ماذا إذا خاف رئيس الموساد؟ جواد بولس
انضم رئيس الموساد السابق تمير باردو إلى مجموعة كبيرة من رؤساء الأجهزة الأمنية وقيادات في جيش الاحتلال الإسرائيلي الذين عبروا، خلال السنوات الماضية، عن خشيتهم على مصير دولة إسرائيل في ظل سياسة اللاسياسة التي ينتهجها بنيامين نتنياهو والحكومات المتعاقبة التي عملت تحت رئاسته.
فمن تابع تصريحاته المثيرة في مؤتمر مئير داغان للأمن والاستراتيجية والذي انعقد يوم الثلاثاء المنصرم في نتانيا، يتوصل إلى عدة خلاصات وقناعات ربما من أخطرها ما وصفه، ولو ضمنًا، ببهلوانيات ومراوغات هؤلاء القادة واستعدادهم للقيام بكل الكبائر والصغائر، شريطة أن يضمنوا بقاءهم في الحكم، ولو لنهار إضافي واحد، وذلك من دون الإلتفات إلى مستقبل المنطقة، بما في ذلك إلى مصير دولتهم وسلامة أبناء شعبهم.
لم تجد تصريحات هذه الشخصية اهتمامًا عربيًا لائقًا ولا فلسطينيًا مناسبًا، رغم تبوّئه منذ مطلع العام ٢٠١١ ولمدة خمسة أعوام كاملة، واحدًا من أكثر وأهم المواقع تأثيرًا على منظومة العمل الإستراتيجي والتنفيذي الإسرائيلي؛ وإن كانت طبيعة أنظمة القيادة العربية، وحقيقة "معادن" من يقف على رأس هذه الأنظمة وبُناها القيادية، تبرر إعراضهم المزمن عمّا يكتب وينشر ويتداعى في فضاءات المنطقة وتربها، يبقى عزوف الباحثين والمنقبين والمحللين وإهمالهم لمثل هذه المنصات وما يقال منها وما تكشفه من تناقضات بارزة بين النخب المؤثرة، ومن خبايا في السياسة الإسرائيلية، غير مفهوم ومستهجن.
علينا أن نتذكر أن باردو قد ترك منصبه الهام قبل عام فقط، وذلك بعد أن كان مهندسًا لسياسات إسرائيل الأمنية الخارجية ومطلعًا على ما يجري وراء الكواليس لسنين طويلة، وبناء عليه هنالك أهمية كبرى لمواقفه المعلنة والمبطنة، ومحاولة سبر أغوارها وفهمها بشكل حقيقي تغدو واجبًا على كل مهتم ومعني؛ أمّا الإكتفاء، مثلًا، بوصف تصريحه بأن "إسرائيل تواجه خطرًا وجوديًا واحدًا على شكل قنبلة ديموغرافية موقوتة " بكونه موقفًا عنصريًا ففيه تسطيح تقليدي، وتقطيع لمجمل ما أشهره من على تلك المنصة والتي يستحسن قراءته مجتمعًا وتفكيك شيفراته بمنطق إدماجي ومركب ففي النهاية وصف رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي، بسبب هذه المقولة، بكونه عنصريًا لا يحمل قدرًا من الإبداع أو الكشف المبين ولا يأتي بجديد وتجديد.
