لأن الحب أبقى وأدوَم - جواد بولس يرثي د. حبيب بولس
وكأنك فريستُه الأثيرة. وهو الذي لا يجيد من الأفعال إلا الخيانة والنهم! ولا يترك من الآثار إلا عنّات النواهد يبكين الحبيب ويولوِلنَ بحيرةٍ في بحر من رائحة نقمة عبثية.
ما الحكمة من بقر قلب الفرح في ليلة انتظار الشهد؟
ما الحكمة من تلويع العذارى في ليل البشائر الذي صار كله من حسرة ودموع وألف سؤال؟
ما الحكمة عندما يغوي شيطان الظلام إله الرحمة والدفء والهناء فيتسلل هذا كالثعلب في ليلة صيد خرافية ويخطف "الحبيب" ويدمي قلوب السبايا والعرائس فيصير كل شيء من عدم.
ألم تكفكَ الحكمة من دار أيوب ووجعه؟ إذًا متى ستكفيك وكيف؟
ماذا أقول لك أيها الحبيب وأنت الذي علمتني ما الحكمة وأين نلقاها؟
علمتني بعدما بلوتَ الحياة بحلوها ومرها، وبعدما تقلبت في جحيم مقلاتها وما سمحت لأحد مهما علا شأنه أن يقعقع لك بالشنان وأن يغمز جانبك كتغماز تين!
أحدثك وأعرف أنك تسمعني، فها هي الملائكة الصغار ترقص بفرح وأنس، ترفعك، كما الأم الحنون ترفع حبيبها، أسمعها تنشد معك نشيدًا من نور وحنين وحكمة، تمامًا كما أنشدتنا، قبل سنين، حينما ذرّفتَ على الستين وصارت تجربتك أغنى وعرّفتني أن المرء للمرء عدو وأن السوس ينخر جذع المحبة والوفاق والاتفاق.
لم تشكُ، يا قويّ، هذا الزمن الرديء القبيح ولم تبكه، يا حكيم، على الرغم مما شهدته من انقلاب بالمفاهيم والقيم، بل كأبناء الحياة عشت وكنت كالظبي طيبا حرا وسارحا وكالنسر عزيزا وشامخا وكالنور ثابتا وساطعًا.
ما أجملك! في عام النكبة ولدتَ وفي قرية عتّقت خوابيها خمرة الدنيا وزيت السماء وفي عائلة لا تعيَّرُ بقليل تعدادها وبيتٍ أبو ه إبراهيم ومن سلالة خليل والجد بولس مراسيل حب وسماحة وكرم وعلم.
كبرت، عانيت، كما كل عصامي شغوف بحب الفراش وحنين النايات، لا يسأل لماذا يا ربي؟ بل يمتشق الصخرة وراء الصخرة فلا سيزيفُ أمامه ولا عاشق البوادي. ضربة وراء ضربة وعزيمة تشتد حتى صرت كسيف من ذهب وماس والرأس تجربة وفطنة وأحلام صغار.
درس الدنيا الأخلد، هكذا علمتنا، أيّها المعلم أن الحب أقوى وأبقى وأدوم، وكم كنت صائبًا يا حبيب!
لا حكمة إلا حكمتك، فلساني كلسانك، ذربٌ ماضٍ جريءٌ، يعرف كيف ومتى يقسو ويلين، يثور ويلين ويهدأ، يعلو ويخفت. لسان يعرف كيف يشهر السيف للسيف والندى للندى.
سلاحي يا حبيب سلاحك، هكذا كانت الوصية والعبرة فأنت الصباح ونحن الندى! أقلامنا ستكون مطايا الفطن فعقول الرجال من تحت أقلامهم.
اسمعني يا حبيب أردد ما قلته لي وأفرح معي: "فملعونة وخائنة هي الكلمة إن لم تكن رصاصةً تطلق في وجه الأعداء. وكم لنا من أعداء وكم فينا من أعداء. أعداؤنا يتناسلون يتكاثرون في الظلام".
نعم، هكذا قلت ولكنك ابن الواقع كنت، وابن التجربة والقلب الدفاق، ابن الحياة أنت وحتى عندما شعرت أنك أمسيت كالخيل متعبة من كثرة ما ركضت لم تَشِخ يا حبيبُ. بقيت في الميدان سبّاقًا وفارس الفوارس وأوصيتنا أن تبقى الراية مرفوعة لأن الجيل يقفو الجيل، فها هي رايتك اليوم وستبقى مرفوعة يا حبيبنا، لان الحب أقوى وأبقى وأدوَم، ولتندحر مسوخ الظلام ولتبل الضبع على نفسها وليبق الحب فالصدر واسع ورحب ولن يضيق.
هو صدرك يا حبيب وحبك وخمرك فأنت ستبقى لنا واسطة العقد وستبقى لنا السند فلقد كنت لنا السر وكنت لنا العلم.
وأنت اللسان، وكالسيف كنت القلم، فلقد أفهمتنا، يا حكيم، "ما الحياة إلا عفطة
عنز وأرخص"!
الحكمة يا إخوتي، كما عاشها الحبيب وفي حياته، فلا حكمة، صدقوني، في مماته!
فلك ولكم مني السلام.