بين ظنٍّ ويقين - بقلم المحامي جواد بولس
أشعر براحة، أعرف أنها مزيّفة، عندما أعزو ارتفاع منسوب شعوري بالإحباط، إلى كمية الأدوية التي أمرني الأطبّاء ببلعها يوميًا لتحميني من ضغط دم يرتفع بمناسبة وبدون مناسبة ولكوليسترول سببته شحمة الدنيا وهمها.
ألوذ بالقراءة، وكلمّا استزدت أشعر أحيانًا أن بعضها هو ما يساعد على ذاك المنسوب اللعين. أقرأ وأحار مما أقرأ. لا تفاهات سفهاء يكتبون تستفزني، فهؤلاء لا يصح فيهم إلٌا ما نصحنا به "الشافعي" طيّب الله ثراه. ولا عن حسود ينفث حبرًا، أهمله فيمسي "كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله". يحبطني أولئك الذين يكتبون بروح ملأى يقينًا وقناعة وإصرارًا على صحة تحليلاتهم، التي كانت في غابر الزمن، والتي لا يزحزح صحتها سماوات تصحَّرت وصحارٍ اخضوضرت. أغار منهم من سرعة وجاهزية التحليل، من حتمية الموقف، فهم لديهم "المساطر" وهذه إن آمنت بها واتبعتها لن تهديك إلّا إلى دروب الخير والفلاح.
بعضهم يستفيء بظل خيمة ويعتقد أن المعركة أينما حطّت وكيفما دارت، هي معركة "الحضارات والعقائد" لا محرَّك إلّا نور حضارة سيطغى ويخمد نار حضارة وعقيدة يعتقد هؤلاء، أنها شيطانية، مصيرها الأفول والانصياع.
أنا أعتقد أن التحدي الأكبر الذي يضعه أصحاب حرب "الحضارات والعقائد" أمام كل إنسان ومفكّر ومثقف سيكون وهو اليوم قائم: في صف أيّ حضارة سيكون؟ أقول هذا وأذكّر بما كتبته قبل حين، فعندما تمنى أحد المثقفين العلمانيين اليساريين أن ينتصر جيش الطالبان على جيش أمريكا الغازية قلت إنّه "خيار العاجز".
"مسطرة" فريق آخر هي أمريكا، فحيثما وجدت كُن على نقيضها وفي الطرف الآخر وعارض كل ما تعمل وشكّك بما لا تعمل وأكثر بما تعمل. "مسطرة" مألوفة عشتها وأبناء جيلي لعقود حينما كان عالمنا مقسومًا بين قوى الشر والظلام تقوده سيّدة الظلام وبين أمم مقهورة مسلوبة وشعوب من البؤساء المظلومين، تحميهم وتقف معهم وتذود عنهم شمس الحريّة وسيد النور والحكمة والرأفة، "الاتحاد السوفياتي العظيم". هكذا كان وهذا لم يعد موجودًا.
لن أناقش لماذا وأين ومتى وما إلى ذلك. هكذا نشأنا وعشنا شبابًا طامحًا لم نتردد ولم نخطئ، فدائمًا كنّا مع المظلومين ومنهم ودائمًا كنا مع الفقراء ومنهم ودائمًا آمنّا وعملنا من أجل حريّتنا وحرية شعبنا وحرية كل شعب مقهور ومستعبد. واليوم أصبحت هذه "المسطرة" قديمة ولم تعد ملائمة وكافية وحدها لاعتمادها أداة قياس في زمن يقتنع الجميع فيه أن شمس الشعوب كانت وما زالت هي تلك التي بنارها وضوئها ودفئها يعيش عالمنا ويصمد.
أمريكا لوحدها لم تعد كافية كمسطرة وكمقياس، فروسيا اليوم هي ليست كما كانت. وما يجري من ثورات تكنولوجية وعلمية تؤثر بلا شك فيما يحدث من تغييرات في سوق الاقتصاد والتجارة والتثاقف الحاصل جراء ذلك.
