مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

لوليتا وليليت/ث... وغوص في بحر الأدب والميثولوجيا د. سمير خطيب

5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
1254
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

لوليتا وليليت/ث... وغوص في بحر الأدب والميثولوجيا د. سمير خطيب

لم أكن أعرف أن لوليت/ث هي الأمّ الروحية للوليتا، حتّى قرأت عشرات المقالات والعديد من الكتب وشاهدت الأفلام لأكتشف أن لمعشوقتي الأولى أمًا روحية واسمها لوليت، وأصل الحكاية أنّي تعرفت على لوليتا وأنا شاب صغير، وقد عرّفني عليها الشاعر نزار قباني عندما كتب عنها قصيدة "لوليتا":

صار عمري خمس عشر

كل ما في داخلي.. غنى وأزهر

كل شيء.. صار أخضر

شفتي خوخ.. وياقوت مكسر

وينابيع.. وشمس.. وصنوبر

حتى أنّني صرت كلّما ردّدت القصيدة أتخيّل لوليتا مع كلّ كلمة من القصيدة وأتساءل أين هي الآن؟ وماذا تلبس؟ وماذا تفعل؟

وأنا للحقيقة أعجبني الاسم أكثر من الصفات المنسوبة له فمجرّد لفظه يدلّ على الرّقة والنعومة، ويقال أنّه اسم اسباني بالرغم من أن أحدًا لم يؤكد ذلك ولكنّي لم أعرف لماذا اختار نزار قباني اسم لوليتا؟

 

قبل أشهر قرأتُ رواية "لوليتا" للكاتب الروسي ألكسندر ناباكوف الّتي كتبها عام 1955، فتذكرت لوليتا نزار قباني وتبيّن لي أن نزار استحضر لوليتا من وحي تلك الرّواية، ويدّلنا على ذلك أسلوب نزار المميّز، فعدا عن أنّه كان أول شاعر عربي ينتقل بلغة الشعر من نخبويتها إلى شعبيتها، وأنه استحضر المرأة العربية كائنًا بشريًا مستلبًا، ووقف معها وإلى جانبها، فقد وجد أن هنالك جمهورًا مغيبًا عن المشهد الشعري العربي، وهو جمهور المراهقين تحديدًا، فامتشق قلمه وتحدّث بلسان هذه الشريحة الأكبر في العالم العربي، فكانت قصيدة لوليتا! وذلك لأن رواية لوليتا لناباكوف تحكي عن هوس رجل بالغ بمراهقة، وهي تحمل في سطورها قصّة جريئة وإشكالية كمثال على تعقيدات النفس البشرية.

 وللحقيقة موضوع الرواية شائن في كل زمان ومكان، لأنّها تتمحور حول رجل يختطف ويغتصب طفلة تبلغ من العمر 12 سنة، ويحتجزها حتّى تبلغ الرابعة عشرة، وهنا لا يمكن لوم من امتنعوا عن متابعة قراءة الرواية، ولكن وبالرغم ممّا ذكر إلّا أنّ الرواية تعتبر من أكثر الروايات مبيعًا حتّى اليوم ولهذا يُسأل السؤال هل الناس تفكر بطريقة غير سليمة؟ أم أنّ حبّ الاستطلاع الّذي دفع الناس لمتابعة القراءة كما حصل معي. واقتبس: "لوليتا يا نور حياتي ونار صدري يا خطيئتي وروحي"، " لكنها كانت جميلة للغاية، رائعة إلى حد أنه لا يمكن للمرء إلا أن يعزو تلك الحلاوة إلى جنية سحرية تضيء وجهها تلقائيًا".

