقة الشهيرة لتصبح تابعة لحكومة روسيا الاتحادية.
ورأى الخطيب أنه "بعد البحث لا تأكيدات لا من الجانب الروسي ولا من الجانب الإسرائيلي حول إبرام مثل هذه الصفقة، أو أن الإفراج عن يسخار مرتبط بإعادة كنيسة ألكسندر نيفسكي إلى روسيا، فيما يعتبر الجانب الرسمي الروسي أن أي صفقة من هذا النوع هي استهتار بالأملاك الروسية، فعندما يتعلق الأمر بالأراضي الروسية فإن الروس لا يساومون، كما أنهم اعتبروا قضية يسخار قضية إنسانية بحتة بعدما توجه نتنياهو لبوتين وحصلت على العفو، والدليل أن قضية كنيسة نيفسكي لم تحل نهائياً، وآخر رسالة موجهة من المحكمة الإسرائيلية أعادت الموضوع إلى الحكومة الإسرائيلية بحجة أن هذا القرار سياسي لنقل الملكية إلى الحكومة الروسية، بعدما تم فحص العقود والأوراق الثبوتية، لذلك طالب بوتين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت بحل هذه القضية التي تعتبر المرحلة الثانية من استعادة الأملاك بعد مبنى سيرغي".