في المقابل ومن باب تمرين الذات أكاديميًا، حاولت أن أتخلص من ميلي "الفطري" لقراءة ما يقوله رئيس الموساد بمفاهيم مسبقة ونمطية رافضة، وجاهزية لافتراض السوء فقط وتفسير ما يقوله، جملة وتفصيلًا، بما يتوافق مع خلاصة واحدة تفضي إلى وجوب صدّه الفوري، فعدت إلى مقابلته وقرأت بتريّث دعوته لإسرائيل كي "تختار ما تريد والتخطيط للمدى البعيد لا لساعات، والتوقف عن طمر رأسها في الرمل ومواجهة واقع ديموغرافي والجواب على السؤال أي دولة نريد؟" وتساءلت: ما غايته من إقحام هذه النصائح في هذه الأيام بالذات ولمن يوجهها على الملأ؟ ومن مثله يعرف أن قادة إسرائيل الحاليين يسعون إلى الفوز بإسرائيلهم كما عرّفوها في برامج أحزابهم ويحاولون تأمين تسلطهم الكامل على منظومات الحكم فيها وإسناد قوتهم المطلقة بتشريعات وقوانين استبدادية تنقض على كل حيز ديمقراطي في عملية من شأنها تقويض أسس الدولة كما يريدها باردو وكثيرون غيره، والقضاء على كل فضاء يتيح للمواطنين حرية التنفس والتعبير والرأي والحركة.
وعندما تمعّنت في تطرقه إلى علاقات إسرائيل مع الدول العربية والإسلامية، وهو الذي كان يقف على رأس هذه الحربة لمدة خمسة أعوام كاملة، وجدته ينتقد ويناكف، لا بل يقزم تشاوفات بنيامين نتنياهو الذي استغل في أكثر من مناسبة منصات الإعلام ليتفاخر بما حققه من إنجازات وتوطيد هذه العلاقات مع بعض أنظمة الدول العربية والإسلامية والأفريقية، فوفقًا لباردو يبقى "مفتاح اندماج إسرائيل في المنطقة منوطًا بما يتم وينجز ومن خلال علاقات إقتصادية وتجارية وسياحية مع تلك الدول..." وكأنه ينبّه الشعب ويقول لنتنياهو، شعاراتك لن تنطلي علينا؛ أما الأهم من ذلك فكان تشديده على أن ذلك الانفراج المتخيّل والمدّعى مع بعض الدول لن يتحقق "دون حل القضية الفلسطينية في حين قررت إسرائيل عدم الاختيار، مفترضة أن الصراع سيستقر ويحل من تلقاء نفسه، ومن خلال التمني بأن العرب سيختفون يومًا بقدرة قادر".
لا يمكننا فصل ما جاء في خطابه وتجزئته لمواضيع نلبسها ما نفترضه مناسبًا، بشكل طبيعي، لمن وقف على رأس مؤسسة أمنية يتوجب على كل عربي التحفظ منها والتشكيك في مآربها والتوجس من بواطنها، ولكن وإن كانت هذه المشاعر صحيحةً في معظم الأحيان وفي العموميات، يبقى هنالك هامش ضئيل للإستثناءات والاجتهاد والتفكر، خاصة إذا فهمنا أن الخوف الذي استنطقه كان على مصير المشروع الصهيوني وليس حبه للفلسطينيين وسعادة العرب، فعندها قد نقرأ تصريحه عن الخطر الديمغرافي على خلفية مغايرة ومتشابكًا مع باقي أجزاء مداخلته، وقد نستنتج، ساعتها، بأنه ينادي اليوم ( بعد انعتاقه من تبعات موقعه ومسؤولياته الرسمية) بضرورة التخلص من الإحتلال، لاسيما وأنه يتوجس من إقدام الولايات المتحدة ومعها دول من العالم على "إجبارنا على قبول تسوية عادلة.. فهكذا يصير عندما لا نقرر، لأن الوقت لا يتوقف والواقع يتغير ومعه شروط وبدائل الحل".
لم يتضمن خطابه حلولًا ولا مقترحات عينية، فهو تعمّد إطلاق انتقاداته وتقييماته ونصائحه، وهي تتأرجح بين الوضوح الموجه والتعويم المقصود، في حين ترك نهايات أفكاره غير مقفلة وعائمة في بحر من التأويل والإلتباس، باستثناء حادثة واحدة قصد أن يكشف عنها بصراحة وعن خوفه الشخصي كما شعر به عندما احتفل قبل أيام بعيد ميلاد حفيدته إبنة السابعة، وأضاف "نظرت إليها وفكرت: بعد عقد أو عقدين كيف ستبدو الدولة، وأي دولة سنترك للأجيال القادمة؟ أعترف أن قلقي يزداد يومًا بعد يوم.. كمن خدمت في الجهاز الأمني مدة ٤٥ عامًا ترافقني مشاعر غير بسيطة.."
