تبكيك القدس يا زمن الفيصل - جواد بولس
في خطوة استفزازية واحتفاءً بالذكرى الخمسين على توحيد شطري مدينة القدس عقدت الحكومة الإسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو، جلستها الأسبوعية يوم الأحد الفائت في ما يعرف بـ "أنفاق حائط البراق" أو "حائط المبكى"- كما يسمونه في تراثهم وأدبياتهم، ولقد بحث الوزراء المجتمعون في جلستهم سبل تعزيز الوجود اليهودي في المدينة، وناقشوا عدة مخططات لمشاريع جديدة تستهدف إحكام قبضتهم على العديد من المرافق السياحية في البلدة القديمة، ورصدوا في سبيل ذلك ميزانيات ضخمة تساعد على إنجاز ما قرروه من مشاريع ستسهل بدورها عملية وصول ملايين الزائرين إلى الأماكن التي يقدسونها، وتضمن إمكانيات آمنة للتواصل بينها وبين سكان البلدة القديمة من اليهود والوافدين من الخارج على حد سواء وتكثيف عمليات الاستيطان اليهودي فيها.
" في هذا المكان بنى الملك سليمان الهيكل الأول"، هكذا افتتح نتنياهو اجتماعهم وأردف قائلًا: "إن اليهود العائدين من سبي بابل بنوا لاحقًا الهيكل الثاني الذي تحولت أنقاضه، بعد خرابه، إلى وجهة تطلعات شعبنا عبر الأجيال المتعاقبة. لقد مرت آلاف السنين، وعاد شعب إسرائيل إلى وطنه، وأقام دولته ويبني عاصمتها الموحدة " .
من الواضح أن اختيار حكومة إسرائيل تلك الأنفاق مكانًا لعقد جلستها الأسبوعية يضيف على مضامين القرارات الخطيرة المتخذة نفحةً من عنجهية واستفزاز مقصودين، ففي هذه المناسبة يستذكر العرب أوجاع نكستهم، وكيف حصدت إسرائيل، قبل خمسين عامًا، "طرابين" وحدة عروبية هشة وعوراء، ومحرزةً نصرًا عسكريًا مجلجلًا على جيوش العرب مكّنها من الاستئثار بما حلا لها من أرض وما عليها؛ هذا علاوة على ما تحمله هذه الخطوة الرعناء من دلالات تفضح، في الواقع، حالة النشوة والاستقواء التي يعيشها قادة إسرائيل بعد زيارة الرئيس ترامب، بداية إلى المملكة العربية السعودية والتي قوبل فيها كزعيم مطلق وقائد لتحالف ضم أكثر من خمسين دولة إسلامية، ومن ثم قدومه إلى إسرائيل وتصرفه فيها كما يليق بالحلفاء والندماء وشركاء الحاضر وأحلام المستقبل، لا سيما صلاته أمام حجارة ذلك الحائط ودسه في شقوقها ورقةً تضمنت أمنياته ودعاءه.
وقد تكون حكومة إسرائيل قد اختارت أن تعقد اجتماعها في ذلك " الحوض المقدس" محاولةً منها للاستفادة وتثبيت انعكاسات الزيارة الدينية ولترسيخ ما تدعيه منذ عقود، على أن هذه القدس هي ميراث اليهود عن سليمان الملك وأبيه داوود وإنجاز السماء بوعدها المذكور في الكتاب.
في الواقع لقد عانت القدس الشرقية من ممارسات القمع الإسرائيلي منذ اليوم الأول لاحتلالها عام 1967، لكنها استطاعت أن تنجو بشكل نسبي ولافت، فأفشل صمود أهلها مخططات تفريغها من سكانها الفلسطينيين، وبالتوازي نجحت قياداتها الأصيلة بترميم بناها الإجتماعية والاقتصادية والسياسية مما أفضى إلى إعادة تأهيل مجتمع متماسك وثق عراه تحت سقف هوية فلسطينية واضحة سهلت على نخبه استرجاع رمزية المدينة وموقعها كعاصمة للمشروع الوطني الفلسطيني ومركز سياسي ومدني هام تواصلت معه دول العالم ومؤسساتها بهاتين الصفتين، وكذلك فعل الفلسطينيون في جميع المدن والقرى والشتات.
لقد استمرت عملية البناء على مراحل حتى وصلت إلى ذروتها فيما سأسميه عصر "بيت الشرق" الذهبي، وخلاله استطاع الراحل الكبير وأمير القدس وفارسها فيصل الحسيني، ومعه كوكبة من قياديي المدينة وفلسطين، تحويل القدس الشرقية إلى كيان سياسي واجتماعي شبه مستقل عن السيادة الإسرائيلية، وفرض، بحنكة فريدة، هذا الواقع كحقيقة معيشة وملموسة.
لقد بنى فيصل الحسيني سياسته على توازنات دقيقة وقيادة حكيمة وشجاعة ونظافة قلب ويد مشهودة واستعداد خرافي للمواجهات بعيدًا عن المزايدات والمراهنات غير المحسوبة. وهو برؤيته الكفاحية الواقعية ووقفاته الميدانية العنيدة نجح بخلق حالة من "الردع الإيجابي المتبادل" مع إسرائيل التي أبدى زعماؤها احترامًا لفيصل وحسبوا، بعد تجاربهم معه، حسابًا لردات فعله ولقدرته على زعزعة " السلامة العامة" والمسّ بـ "الهدوء العام".