 

لقد تناول النقاد كثيرًا "ظاهرة لوليتا" لأن لوليتا أصبحت ظاهرة تشير إلى الفتيات اللواتي يحاولن إغراء من يكبرهن بالعمر، ولكن الحقيقة كما رأيتها من الرواية أن القصة تتمحور حول طفلة بعمر 12 عامًا قد استُغِلّت أبشع استغلال وانتُهِكت بأبشع الطرق و حُرِمت من طفولة طبيعية، وليس حول فتاة تحاول إغراء الرجال، وبالرغم من أنّ الرواية تراجيدية، ونابوكوف كتبها بحرفية عالية، مطعمًا فصولها بلغة راقية وساخرة منحتها شهرة واسعة حتى بعد مرور أكثر من ستين عامًا على نشرها، فالرواية تجسدت في التّعمق في أبشع سلوك بشري ممكن (البيدوفيليا)، وفي قدرته على طرح أكثر المواضيع حساسية وإثارة للقرف والاشمئزاز، ولكن بأسلوب راق غير منفر. وإذا عدنا إلى لوليتا كما تبينها الرّواية فهي مزيج من الطّفلة والمُراهقة والمرأة النّاضجة، شخصيّة مُركّبة لا تحكمها القواعد الإنسانيّة السّويّة، ولا يُمكن توقّع تصرّفاتها. مشاعرها مُتناقضة، فهي الطّفلة الّتي تُحبّ (همبرت) كأبيها، وتكرههُ لأنّه شوّه طفولتها، وفي الوقتِ نفسه تُشاركه الفِراش في إشارةٍ إلى فضولها الجنسي ورغبتها المُستعرة.

 

من اللافت للانتباه أن لوليتا ناباكوف لاقت الانتشار الواسع غربيًا وعربيًا، واقتبست قصّتها العديد من الأفلام السينمائية العربية والعالمية، قبل أن تغزو الولايات المتحدة الأمريكية أواسط التسعينات، ثم القارة الأوربية في نهاية تلك السنوات. وأصبح لدينا الكثير من اللوليتات، وصار كتّاب الرواية يعتملون شخصية على غرار لوليتا نابوكوف، فها هو الكاتب واسيني الأعرج يستحضرها في روايته "أصابع لوليتا " واصفًا إياها بالكلمات التالية: " لو... لي... تا ... ثلاثة مقاطع من امرأة واحدة، متعدّدة لا توجد إلا على ورق الكتب الممنوعة. كانت لوليتا مغرية كمومس محترفة، وعذراء كمريم، ملاك كامل في الهالة المدهشة التي تحيط بشعرها الأشقر، وشيطان يعرف خفايا الأشياء المؤذية. كلامها فيه من براءة الملائكة وعنف الشياطين ومغريات التائهين. تربية القصور، ونشأة بنت الزنقة. فيها من دفء مريم، وعبث راسبوتين، ويأس كارنين وبراءة ليلي. وجهان في وجه واحد"، وهي رواية إنسانيّة بامتياز، تسير على إيقاع أطراف الحياة الكبرى: الحبّ والكراهية، الحقّ والظلم، العقل والجنون، البراءة والإجرام.

 

في "طهران" مظلومة ومضطهدة ومتمردة

وهناك صورة أخرى للوليتا صوّرتها آذر نفيسي في كتابها "أن تقرأ لوليتا في طهران"، قراءة لوليتا في طهران هي قصّة محاضرات في التمرد امتدت على سنتين، لقنتها نفيسي لمجموعة من النساء الإيرانيات ابتداء من عام 1995 بعد استقالتها من وظيفتها في الجامعة؛ وظيفة لم تستطع تحمّلها بسبب النظام الديني الإيراني. وعلى مدى سنتين، قبل أن تهاجر إلى الولايات المتحدة، أسّست نفيسي وطالباتها دائرة من الحريّة الشخصية لهنّ، تخلّلتها قراءة روايات فلاديمير نابوكوف وسكوت فيتزجيرالد وجاين أوستن وهنري جيمس، ونفيسي ذاتها بعد جولات ومحاولات خضعت لقانون الجمهورية الإسلاميّ وارتدت الحجاب، كما فعلت أمها وطالباتها وكل النسوة حولها، لكنّها رفضت أن تحجب عقلها وقلمها كما تريد السلطة، فأصرّت على ان تستمرّ بتعليم روائع الأدب العالمي في الجامعة، رغم ما تعرّضت له من ضغوط للكفّ عن تعليم روايات قيل إنها تشجّع على الرذيلة وتروّج للغرب وأمريكا، ومن بينها رواية "لوليتا" لناباكوف التي نرى اسمها واضحًا في عنوان الكتاب، ورواية "لوليتا" لنابوكوف، من الكتب الكثيرة التي مُنعت وسُحبت من المكتبات في إيران، لذا كانت قراءة "لوليتا" ومناقشتها مع الطالبات في طهران أمرًا يلخّص كل ما أرادت الكاتبة قوله، ويعبّر عن محاولات المثقفات الإيرانيّات الخروج من العباءة التي أُكرهن على ارتدائها فكريًا، -ولو التزمن بارتدائها ظاهريًا- واستحضار لوليتا هنا واختيارها لاسم الرواية يحمل الكثير من المعاني لأن لوليتا أصبحت رمز التمرد والسعي نحو الحرية المسلوبة خاصة للنساء في إيران.

