من يوميات مسافر 2 بقلم: بطرس منصور
هدأت الجلبة في الطائرة بعد ان علا صوت أجش عبر مكبر الصوت. فهم جمهور المسافرين افتتاحية الكلام الذي عبّر فيه المتكلم: " القبطان جيمس معكم". اما باقي الكلام فتطلب مقدرة تحليلية حاولت من خلالها سبر اغوار الحشرجة المنبثقة من مكبر الصوت. في نهايته فككت رموز الكلام عبر تشويش اللكنة الثقيلة وتيقنت انه تكلم اللغة الإنجليزية، وليس غيرها.
فجأة بدأت الطائرة تسير الهوينا وعرفت انها ستتسارع بغتة وكوميض البرق تنطلق شامخة الى كبد السماء، فشبهتها في مخيلتي باللبؤة التي تتلكأ وهي تشم الأرض وكأن النعاس غلبها وتكاد تنام... وفجأة يشرئب عنقها وتقفز كمن لذعه ثعبان وتنقض على فريستها.
تفحصت الشاب الذي جلس قربي. يبدو انه في أوائل الثلاثينات من عمره وقد وضع السماعات على اذنيه ويعيش في عالمة الخاص. ولكني احسست بعلامات لا تبشر خيراً في المقعدين الى جانب هذا الشاب. سمعت من اتجاههم همهمة طفل تنذر بالسوء...
توقعت المتاعب من هذا الطفل ولم يتعدى السنة من العمر. انه ما فتأ يهمهم ولم نفارق اليابسة بعد. كانت همهمته بمثابة الموسيقى التحضيرية التي تسبق الاغنية ، بل قل السيمفونية...
لم يخيب ذلك الطفل الآمال والتوقعات وفعلا اجهش بالبكاء بعد ان رفعت الطائرة خرطومها الى العلا وانطلقت الى الفضاء. وعند لمس الطائرة طرف السماء بارتفاع عشرة الآف قدم تحول البكاء لعويل يشق عباب السماء ويقطّع القلب ويطيّر ايَ امل بالنوم. حاولت امه ان تهدأ روعَه بالعناق والملاطفة تارة وبهزه يمنة ويسراً تارة اخرى. يبدو ان ارتجاج الطائرة من جهة وهز امه له من جهة اخرى، أفقدا الطفل توازنه فزاد بكاءه. تذكرت عبارة نابليون ان "اليد التي تهز المهد، قادرة على هز العالم"، لتتحول هنا الى: اليد التي تهز المهد -لن تسمح لأحد بالنوم!"
حاولت احدى المضيفات ان تمد يد العون وتساعد الام في مسعاها لكن الطفل ازداد ارتباكا وحركات هستيرية. احبطت الام المسكينة- ولم تكن المسكينة الوحيدة فجميعنا حولها انتظرنا بترقب وظننا لدقائق طويلة اننا سنعاني طويلا ولن ننجو بلحظة هدوء وسكينة.
بعد فقرات من البكاء الذي يقطّع القلب تحول الطفل الى ما يشبه النحيب وبعدها الى فقرات متقطعة منه ومن ثم الى شهقات متفرقة انتهت بعد ربع ساعة في هدوء تام خيّم على الاجواء. تنفسنا الصعداء. هللويا! وهكذا ازفت الساعة للالتفات الى المساحة والحجم المعد لي في مقعدي في عقر المنطقة العمومية للمسافرين العاديين. انه امر يصارع به طويلي القامة مثلي. كان الحجم المعد للراكب في شركة الطيران التي اخترتها هذه المرة متوسطا وتطلب كالعادة ابتكارا في زاوية الجلوس وركن الرأس ومد الرجلين.
سرعان ما غلبني النعاس فنمت نوما هنيئا ومنعشا وعندما استيقظت لاحظت ان جاري صاحب السماعات كان يمسح فمه بفوطة بعد وجبة عشاء، رأيت بقاياها على الصينية التي امامه. يبدو ان المضيفات يتدربن على التوفير والاقتصاد فيقتنصن الفرص لتوزيع وجبات الأكل بهدوء بينما اكبر عدد من المسافرين نيام. تناولت بعد طول غياب الكتاب الذي احضرته معي ولم اقرأ به منذ أشهر... قرأت بهمة ونشاط.
يتبع.....