أقول ذلك لا من فرط حب في أمريكا ولكنني أقوله لأنني لن أكون في صف حضارة "طالبانية" مهما استعدى هؤلاء أمريكا أو حالفوها. أقول هذا لأنني ما زلت أومن بحق الشعوب في تقرير مصيرها وبحق الشعب، كل شعب، أن يعيش أفراده بحرية وكرامة ومساواة وبدون إرهاب ودوس هامات وعوز. ولأنني أومن بذلك أقول أنّ الاستعانة بالمسطرة الأمريكية بشكل أعمى هي عملية ممجوجة ولن توصلني إلى ما أومن به وآمنت به دومًا. ففي ليبيا أين تقف أمريكا؟ وهل ما نعرفه يكفي لنتيقن أين، حقيقة، أمريكا؟ وفي سوريا أين تقف أمريكا؟ وكذلك في اليمن.
يروق لي التفكّر أحيانًا بعلاقة أمريكا اليوم بالنظام الحاكم في روسيا. ما هي ضوابطه؟ وما هي محاور التقاطع والتنافر السائدة والقائمة؟ أعتقد أنّ ما يجري من حولنا في العالم العربي يبرهن يوميًا كم من التكهنات خابت، وكم من الأماني ما زلنا نعلقها تمائم ونرجو أن لا تدوسها حوافر الخيل. وكم قلنا أن الرياح عاتية وأن الاحتمالات مفتوحة على جميع جهات الريح.
ولأنني أعتقد أن لما يجري هناك تأثيرًا علينا أقول إنه لن ينطلق حزب علمانيّ دون أن يعيد النظر، بشكل جذري وجريء ومسؤول، بنظرياته الفكرية السياسية المؤسسة لعمله في العقود الأخيرة. والأهم، باعتقادي، إن لم يجرِ هذا الحزب إعادة نظر معمّقة حول آليات العمل وأساليب التواصل والتأثير. كل حزب يتلكأ بإجراء ما يلزم من مراجعات فكرية سياسية ويتردد من استحداث آليات عمل عصرية لن يكون قادرًا على قيادة جماهيرنا وسيبقى عاجزًا أمام حركات تستفيد من الأوضاع القائمة لزيادة هيمنتها في الشارع وبين الجماهير.
كتبت وأقصد أنّ هذا الهمَّ خاص بالأحزاب والحركات العلمانية. مع أن ما يجري في العالم العربي وضع تحديّات أمام كل من يؤمن بأيديولوجية شمولية، إلا أن ما هو متاح للحركات الإسلامية من ساحات عمل واسعة وناشطة غير متاح لأحزاب أخرى، فكون الجوامع ساحات طبيعية، وكونهم قادرين على تشغيل أعداد كبيرة من الأئمة والوعاظ، يكتسبون بذلك تميزًا خاصًا بهم. إلى ذلك يجب التنويه إلى امتلاك الحركات الإسلامية مصادر مالية كبيرة، وتحكُّم الحركة في هذه المصادر يوفِّر لها إمكانيات تأثير وجذب لا تضاهى، لا سيما في مجتمعاتنا المهملة والفقيرة.
حزب لن يتدارس ما طرأ من تغييرات جذرية اتضحت معالمها فيما يجري في الدول العربية حولنا، لن يستمر كحزب ذي تأثير. فأولًا يتوجب تعديل "المساطر" والتزود بما أحدثه العلم والحياة من جديد. وثانيًا عليكم بالشباب. يجب أن يحصِّن الحزب نسبة لا تقلّ عن ثلاثين بالمائة من عضوية كل جسم لجيل الشباب. ويجب أن تضاف هيئة أساسية في قيادة الحزب اختصاصها التكنولوجيا وخفاياها ونعمها. سيقول البعض: هراءً ويمضي. وأما أنا، معالجًا لبعض إحباط، أقول "من لم ينتفع بظنّه لم ينتفع بيقينه".