"لوليتا" في "طهران" مظلومة ومضطّهدة ومتمردة كما كانت "لوليتا" في عالم "همبرت" لناباكوف. فهي لا تعرف ما الّذي يدور حولها، وهي ضعيفة، وهي مرغوبة، وهي مرفوضة، وهي مطاردة، وهي مراقبة، وهي جميلة وحرّة فقط في أعماقها.

 

 "لوليتا" تبحث بقلق قبل أن تخرج إلى الجامعة كل صباح عن خصلة شعر سقطت من إيشاربها/ "لوليتا" تُفتَّش كما يفتّش المجرمون عند البوابة/ "لوليتا" توقع محضرًا لأنها ركضت في الحرم الجامعي/ "لوليتا" تطرد من الجامعة لأنها ضحكت بصوت عالٍ/ "لوليتا" تُسجن وتعذَّب وتغتصب/ "لوليتا" تخرج من السجن للتزوّج من رجل لم ترضه/ "لوليتا" تُعدم/ "لوليتا" تُرجم لأنها زانية/ "لوليتا" لا تشاهد التلفاز/ "لوليتا" لا تأكل الآيسكريم في الشارع". وكما نرى في الثلاث روايات، تظهر لوليتا بصورة الفتاة المتمردة والساعية إلى الحرية والمساواة، وهذا السؤال بالذّات حيّرني فانطلقت أبحث عنه وأتساءل لماذا تم اختيار لوليتا بالذّات لهذا الدور؟ ومن أين جاءت؟ حتّى أثارت الشعراء والكُتّاب وكتبوا عنها ما كتبوا، ومع أنّ كل واحد كتب بأسلوبه، لكن روح التمرّد والاستقلالية والحبّ والأنوثة كانت تميّز كل اللوليتات، وهل الأمر مرتبط بظاهرة لا يمكن تجاهلها؟ والتي قد عبر الفرد والمجتمع عنها بأسلوب اعتمد على محاكاة اللاوعي وتكوين رؤية لكائنات غير موجودة في الواقع الخارج عن حدود ذهنه أو أحلامه؟! وهل لوليتا هي الوسيط لهذا العقل بين الأحداث الطبيعية والمعتقدات الدينية والفلسفية؟

 

عودة للأساطير والملاحم

لهذا كان لا بد من العودة للأساطير وملاحم الأوّلين ووجدت أمرًا لافتًا للانتباه وهو أن الاسم لوليتا والصفات المرافقة له، يملك أصولًا قديمة منذ بدء الحضارة والتاريخ ومنذ محاولة تفسير الظواهر الطبيعية والأحداث المحيطة كما سمّاها فراس السواح في كتابه " مغامرة العقل الاولى". ووجدت أسطورة "ليليت"، وهي حكاية أول امرأة تمرّدت على الأوامر الإلهية عند بدء الكون والخليقة وقد عثر عليها مدونة بالخط المسماري وباللغة البابلية القديمة.

برزت شخصية ليليث، للمرّة الأولى في ملحمة جلجامش السومرية، وانتقل تصوّرها إلى الثقافة اليهودية، فقدمت اليهودية الحاخامية، وجهة نظر بديلة عن قصة الخلق كما وردت في "الكتاب المقدس"، حيث اعتبر الـ"تلمود" ليليث زوجة آدم الأولى بدلًا من حواء، وأشار إلى أنّها تمرّدت وتخلّت عن آدم، فقام الله باستبدالها بحواء. وقد اختلف لفظ اسمها وفق كل حضارة، فهي "ليليث" بالعبرية، و"ليليتو" بالأكادية، وكلاهما من الجذر "ليلَ" الذي يعني الظلام.