لا يمكن لمن يقرأ هذه الكلمات أن ينام مطمئنًا.
بعض العرب سيفعلون ذلك وهم في غاية السعادة والامتلاء، وذخيرتهم خوف رئيس جهاز الموساد ومن سبقه من مسؤولين عبروا مثله عن قلقهم على مصير دولة إسرائيل، فنهاية إسرائيل عند من يستقدم ذلك الفرح وينام على فراش من ثقة بتحقق نبوءات الغضب، هي سدرة المنتهى ونهاية الأرب؛ إنهم ينامون على غبطة مؤجلة ويغفلون ما سيحصل قبل الوصول إلى طريق الخراب وأنهر الدمار المشتهى. فمن يا ترى سيكون ضحايا تلك الانتصارات المؤملة؟ ألم نسمع قبل تخوفات باردو وبعدها في كل يوم عن أحلام من يخطط لإقامة إسرائيل الكبرى النظيفة من العرب أو من كثيرين منهم؟ ألم نقرأ عن إصرار الدعاة للاحتفاء بعرس ابنة صهيون الطاهرة النقية ومن أجلها لا يخفون خناجرهم ولا يتسترون عن نواياهم وبعضهم يستقوي بمشاهد جداول المهجّرين من بلاد العرب وقوافل النازحين منها إلى المنافي والفيافي ومن يغرقون في بحار الذل والضياع. رحلات متلفزة تملأ شاشات العرب والفضائيات بالدم والملح وصمت الذبيحة والذابح والسكين.
لا أكتب من أجل التهويل ولا التهليع ولا لتثبيط العزائم، لكننا نعرف أن وزراء في إسرائيل يجولون أروقة قصور دول العالم ويعرضون مواقفهم من دون خجل وبلا تردد ويرددون بإصرار: من يسعى ويدعم إقامة دولة فلسطينية عليه أن يضمن دولة يهودية خالية من شحم العرب ودسمهم، هذه أصول الحكمة وأعمدة الحكاية فإذا رحّل العرب ملايين أشقاءهم العرب، وطرد المسلمون ملايين المسلمين، في أكبر حملات الصيد والتهجير العصري، من سيمنع عربدة جنازير أبناء التلال والهضاب وهي "تذود" عن مملكتها المهداة من السماء في وجه من يريد تدميرها والقضاء عليها؟
سبق تمير باردو في قيادة الموساد الإسرائيلي لمدة تسعة أعوام الجنرال مئير داغان الذي قرر في آذار ٢٠١٥ أن يهاجم نتياهو في واحدة من أشرس الخطب وأعنفها حين قال أمام آلاف مؤلفة من الجماهير التي احتشدت لسماعه في تل أبيب: "إسرائيل دولة محاطة بالأعداء. لا يخيفني هؤلاء الأعداء، فأنا أخاف من قياداتنا.. من عدم وجود رؤيا، ومن ضياع الطريق، من التردد، ومن الجمود السياسي.. لا أريد دولة ثنائية القومية ولا أريد أن نتحول إلى دولة أبرتهايد.."
لا يخافون من أجلنا لكنهم يخافون من مستقبل مظلم سيعمي كل العيون ومن واقع ستحكمه "توراة الملك" وما تقوله البنادق والبطش.
خوفهم ليس خوفي، لكنني على يقين أنه إذا خاف باردو من العتمة الزاحفة وخاف قبله داغان من الضياع وقرقعة السيوف التي تخلت عن أغمادها،عندها علي أن أنظر إلى عيني حفيدتي وأفكر: أي مصير ينتظرها وأي مستقبل؟