قصَّة حَياة - بقلم حنيفة سليمان
1- الطُّفولة:
لقد كانت طفولتي معذبة يشوبها شيء من التشاؤم نوعا ما، والسبب وراء ذلك هو أنني ولدت مع مشكلة في الحركة من الجهة اليمنى -أنا لا أعترض على حكم الله لا سمح الله إلا أنني كنت أفكر بأشياء كثيرة تدور في عقلي وأسئلة صعبة تحوم في أعماق... الرأس بحاجة لمن يجيبني عليها مثل: لماذا لا العب ألعابا كبقية الأطفال؟ "لم يكن بوسعي استيعاب ما أنا فيه وهنا بدأت المشكلة.
لقد عمل لي عمليتان في رجل واحدة لكي تصبح مساوية للأخرى وهذا عرضني للكثير من المواقف المحرجة. وأخيرا قررت الرضوخ للواقع الأليم الذي سيبقى ملتصقا بي طيلة حياتي، فليس من المعقول التفكير به طيلة هذه المدة لذا رضيت بما قسمه الله لي وبسمة مرغمة مرسومة على الشفاه.
وبدأت بالسير في موكب الحياة الصعب والمؤلم والانخراط وسط البنات واللعب معهن ألعابا كثيرةاجبرتهن على التماشي مع واقع اليم كما تماشيت معه من قبل.
لقد كنت أسير في شارع طويل متوجهة إلى الدكان ملتفة إلى اليمين واليسار وكأنني أرى الناس واسمع أصواتهم المتهامسة تدخل في أعماق قلبي لتقطعه إلى أجزاء وهي تقول: "انظروا كيف تسير، يا حرام، مسكينة".
إن لي قصص أخرى من الصعب ذكرها الآن، فقد كنت اخجل من البوح لأحد وان بحت فانه لايحس بما أحس فيه ربما يقوده شعوره للتعاطف معي ولكن لا يحس بالألم إلا صاحبه كما قال المثل: "ما يحك جلدك إلا ظفرك".
2- الدراسة:
إن دخولي إلى المدرسة هي مرحلة انتقالية اعتقدت أنها ستخفف معاناتي إلا أن ظني لم يكن في محله فقد ازدادت المعاناة.....
لقد كنت اشعر بالوحدة فقد كانت صديقتي الوحيدة التي لم تستطع الاستغناء عني. فقد حرمت في بداية المرحلة... الابتدائية من الصديقات والرفيقات كما كل البنات إن حكايتي بدأت في هذه المرحلة منذ دخولي صف البستان.
لقد كانت معلمتي واسمها حنان رغم أن هذا الاسم لا ينطبق على صاحبته فالحنان يعني ألحنية والتسامح والاحترام الذي يجسد معنى الإنسانية بكل معانيها , نعم لقد كانت قاسية! لقد احتوت قسوتها جميع تفاصيل وجهها الذي يمتلئ بالكره والحقد ولا ادري لماذا.
لقد أجبرتني تلك المعلمة على الوقوف نصف ساعة أو أكثر رافعة رجلي التي تؤلمني خافضة رجلي السليمة . وعندما رجعت من المدرسة متوجهة إلى البيت,وعند وصولي ورؤية أبي لرجلي المحمرة جن جنونه وذهب في اليوم التالي إلى المعلمة ووبخها بأنها لا تقدر المرض روما أعاني منه وعندها انقلبت رأسا على عقب ولم تعد تلك المعلمة القاسية التي اعرفها.
دخلت الصف الأول فالثاني فالثالث وكانت هناك فتاة تدعى "هدى" تضربني على الدوام غير آبهة بوضعي المؤلم وبنفسيتي المحطمة التي تحتاج إلى ترميم. لقد كانت تنتظر خروجي من المدرسة وتتبعني لتهوي بيد من حديد على وجهي لتطبع عليه علامات زرقاء وحمراء.
وبعدها حدث ما لم يكن بالحسبان !
لقد تقدمت مني تلك الفتاه واعتذرت. وأخيرًا نطقت بالكلمة التي طالما حلمت أن تقولها منذ زمن. ولا أدري إلى الآن ما الذي أجبرها على الاعتذار، وأخيرا اعترفت بخطئها الشنيع الذي ظلمتني به وهددتني طيلة أشهر به لتتقدم وتعتذر وأصبحنا من اعز الصديقات.
انتهى الجزء الأول وادخل في الجزء الثاني الأكثر مرارة.
عندما وصلت إلى الصف الرابع أي بعد مضي أربع سنوات على دخولي الابتدائية قررت معلمتي واسمها آمال أن تقوم بإسقاطي إلى الصف الأول، والحجة كانت أنني أمزق كتبي ودفاتري ولكن يشهد الله علي أنني افعل ما افعله نتيجة مرضي الذي وصف لي الطبيب دواء يساعدني على الهدوء. لقد حرمتني تلك المعلمة التي تجردت من أسمى المعاني الإنسانية من ثلاث سنوات تعليمية دون رحمة أو شفقة وفي لحظة لا يمكن وصفها إلا بالغبية.
وها أنا أعيد ثلاث سنوات من جديد. لا استطيع نسيان هذا الموقف أو انتزاعه من عقلي فهو يهز بجميع تفاصيله كل كياني الذي تزعزع لحظة سماعي بالخبر.
