أعند من موج - جواد بولس
كانوا ثلاثة قضاة، دخلوا قاعة المحكمة العليا متعبين مِن هَمّ أحلامهم، أو ربما من سهر وقد عزّ المنام في ليل ككل ليل، لا يكون إلّا صدى لذبائح النهار.
ليل القضاة شوك ووسائدهم دمع وضجيج ووجع أمّهاتٍ بكين كصبح يبكي نرجسة قطٌعها سيّاف الظلام. ثلاثة، يدخلون بروتين مَن ألف المكان وأكثر. سادة يدلفون بسَكينة مصطنعة وبرؤوس تحلٌق وكأنها قبالة مرآة.
يغطسون في كراس كبيرة كحجم العدل، فيحكمون القعدة عليه بحرفية ومهنيّة لا يُحسدون عليها، متعمدين أن لا ينظروا في عيون من يملؤون القاعة من محامين ومدّعين وفرقاء، كخبراء في علم "الانطباع والاضباع" وكسادة للكرسي، يوعزون للرائي كُبرة وأبّهة وعصمة، لأنّهم يعرفون أن العدل (في البداية والنهاية) يجب أن يُرى أو يشمّ أو يُهيأ، أما إحقاقه فكان دائمًا مسألة فيها نظر أو عمى، وكلاهما سيجد "نطاسيين" يبررونه ويسوِّقونه.
يومهم مثقل كيوم "حسبة". على الطاولة، أمامهم، أكوام من حصاد مجتمع، النصرةُ فيه لعصا السلطان "وقطاريز" السلطان. حاجب يصرخ ليذكّر بالمكان: "محكمة". القاعة الملأى بمتظلمين ومتظالمين من كل عرق ولون ولسان، تقف إجلالًا من وهْم أو لأمنية. سكون. والبعض بخشوع حجّاج مساكين، لجأوا إلى حكماء الهيكل يلتمسون العدل من بيت ما زالوا يحسبونه بيتًا للفضيلة وحصنًا للعرق والتراب. الأوسط في القضاة، شيخ الديوان، يهمس لمتدرب شاب يجلس تحتهم، اسم ورقم الملف. بفرح طاووس وبرقبة منتصبة كمقاتل إسبارطي، يقف هذا الذي بنعمة أسياده يتحفز كصاروخ ويعلن أسماء الفرقاء ورقم القضية. ينادي ويجلس على كرسيه. يطأطئ القاضي صوب الطاولة وبنظرة نصفها عالقة على صفحات الملف ونصفها بتثاقل ترتفع باحثة عن المحامين المسجلين في القضية، يتمتم اسم المحامي وبحركة محترفين يوهمك كأنه يفتش عليه. بالمقابل وبنفس الوقت وبحركة شبيهة يقف المحامي ويطمئن القاضي بنعم سيّدي.
كما في المسارح، الكل يقوم بدوره المعد وكأنه العرض الأول، فجميعنا كنا هناك وجميعنا نعرف جميعنا، إلٌا أولئك الذين حضروا ولم يعرفوا أن ما كان معدّا ليكون "ديوان مظالم" تحوّل وأصبح ديوانًا للقوي وللظالم.
ننتظر بهدوء مغلوب على أمره. الوقت في قصر العدل الأعلى وقتهم لا وقتك. يأمرونك بساعة الحضور والبقية عندهم. فللدواوين أصول. سمعنا ما سمعنا من حكايا صندوق العجب، إلى أن همس شيخ الديوان فنادى المنادي: "بلال دياب ضد القائد العام لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي في المنطقة وضد آخرين".
ذهلت. من هذا البلال الذي يقف لوحده ضد هذه الدولة وجيشها؟ كيف يا بلال استطعت أن تغرر بي حين عدتك في مستشفى "أساف هروفيه" وكيف جعلتني أصرخ لأنهم صفدوك بستة أصفاد وربطوا سيقانك معًا ومعًا ربطوها في ذراع السرير وربطوا كذلك يدك اليسرى؟ كيف استنفرت دمعة عيني حين أخبرتني أنك لا تستطيع الحراك ولا النوم على سيفك أو على بطنك أو على ظهرك؟ كيف يا بلال ونحن نعلنها هنا، في قصر عدل السلطان وفي بلاطه، أنك ضد جيشه والدولة وضد نياباتهم وضد محاكمهم العسكرية؟ من قال يا بلال إن أمثالك بحاجة لتهمة ولوائح ومحاكم ودفاع؟ فمثلك خطر على هذه الدولة وجيشها وشعبها وإن نقصت الحجة وغاب البرهان، فها أنت تعلنها حربًا بيضاء، حرب من ندى وأقواس قزح، فلم تبق فيها للدولة وجيشها ركنًا آمنًا ولا ترسًا ولا ملجأً.
مكانك، يا بلال، في اللامكان أو، وعليك بهذا أن تفرح، وراء القضبان. أمثالك غير جديرين بالشمس ولا بصوت الكناري. إنك خطر قاتل يا بلال، ويا حفيد بلال، فكيف تجرؤ وتقاطع زادهم ولا تشرب من شرابهم ودوائهم؟ كيف تبرع في تغيير لونك الزاهي، لون الصباح والشباب، إلى لون الليمون وورق الخريف. إنّك تستغبي وتستضعف، فماذا لو خسرت كل هذا اللحم والشحم وحليب الأرض ولم يبق إلا بعض قلب وصلاة، إنك بلال وستبقى ابن الرعاة وابن الفلاة، من صخرة التاريخ صقلتك الأيام ومن بقايا غمام.
سارحًا كعاشق وقفت. مسحت جبيني من بقايا تعب وخبأت دمعة وقفت منذ تركته في المستشفى محاطًا بأربعة حرّاس متخصصين في حراسة الأحلام والأنفاس. صوته الذي كان من عزة تماوج في أذني: " زادي حريّتي وهذه سأحظى بها حتمًا في بيتي أو في الجنة"، قالها حين اقترح عليه ضابط سجّان أن نشرب القهوة معًا في سريره الذي من وجع.
نعم هو هذا البلال الذي بقوة ضعفه الجسدي يقاوم قرارًا عسكريًا تعسّفيّا يسلبه حريّته وكرامته. هذا هو بلال ابن الحياة الصارم المحب. وهو بلال الذي وعدته أن نمسح عن جبين الصبح دمعة ومعًا نحاول أن نضيء للسراة شمعة.
وقفت وقلت للقاضي نعم أنا أمثل بلال دياب، وعنه سوف أحدثكم، عن بلال الذي من لحم ودم وبحر، عن ذلك الحر الكريم وعن عاشق من حقل الرعاة مؤمن ثابت صبور وكالموجة عنيد، بلال الذي فيه لم تقل العرب "أعند من موج". عنه سأحدثكم وأغادر لآوي في المساء إلى فراشي ووسادتي التي من شوق فصباحي ميعاد مع موجة ورمل.