 

وتقول الحكاية ان الإله صنع آدم ثمّ رأى أن آدم يعاني من الوحدة، وقال إنه يحتاج الى امرأة، ثم قام وصنع من التراب ذاته امرأة تمامًا كما صنع آدم، وقال للرّجل والمرأة ليليت إنه يجب عليهما الاتحاد جنسيًا ليتم التكاثر البشري، ولكن ليليت ترفض أن تستلقي تحت آدم لأنه مثلها وليس أعلى منها مرتبة ليكون فوقها. ثم ما لبثت أن قرّرت رفض الأمر الإلهي وغادرت الجنة واختفت، وصار اسمها المظلمة، فقام الاله وصنع حواء من ضلع آدم لتكون زوجة لآدم وطلب منها أن تكون خاضعة وتابعة لآدم وتلبي رغباته والتزمت حواء بذلك....

وهنا يبدأ الصراع بين حواء ولوليت حيث استيقظت البشرية على حضور امرأة أولى في وعيها البدائي، تجسّدت في كافة الأديان والثقافات والأساطير، بوصفها حواء، المرأة المخلوقة من ضلع الرجل، هذا الضلع الناقص الذي اكتمل بوجودها، معزيًا للذهن حالة التبعية والعبودية والخضوع، ذلك لأن البطريركية الذكورية المتعالية، وبحركة سلطوية إقصائية، أبعدت ليليت المرأة التي سبقت بحضورها وتجسدها حواء، الزوجة الأولى لآدم وفق سفر التكوين.

وهذا الإقصاء لم يأت عبثًا، بل كان مرحلة مارس معها الصعود الذكوري في المجتمعات المتحولة من نظام اقتصادي أمومي إلى نظام يسيطر فيه الرجل بسلطته عن طريق إخضاع المعادل المؤنث لوجوده، ومع هذا اختلفت الأقاويل حولها حتى أصبحت شخصية متناقضة بحسب الأساطير فلكلّ مجموعة أساطيرها من وحي القصة الاولى وبما أنها المظلمة أي الغامضة فقد أعطيت أيضًا صفات متناقضة. ومن أجمل ما قرأت عن لوليت هي "تدوينات ليليت" (التي لم أعرف كاتبها): "الأولى التي لم تكتفِ لأنّها الوصال الكامل، الفعل والتلقي، المرأة التمردُ لا المرأة الـ "نعم". "يا آدمَ ابتعد بِجَنّتِكَ عني فَلَسْتُ أريدُ نَعيمًا يُخْضِعِني، أَعْلَمُ بِأَنَّ إِبْليس سَيَفْتِكُ بي وَحْدي هُنا، وَلا أَعْرِفُ أَيْنَ أَنَا… أَشْتَهيكَ وَأَنْتَ لا تَدْرِي"، "أنا العتمة الأنثى، لا الأنثى الضوء، لن يحصيني تفسير ولن أرضخ لمعنى، وَصَمتني الميثولوجيا بالشرور ورشقتني النساء بالرجولة، لكني لستُ المسترجلة ولا المرأةَ اللُعبة، بل اكتمال الأنوثة الناقصة، لا أشنّ حربًا على الرجال ولا أسرق الأجنّة من أرحام النساء، فأنا الشيطانة المطلوبة، صولجان المعرفة وخاتم الحب والحرية".

 اذا فليليت هي القديسة والعاهرة، هي الجزء المظلم من الأنثى، المستقلّة الرافضة للسيطرة المطالبة بالمساواة مع الذكر، ليليت باللّغة العبرية تعني العتمة، لكنني أميل إلى الظن بأن العتمة كصفة لا تنبع من الشّر بل من كونها أسطورة بالنسبة للبشرية مجهولة، غامضة وخيالية، لا يمكن إثباتها أو إلغاؤها، ويمكن اكتشافها في العمق الإنساني بل وتفسّر الكثير من العقد والطباع التي لا نستطيع إيجادها ولا تفسيرها في حواء الأنثى المخلوقة من ضلع آدم الأعوج ومن أجله، والمعترف بوجودها كشخصية حقيقية دون أن تنفي وجود ليليت، لكن الحقيقة دومًا تهمِّش الأسطورة التي تغدو لنا خيالًا أو وهمًا، لتبقى ليليت جزءًا مظلمًا يصعب الوصول إليه، ولا يستحيل افتراضه…