ولعل سعيه من أجل الحفاظ على الوضع القائم، "الستاتوس كوو" في جميع الأماكن المقدسة يعد إنجازًا بالغ الأهمية، فهو ولسنين عديدة حرص بإصرار على تحييد هذه الأماكن، وفي طليعتها المسجد الأقصى، عن بؤر التنازع والتناحر مع القوى اليهودية، مدركًا أن زعامات إسرائيل اليمينيين الصهيونيين المتدينين يسعون من أجل إسقاط بعدي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأبرزين، السياسي والقومي، وحصر النزاع في بعده الديني فقط، لأنهم بذلك يعززون مواقعهم ويزيدون من إمكانيات انضمام حلفاء معهم، فعندما يلجأ الأطراف إلى أحكام السماء ستفتح هي طاقاتها وتمطَر الفتاوى وتكثر البدع ويسود الالتباس ويعسر الاجتهاد، بينما عندما يوقَف الصراع على بعده السياسي القومي، فالأرض "ستتكلم عربي"، وهي لغة أهل الوطن، والفلسطيني سيكون صاحب البيت وسيد المكان حتى لو أصرت إسرائيل على قمعه وغمط حقوقه.
لقد وافقت معظم القوى السياسية الوطنية والإسلامية في تلك السنوات على معظم هذه المبادئ وأصول القيادة والمواجهة حتى صار ذلك إجماعًا وسيّر العمل النضالي في القدس تحت مظلة "بيت الشرق" بكفاءته المشهودة.
لم تتغير قواعد اللعبة الا بعد رحيل الفيصل على أرض دولة الكويت، في الحادي الثلاثين من أيار قبل ستة عشر عامًا، فبعده بدأ مشوار التيه والضياع.
بالفعل، منذ رحيله والقدس الفلسطينية تخضع إلى عملية هدم شامل مبرمجة، استهدفت عزل المدينة عن محيطها الفلسطيني ومحاصرة أهلها وخنقهم بوسائل مبتكرة ومتعددة وبنفس الوقت تم الانقضاض على المؤسسات المدنية والجمعيات الأهلية وغير الحكومية التي حُظر عملها من داخل القدس، فبعد وفاة فيصل أنزلت إسرائيل ضربتها الأولى على "بيت الشرق" ، وهو أبو المؤسسات أو حاضنتها، وأغلقته من دون مقاومة تذكر، علمًا بأن نتنياهو نفسه قد فشل من قبل بإغلاقه بعد أن قاد فيصل معركة بطولية سجلها التاريخ فحمى البيت وأهله.
لن آتي على ذكر ما أصاب المدينة بعد عقد ونصف من عصر فيصل الحسيني وزمن "بيت الشرق" الذهبي، فالمدينة اليوم ليست تلك المدينة. الاستيطان اليهودي يتوغل في كل ناحية وجهة. كثير مما كان يجمع أهل المدينة على الخير والمقاومة والاجتهاد المفيد تبخر واندثر، وإسرائيل نجحت، إلى حد بعيد، بخلخلة البنى الإجتماعية الأصيلة، في حين فشل الفلسطينيون بتقديم نموذج لقيادة قادرة ومقبولة تجمع ولا تفرق، وأحلام المواطنين صارت كسيحة تصيح مع تسلل كل فجر وتندب.
فمن سيردع حكومة يرأسها حاوٍ، وإلى جانبه يقف رهط من أبناء الغيب ومعهم ثلة من حرس الكتاب تستحلف الرب وبه على العربان تستنجد؟
وهل سيقدر على أهل السماء غير أهل السماء؟
غيورورن كثر حذّروا من هذا الفراغ القيادي الوطني المدوي، وراقبوا بقلق بالغ كيف تتفكك كل أحزمة الأمان المقدسية، وكيف بدأت في المدينة تنشأ محاور تأثير لا تعمل وفق مبادئ "الإجماع الفيصلية"، فاجتماعيًا برزت عناصر دخيلة لا تتقيد بقيم مجتمعنا الواقية ولا بتراثه الماسي وشرعت تزرع شرها في كل المنصات والمواقع ، وسياسيًا غابت النخب الوطنية الأصيلة و"تفرطشت "محلها أشباه قيادات أو نسخ مزورة بعقول مريضة ورؤوس مشوهة.
في مثل هذا الجفاف الوطني الكاسح تهيأت الأجواء إلى حروب أجناد السماء، فوجدنا نتنياهو يصرخ، "هنا بنى سليمان هيكله"، وقبالته يقسم الشيوخ على أن الملائكة تقف مع المسلمين فقط وستبني لهم دولة الخلافة، وقد يكون صوت الشيخ كمال الخطيب أبرزهم في هذا الشأن وهو الذي يؤكد مرة تلو المرة على أن القدس ستكون حتمًا عاصمة الخلافة الإسلامية، أو كما كتب قبل أيام على صفحته: " يوم أمس 29/5 كان يوم ذكرى فتح القسطنطينية من العام 1453 حيث تحولت من عاصمتهم الى إسطنبول عاصمتنا، ويوم 5.6 القريب سيكون يوم ذكرى احتلال القدس حيث تحولت القدس من عاصمتنا إلى أورشليم عاصمتهم...لكنها القدس حتما ويقينا ستعود بإذن الله ليس عاصمة للدولة الفلسطينية فقط، بل وإنما ستكون عاصمة دولة الخلافة الإسلامية الراشدة ، نحن إلى الفرح أقرب فابشروا ".
هكذا إذًا فبعد أن غاب فيصل وتشتت ما كان إجماعًا مقدسيًا وهزلت المقاومة وضعف الصمود، علينا أن ننتظر من سيكون الأقوى والأغلب: أأحفاد سليمان الملك/ النبي وهيكلهم الموعود أم أصحاب دولة الخلافة وبشراهم بالفرح القريب؟
والى أن تحسم السماء أمرها سأتأسى على زمن ولّى وستبكي معي القدس على فيصل .