وبعد عبوري جسر المرحلة الإعدادية توجهت إلى المرحلة الثانوية. لقد كانت جميلة بكل معانيها تطغى عليها الروعة - لقد تميزت تلك المرحلة برونقها من أصدقاء , مقررات مدرسية، امتحانات. أحسست أنني ولدت من جديد، لقد كان الجميع عونا وسندا بالنسبة لي ويعطونني أملا بأن الحياة جديرة بأن تعاش رغم ما يحويها من مآسي.
إن الأصدقاء والمعلمين طالما مدوني بالشجاعة لخوض مرحلة مهمة في حياة كل إنسان وبها حصلت على شهادة امتياز بكل المواضيع المقررة. طالما تمنيت أن أبقى قابعة في هذه المرحلة لأنني وجدت فيها ما لم أجده في سنوات طويلة خلت.
وبعدها وعلى عتبات العام 2004 توجهت لتعلم الحاسوب في مؤسسة التأمين الوطني وكنت كطائر مسجون في قفص انطلق إلى سماء الحرية , فقد كنت سعيدة لأنني أتعلم شيئًا جديدًا.
3- العمل هو الحياة:
وبعدها فقد بعثت من قبل مؤسسة التأمين الوطني لتعليم الأولاد في نادي بعد الظهر الموجود في قريتي. لقد كان أمرا شاقا وممتعا في الوقت ذاته: الشاق هو أنني كنت مرغمة على إحضار أربعة أطفال ودعوتهم للاشتراك به. إن جميع... الأطفال من سن 5-13 عاما الموجودون في الحي الذي اقطنه قد سجلوا بالنادي مما جعل مهمتي أصعب. أما الأمر الشيق هو وجود أطفال ومحبتهم لي التي زادت إصراري على التقدم أكثر لأنه كما يقولون: "إن أردت الحصول على المحبة فيجب أن تعطيها أولا".
إلى أن وصلت اللحظة الحاسمة واليوم المشؤوم ! دخل المسؤول غرفة النادي وكشر عن أنيابه التي أخافتني وزمجر بصوت عال ومهين، نعم لقد كان يكلمني. لقد أحسست بجرح عميق في صدري كسكين دخلت واستقرت في القلب لتمنحه جرحا لن يندمل بسهولة أبدا.
وبعدها عدت باحثة عن عمل. تعلمت في المعهد الموجود في قريتي موضوع حاضنات بكل ما يحويه من محبة للأطفال وعنفوان. لقد كانوا سبب دخولي لتعلم هذا الموضوع الذي نجحت به بفضل اجتهادي وإصراري على النجاح.
وفي يوم كان الأسعد في حياتي فقد فتحت صفحة الانترنيت لأجد إعلانا: "مطلوب حاضنة"، في منطقة قريبة من قريتي، فقلت لنفسي: "خير البر عاجله"، فقد دونت رقم الهاتف واتصلت بالحضانة فورا، فدعوني للمقابلة في اليوم التالي وبكل حماس ونشاط ذهبت للحضانة وقوبلت بترحاب وطلب مني الحضور في اليوم التالي للمباشرة في مهامي كحاضنة. وبينما أقف وسط الأطفال، إنّه منظر مضحك أن ترى الأطفال يضحكون، يبكون، يأكلون، يلعبون، كل في آن واحد، أشارت إلي مديرة الروضة بأنها تريد التحدث إلي!
وقع علي الخبر كالصاعقة: "أنا ل لا استطيع قبولك أبدا! إنني لم انتبه لوضعك في البداية، بصراحة عملنا يتطلب مجهودا وأنت لا تملكينه، أنا آسفة" (وكأنني المسؤولة عن وضعي). لقد قالت تلك الكلمات بلهجة تخلو من الإنسانية التي لم نعد نصادفها إلا نادرا. لقد جرحتني في الصميم.
إلا أنني بعد تفكير قررت قرارا حاسما: "لن ارضخ لتلك المآسي والمشاكل التي تعترض طريقي فأنا أؤمن بالله وقدره ولذا سأستمر في مشواري الذي لا نهاية له".
وعدت باحثة عن عمل. إلا أن حياتي استمرت بتفاؤل ففي تلك المدة قرأت حوالي العشرين كتابا ورواية والفت حوالي الثلاثة وعشرين قصة، وقرأت القرآن للمرة السادسة (في غير رمضان) - ذلك الكتاب المقدس الذي بمجرد حمله أحس بالطمأنينة والأمان يلف أنحاء جسدي.
ولقد اشتركت بدورات تدريبية وتقوية والتي تميزت بعلاقة الود والاحترام التي تعم على جميع من شاركوا فيها.
وأخيرًا هناك شمعة مضيئة في حياتي وهي عائلتي: أبي، أمي، إخوتي وأخواتي، الذين يمدونني بالشجاعة ألازمة دائما فقد كانوا وما زالوا بالنسبة لي الضوء الذي ينير الظلمة وسط الليل لتشرق الشمس من جديد وتنير حياتي البائسة التي عادت لاستمراريتها بكل تفاؤل ليمحوا العتمة الطاغية في حياتي هذه.