 

وكتبت الصحافية اللبنانية جمانة حداد في ديوان شعرها "عودة ليليت ": "أنا المرأة القَمَران ليليت. لا يكتمل أسوَدهما إلا بأبيضهما، لأنّ طهارتي شرارةُ المجون وتمنّعي أول الاحتمال. أنا المرأةُ الجنّة التي سقطت من الجنّة وأنا السقوط الجنّة أنا العذراء ليليت، وجه الداعرة اللا مرئي، الأم العشيقة والمرأة الرجل. الليلُ لأني النهار، والجهة اليمنى لأني الجهة اليسرى، والجنوب لأني الشمال، أنا المرأة المائدة وأنا المدعوون إليها. لُـقبّتُ بجنّية الليل المجنحة، وسمّاني أهل سومر وكنعان وشعوب الرافدين إلهة الإغراء والرغبة، وسمّوني إلهة اللّذة المجانية وشفيعة الاستمناء. حرّروني من شرط الإنجاب لأكون القَدَر الخالد".

اهتمّ الأدب والفن القديم على وجه الخصوص بليليث المتمردة التي تضيع نفسها في التأكيد على حقّها في الحرية واللذة والمساواة مع الرجل وكذلك كلّ اللواتي يلتقين بها، كما أنّها امرأة شهوانية ومدمّرة تطمح إلى التفوّق وإلى القدرة والقوة، وكل الصور التي وجدت لليليت من تلك الفكرة تظهرها مع الأفعى والبوم وتدوس على الأسد برجلها كرمز للسم والبشاعة والسيطرة على الرجل بالرغم من أن الافعى ترمز في نفس الحضارة إلى الدواء وهي حتى اليوم شعار الطب، والبوم في كل الحضارات يرمز للحكمة وخضوع الأسد ليس بحاجة لقوّة بقدر ما أنه بحاجة لذكاء.. والمقصود هنا أنّ كل صفاتها متناقضة ويمكن تفسيرها على وجهين بحسب القناعة والفكر المتجذّر أصلًا.

تمثّل أسطورة ليليت الجزء المحرّم من النفس الأنثوية، امرأة مستقلة وفاعلة جنسيًا، ترفض الأمومة، وترفض الخضوع للرجل، معلنةً مساواتها معه، وقد جعلها المجتمع البطريركي أمثولة للمرأة الشهوانية، وقاتلة الأطفال، وهكذا بناء على هذا الفكر تم بناء صورة مزورة للمرأة الباحثة عن حريتها، من باب شيطنتها.

أقدم الإشارات التاريخية التي أشارت إلى ليليت، رمز الغواية والجمال، وجدت عند السومريين منذ ما يقارب الأربعة آلاف عام، أي زمن الحضارة البابلية القديمة، تحديدًا في مدينة أور، ولها أسماء عديدة في التراث الحضاري العالمي، منها: عشتار أو عشتروت، وفينوس عند الرومان، وأفروديت في الإغريقية، وإيزيس عند المصريين القدماء، وظهرت أيضًا في الآداب والفنون العالمية، منها “الفردوس المفقود” لجون ملتون، كما رسمها دانتي روزيتي كامرأة مثيرة في لوحته “السيدة ليليت”. وسميت ليليث في العهد القديم، وفي الأكادية ليليتو، أما العرب القدماء فسموها ليل، وهي المُغوية والمُلهمة لأيِّ كاتبٍ ومبدعٍ لِيكتبَ عنها، ويغوصَ في مُفارقاتِها وتناقضاتها التَّاريخيَّةِ.

