جمال طربيه وحبيب بولس - وشمان على صخر الجليل - جواد بولس
حزين أنا، وأعرف أن الحزن غير دائم، ولا الفرح.
بضربة برق، وكما السماء تعرف أن تحب وتفرح لمّت شمل اثنين، وَشمين محفورين في الصدر وفي صخر الجليل. كأنّهما على ميعاد مع رجال من الشمس. في الخامس من تموز رحلا وصار الجمال بعدهما أقلّ والحب، من غير حبيبين، أعز.
أحقًا تولد الحكمة من الحزن؟ أحقًا نحن اليوم أعقل؟ هباء هذا القول باطل، فالموت خسارة وجرح نازف وموت العقلاء أفدح وظلم عاقر. هو الموت، دمعة قايين لأبنائه البشر شربوها على مهل وغدوا أشبالًا من ذاك الأسد.
حزين أنا وسأقول ما سأقول قبل أن تهبنا قابلة الدهور الحنين والتذكار، ابنَي الحزن، وأول مشروع استثماري ناجح أسّسه ابن الأرض ليضمن بعضًا من سعادة وكثيرًا من شقاء محمول.
كم من الكلام قيل في رحيل جمال وحبيب؟ كم من الخطب العصماء هدهدت كلماتها في بيوت العزاء وعلى مسامع الجموع التي أمت لترثي كما أجاد الأسلاف فن المراثي وتبكي من رحل وتعدد مناقبهما وكبير أفعالهما؟ كم من الوعود سكبت في مساكب الرجال وأقسم أصحابها أن يصونوا العهد ويحافظوا على العهدة؟ كم من هذه الخطب ستبقى بذورًا في أرض اليباب، منسيّةً في جوف أرض لم تحفل بذاك الكلام وهي سيدّة الحكمة والاصغاء، فالليلة تلك ليلتها وهي العروس ترقص زاهية بجمال وحبيبها .
جمال طربيه وحبيب بولس وعلى الرغم من بضع سنين فرّقت بين عمريهما، إلا أنّهما كسروتين جليلتين في رحمه نمتا، منبت واحد ودرب واحد للعلا ، هناك إلى جانب نجمة الصبح، هادية السراة والسارين وصاحبة الكادحين الذين بعرقهم رووا التراب والبقاء والعطش. .
ابنَي هذه الأرض كانا ولم يرضيا غيرها إنتماءً ووسائد، فلا عائلة سبقت، وإن كان لهما في العائلات مفاخر، ولا بلد طغى وإن كانت سخنين وكفرياسيف لهما مراكب عز ومرافئ. ولا لطائفة تعصبا فعندهما الدين إحسان وعمل وعطاء وعقل وحكمة.
جمال طربيه، قائدًا ابنَ الجراح كان، فعاش ليكون بلسمًا وضمادات لسواعد لفحتها الشموس وأدمتها فؤوس الحقد والخيانة. مع كوكبة من جيل تربى ليكون كالنسور في الفضاء سادة وكالسباع على الارض سادة. أجمعوا وتأهبوا، فالأرض أمنا وكفى للخنوع والاذدناب والتشرد ولنصنها بوحدة وبأكف لا تهاب المخارز ولا ترتضي عن الحياة الشريفة بديلا. كوكبة سطّرت ما غدا عيدًا تحتفي فيه الشعوب، عادت الأرض فيه لتكون أم البدايات أم النهايات.
حبيب بولس، رفيق درب لجمال وشريك حلم وواقع. عاشها ولم يقدم على انتمائه لأرضه ووطنه وشعبه أي انتماء مهما غلا ومهما كان عزيزًا على قلبه. "الأقلام مطايا الفطن"، قال "خائنة وملعونة هي الكلمات التي لا تطلق في وجه الأعداء" قال وفعل. لم ينحز في كتاباته إلٌا لما كان إنسانيًا خالصًا ولذا وقف في صدارة نضالات شعبه وفي كل معركة توحّد ولا تفرق، تبني ولا تهدم، تؤلّف ولا تشرّد.
عاشا الدنيا بحلوها ومرها وناضلا من غير كلل وبحكمة وتغليب العقل ومصلحة الكل على المصالح الفئوية. كانا في حياتهما كناي كلّما ثقبتها الريح طار حنينها وأشجى قلوب الحزانى والمساكين. وكلما هدأت الريح صارت ثقوبها أعشاشًا لفراخ الأحلام تنتظر نسائم الفجر لتنفخ فيها فتطيروتحلق زغاريد وعود وأمل.
هل حقًا سنصون عهدهما وعهدتهما؟ هل حقًا سيصون من في ثوب شاةٍ وعظ، وعلى عصا من يُسرِ مكّةَ اتكأ، ما كان يرويه أبو الادهم بحلو لسانه وطيِّب عرقه؟! وهل حقًا سيصون من بصوت قيصر صدح وصوَّتَ ما كان أبو العبد يزرعه سواسن ونرجسًا في مساكب دورنا وبذور سنابل في حقولنا؟!
ابني هذا الزمان كانا وخادمي هذا المكان عاشا. لم يحنيا هامة لسلطان غريب ولم يودعا حبهما إلا لهذه الارض ولابنائها. عاشقَين حتى الوله كانا، بيد أن العقل عندهما كان الحكم وكان دائمًا الفيصل. وشمَين على صدر زماننا سيبقيان وضمانتين لحلو عيشنا في أرضنا.
هذه هي العبرة والوصية فأنا حزين يا أخويَّ الباقيين ولم يزدني حزني عليكما حكمة بل لوعة وحرقة ستزولان، حتمًا، مع حلول فصل الحنين القادم على مهل. فإلى ذلك الحين ارحلا ببطء كما يليق بأبناء الحياة .