من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا - جواد بولس
أثار النبأ الذي نشرته جريدة "هآرتس" حول توقيع "الفاتيكان" و"إسرائيل" اتٌفاقًا مكمّلًا لما وُقّع بينهما بتاريخ 30.12.1993 بعض الانتقادات والتساؤلات خاصةً في أوساط فلسطينية رسمية.
فإما أن يكون النشر بمثابة تسريب متعمّد يتيح فرصًا لجميع المعنيين/المتربصين بالوقوف على ردود الفعل العربية عامةً والفلسطينية بشكل خاص، وإما أن يكون هذا النشر كدق إسفين بين من يمثّل "العالم المسيحي" وبين العالم الإسلامي، وبين الأمرين تكمن الحقيقة الغائبة، وهي عبارة عن تاريخ مثير يتفاعل منذ العام 1897 ، ولن ينتهي إلّا بقيامة جديدة أو خلاص.
مع أنّني قرأت مثلكم ما ورد على ألسن بعض المسؤولين الفلسطينيين والعرب، وما ورد من احتجاجات فرنسية (وفرنسا، عرفًا، هي حامية الأماكن المسيحية في هذه الأراضي المقدسة) على ما نشر وعزا للفاتيكان تغييرًا جذريًا في موقفه التاريخي إزاء مكانة إسرائيل الدولية، لا سيّما مكانتها في الأراضي المحتلة عام 1967، وإزاء القدس، كل القدس، التي خصّتها المقررات الدولية بمكانة خاصة، ما زالت دول غربية كثيرة تتصرف قانونيًا وفقًا لها؛ مع أنّني قرأت، كذلك، ما نفاه الفاتيكان وما أكّده ناطقه الرسمي حين أفاد أن الاتفاق الذي تحدثت عنه جريدة "هآرتس" هو اتفاق يعنى بأمور إدارية وتقنية شأنها مكانة العقارات التي في عهدة وملكية الكنيسة، وبعضها كان وما زال موطن خلاف مع دولة إسرائيل، وكذلك جاء في الخبر أن الاتفاق ما زال مسوّدة سيعقد بشأنها اجتماع في نهاية العام الجاري. وعلى جميع الأحوال فلن يغيّر الفاتيكان موقفه التاريخي إزاء مكانة دولة إسرائيل وكونها دولة احتلال، كما يعرّفها القانون الدولي.
مع كل هذا فأنا لا أصدّق ما جاء على لسان "الفاتيكان" رغم ما يضفيه المؤمنون من قداسة ألوهيّة على شخص "البابا"، ولا أقبل هذا الموقف الفلسطيني الدبلوماسي الخجول والمتأخر أصلًا عما يجري منذ سنين بين دولة إسرائيل ودولة الفاتيكان وفي القدس تحديدًا.
إنّنا بصدد حدث يعرِّي الواقع ويبقيه في عاهاته المستديمة، واقع يعكس، كما التاريخ سجّل والذاكرة حفرت، أن الغلبة للمثابر القوي والإخفاق والخسارة للغافل الضعيف. المصلحة هي رأس الحكمة، وعند الجميع تبقى مخافة الله صكوك ضمانات وتمائم تنير درب الحق، ولكل واحد حقّه في الرواية.
"إذا أردتم فهذه ليست خرافة!" من هناك بدأوا، حين أعلنت الحركة الصهيونية عن حلمها وشهوتها في عذراء اسمها فلسطين. "كرسي القداسة البابوي" أعلن معارضته لفكرة إنشاء دولة يهودية في الأرض المقدسة. بعناد وثبات، كما المرض، نجح صاحب الحلم، هرتزل، عام ١٩٠٤ أن يقابل بابا روما "بيوس العاشر"، ولكنه رفض الاعتراف بالشعب اليهودي وبحلمه بدولة في فلسطين، فاليهود "أنكروا المسيح وقتلوه". ويدور التاريخ والبابا يرفض ويرفض، فلديه مع اليهود قضايا ودم! ولذا عارض في حينه وعد "بلفور" المشؤوم، ورحب بالقرار (١٨١) لإبقائه القدس منطقة محايدة ودولية.
لم يعترف الفاتيكان بدولة إسرائيل عام ١٩٤٨ رغم محاولات متكررة من جانبها. قادة إسرائيل ثابروا ولم يفوّتوا فرصة تقارب مع الفاتيكان حتى بعد حرب ١٩٦٧، وكان الهدف نيل اعترافه وضبط العلاقة بمواثيق مقبولة على الدولتين. القصة طويلة أهم فصولها خُتم وتوِّج باعتراف الفاتيكان بدولة إسرائيل عام ١٩٩٣ ، ولم يكن ذلك إلٌا بعد اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل مع توقيع اتفاقية "أوسلو". توقيع رافقه انفتاح وعلاقات أنشئت واستؤنفت بين إسرائيل ودول كثيرة أخرى.
في عام ١٩٩٤ اعتمدت الدولتان سفيرين كاملي الصلاحيات والمكانة كما بين الدول. في عام ٢٠٠٣ اتفق الطرفان على إقامة لجنة مشتركة تبحث جميع القضايا موضع الخلاف بين الكيانين. حددت مهام اللجنة لعشر سنين، فلم تكف، فجاءت ثلاث أخرى لتبشّر العالم أنّ هدنة الدم انتهت وراية الصلح ستعقد في سبيل الرب والمصلحة، وهي كما قلنا كانت وتبقى رأس الحكمة، والحنكة للمثابر القوي.
أنا لا أصدّق البابا ولا حاشيته، فتاريخهم كما سجّلته الوقائع يبرهن أنّهم في موقع وموقف مغايرين عمّا كانوا عليه إزاء الاعتراف بالشعب اليهودي وحقّه في دولة في الأراضي المقدسة، وقبول الفاتيكان وامتثاله لسيادة إسرائيل في كل أرض تمارس إسرائيل عليها سيادة، هو برأيي تغيير جذري عن الموقف التاريخي الذي تصدّع عبر التاريخ وتحت مطرقة الدبلوماسية الإسرائيلية وسلة المصالح المشتركة .
صمت القيادات الفلسطينية عن مجريات هذا التاريخ وعجزها عن ممارسة تأثير مضاد ومتكافئ للتأثير الإسرائيلي يحمّل هذه القيادات مسؤولية تاريخية عن خسارة كبيرة لن تعوّض، لا سيما في القدس.
إصرار حركات إسلامية في الوطن والمعمورة على أنّ الأقصى كان ويبقى قضية القضايا هو تكتيك خاسر، ولن تغيّر نوايا من يرفع هذا الشعار وقع المضرة والخسارة، فان كان النزاع، في البداية والنهاية، نزاعًا دينيًا وعلى ضمانة الحكم والجدوى بأماكن مقدسة، بهياكلها وتاريخها وحجارتها، فليلحق كل شاطر ويضمن نصيبه "بالهيكل".
وإن كان الشعار والنداء، عندما زار هذا البابا قبل أعوام أرضنا وبيتنا، "لا أهلًا ولا سهلًا"، مثلما كبّرت جوامع، وأفتى العلّامة القرضاوي، فلا عجب أن يطأ أرضًا أرحب، ويدخل بيتًا أسهل وأجدى. (في حينه كتبت بالمناسبة تلك "زيارة البابا بين وقاحتهم وحماقتنا").
أخطأ العرب بغفلتهم وحماقتهم، ويخطئ البابا في اختياره، وأقول لهم وله: "إِذا وَتَرتَ امرءًا فَاِحذَر عَداوَتَه/ من يَزرَع الشَوكَ لا يَحصُد بِهِ عِنبا".