وأنا هنا لنْ أدخلَ في البحثِ في تاريخيَّتِها وأصولِها، إِنْ كانَتْ سومريَّةً، أو ما قبل السُّومريَّةِ، ما سأتحدَّثُ عنهُ هوَ وصفُها في سِفْرِ التَّكوينِ، ورمزيَّة هذا الوصفِ مِنْ وجهةِ نظرٍ عصريَّةٍ فنحنُ هنا أمامَ شكلَيْنِ لِلمرأةِ، نَمَطَيْنِ إذا صَحَّ التَّعبيرُ. وهذانِ الشَّكلانِ هُمَا مِنِ اختراعِ الرَّجُلِ، فهُوَ يُريدُ زوجةً خاضعةً تُنجِبُ لهُ الأولادَ، ويُريدُ عشيقةً شَبِقَةً تُمارِسُ معهُ الجنسَ بِكُلِّ إِباحِيَّتِهِ وشَهْوانِيَّتِهِ. على هذا الأساسِ تكونُ "ليليت" هِيَ العشيقةُ وحوَّاءُ هِيَ الزَّوجةُ، وصارت ليليت رمزًا للمرأة المختلفة، حيث المعنى الحقيقي لها، التي تتمرد على واقعها وتريد أن تصنع لها دائمًا تاريخًا منفصلًا او بجانب الرّجل وليس تبعًا له.

 

إنّ البحث عن أصل الاسم يطول ولكني سأقف هنا عند المسميات والتراث العربيين فمثلا اسم ليلى، نلاحظ أن الشعراء والمغنيين في منطقة الشرق الأوسط شغوفون للغاية بنظم وإنشاد الشعر الغزلي في حسناوات ومعشوقات وعاشقات يحملن الاسم (ليلى)، وقد تكون قصة حب قيس بن الملوّح لليلاه وقصة حب ليلى الأخيلية لحبيبها توبة بن حمير من أشهر قصص الغرام في تاريخ الأدب العربي، فقد نسجت حول علاقتيهما ألوان وأشكال من القصص والأساطير. أما ليلى الأخيلية فهي المختلفة في عصرها وعصور غيرها، ليس فقط لما تميزت به من حُسن الوجه والحضور الآسر، بل لأن لها الكثير من الحكايات والمواقف مع الساسة والصحابة والشعراء وغيرهم، فهي لم تمجدها سوى حرية القول في شعرها ونثرها، ولعلّ أبرز ما ميّز ليلى العربية في الحالتين هو المجاهرة بالعشق، بينما كان العشقُ العلني هو من المحظورات في الثقافة العربية القديمة، وهنا نرى حالة أخرى من التمرد على الأعراف والمسلّمات، لأن الثقافة العربية تحظرُ "المشاعة العِشْقِية" والدعَاية العاطفية للنساء، وترَوجُ بالمقابل لِحُب الزوايا المعتمة ولِلَمةٍ وقبلة تُختلسُ أثناء قيلولة القبيلة وفي غفلة من المراقبين . وقد فسر المفسرون بالعربية اسم ليلى بالخمرة الداكنة أو نشوتها وكذلك بظلمة الليل، ويقال تعبير (ليلة ليلاء) لوصف الليلة الصعبة أو المرهقة أو التي حفلت بأحداث ذات أثر شديد على النفس سواء سلبًا كان أم إيجابًا وبطبيعة الحال ليس من المستغرب أن يتطابق جذر الاسم في العربية ومعناه مع بقية اللّغات التي توصف (اصطلاحًا) بالسامية. فترى من كانت ليلى العربية الأولى؟!

 

وأخيرًا ليليث (من آويها.. إلى لي ليليش)

تسكن ليليث في وجدان الشعوب أبدًا، وطالما تصدح باسمها حناجر النساء بهناهين الأعراس وزغاريدها التي تبدأ بكلمة "آويها" بمعنى "الغواية والإغراء"، وتنتهي ﺑ "لي ليليش"، صيحة إطلاق الصوت المُحتَقَن في حلق المزغردة في الأفراح والأعراس، أو في استقبال الموتى الشهداء والمطر والحروب، وكأنها تجمع تناقضات الحياة والموت 

بطريقة غريبة، كغرابة "ليليث" المُستنجد بها لحماية العروسين من شرّها، وهي تقودهم إلى فراش الزواج كربّةٍ للغواية بوصفها يد إنانا (إلهة بلاد الرافدين القديمة المرتبطة بالحبّ والجمال والجنس والرغبة والخصوبة والحرب والعدالة والسلطة السياسية) أو إنانا البغي المقدسة ذاتها، والطلب منها أن تهبهم الخصوبة، بوصفها راعية الخصوبة. وعليه فإن "لي ليليش" هي تعويذة سحرية تُطلق في الأعراس لحماية العروسين من شر ليليث من ناحية، ومن أخرى تدعوها بصفتها "يد إنانا" و"بغيها المقدس" لتقود العروسين إلى فراش الزواج لتمنحهما بركاتها، بعد أن أرضتها النسوة في العروس بذكر اسمها المتكرر "لي ليليش" أو "ليليث".

آويها العيون عيون المها وسنان لولو ضمّ

آويها والخد زهر الورد من خلفها نفر دم

آويها يا ريت جسمي معك عالفرش ينضم

آويها يا وردة جورية هي النظر والشم

لي ليليليليش......

وكذلك ليلا في اللّغات الأخرى؟

وكذلك الاسم اللاتيني ليلي الذي يعني زهرة الزنبق.

أعتقد أنها أسئلة تستحق التأمل والبحث حولها!

تاريخ التمرّد قديم قدم الحضارة البشرية، فجميع الأديان والحضارات قد صاغت الأساطير التي تتحدّث عن تعطش الإنسان إلى التحرر من كل القيود وكسر الحواجز. ولكن الثقافات التي صاغت سياقات مختلفة لتمرد الرجال، لم تجد دومًا طريقة "مقبولة" للتجاوب مع قوّة المرأة وتمرّدها وأنوثتها، ومن هنا نرى محاولات دائمة لحصر الأشكال والشخصيات التي تصور بها النساء، كما نلمس ميلًا واضحًا لتأطير الرغبة بالحرية للمرأة بربطها بالموت والفوضى والخراب، والمشكلة تكمن في أن الوعي البدائي يرى محتوى الأساطير على أنه حقيقة واقعية، وعدم القدرة على إقامة حد فاصل بين الطبيعي والخارق قد حوّل الفكر الأسطوري إلى نظام رمزي فريد، جرى إدراك العالم من خلاله.

وللأسف تستمر بعض سمات الفكر الأسطوري حية في وعي الناس إلى جانب عناصر المعارف الفلسفية والعلمية الحديثة. ففي أيامنا هذه مازالت بعض الأساطير الدينية تستخدم على نطاق واسع في الموروث الشعبي والوعي الاجتماعي، تماما مثلما أُسقِطَ على قصة آدم وليليث، الصراع بين السلطة الذكورية وتمرّد النساء وتحديهن لهذه السلطة، وإذا حاولنا تقصي الأسباب التي سمحت بتحويل زوجة آدم الأولى إلى شيطان بعد أن تمردت، فإن الجواب قد يكون متضمنًا في السؤال نفسه: أي أنّ عصيانها لآدم فُسّر على أنه السبب في تحولها إلى كائن شرير. وإن كانت تلك الأساطير في صميمها عملية قمع لفكرة التمرد ونزعة التحرر، فهي تنذر بأن الأطر الثقافية والشعبية مستعدة لتحويل كل امرأة تحاول التخلص من قيود المجتمع إلى مسخ أو إلى رمز للشر والدمار!

كوني مثل ليليت !

 

*ملحوظة: المقال ليس سوى نوع من العصف الذهني وتأمل في مسميات وروايات حديثة وقصص تراثية وأساطير عتيقة.

المصادر التي سبحت فيها باحثا عن الحقيقة:

أصل الاساطير والاديان –مهند العراقي

الاهة ليليت ملكة الليل (دراسة أثرية عن آلهة العالم الأسفل)- صلاح رشيد الصالحي

مغامرة العقل الاولى – فراس السواح

مسرحية مجنون ليليت– خزعل الماجدي

لوليتا – فلاديمير ناباكوف

أصابع لوليتا – واسيني الاعرج

أن تقرأ لوليتا في طهران –آذر نفيسي

عودة لوليت – جمانة حداد

قصيدة "لوليتا" – نزار قباني

مشاهدة فيلم –ليليت السورية

عشرات المقالات حول أساطير الاولين

05/2020

1254
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل