لماذا نجت الجش بعكس ما حدث لعشرات القرى من قضاء صفد - بقلم عطااللة منصور
الجش قرية صغيرة لا يزد عدد سكانها عن الثلاثة الاف، وقد حملت في طيَّات تاريخها اسم "جسكالا" أو "جوش حلاب"، كما واشتهرت في عهد الثورة اليهودية ضد روما في القرن الميلادي الأول كوطن ليهودي اسمه "يوحنان (بن ليفي) الجشي" الذي كان متطرفا ومتعصبا لاورشليم. ويُحكى بأنه من شدة تعصبه للمدينة المقدسة قام بتسليم بلدته لأيدي الرومان وفرّ هاربًا مع رجاله عن طريق وادي فارة تجاه الحولة، وبطريق الاغوار وصل الى اريحا ومنها صعودًا الى اورشليم بغرض تعزيز ودعم المدافعين عن أسوارها.
يُشكِّل اسم القرية موضوع خلاف بين المؤرخين، فمنهم من يعتقد ان اسمها يعود لكونها موطنًا لمختلف انواع الفواكه وخصوصًا للزيتون، وهناك من يعتقد بأن مصدر هذا الاسم هو كونها امتلكت قطعانًا من ابقار الحليب؛ إلاّ أنني أميل الى الاعتقاد بأن الاسم يعكس صورة ووصف دقيق لطبيعة القرية القائمة على منحدر تل جيري تحيطه الاراضي الحمراء والصخور البازلتية، ولهذا أُطلق عليها اسم "كتلة الحليب" باللغتين العبرية والارامية.
ويروّج بعض زوار الأراضي المقدسة من الاوروبين أنهم سمعوا من أوائل المسيحيين اعتقادا، وهو أن والدي القديس بولس ("رسول الامم") قد ولدا في الجش.
وفي القرية اليوم كثير من الآثار التي تدل على عراقتها، ومن أبرزها بقايا لمعبدين من القرون الأولى للميلاد. وكان تفسير عالِم للاثار بهذا الخصوص هو أن الجش كانت أحد المواقع التي شهدت على انفصال رواد الايمان المسيحي عن اليهودية بعد أن صلى المسيحيون مع اليهود في معابدهم لأكثر من قرن من الزمن وذلك على إثر صعود الفادي الى السماء. وهناك من يعتقد بأن الجش كانت مدينة كبيرة في فترة إقامة المخلص في الجليل مما فرض على سكانها إنشاء معبدين للتمكن من الصلاة.
الجش في فترة حكم الإنكليز:
ولدتُ في الجش عام 1934 وقضيتُ فيها طيلة فترة طفولتي وشبابي المُبكِّر، وهناك عشنا ظروفًا سعيدة كمجتمع. تميزت العلاقات الانسانية فيها في كونها علاقات صداقة وحسن جوار بين كافة السكان رغم كونهم ينتمون الى طوائف مختلفة، ولم اسمع عن نزاع دموي حدث بين سكان الجش طيلة القرن الماضي ولا الذي سبقه.
ومع انتهاء العقد الثالث من القرن الماضي قررت إدارة المعارف زيادة صفوف المدرسة الحكومية وتعليم اللغة الانجليزية فيها، ومثل هذا لم يكن متيسرًا في اية قرية من قرى قضاء صفد، الأمر الذي رفع مدرستنا الى مستوًى راقي بالمقارنة مع حال المدارس في كل من القرى المجاورة: حرفيش، سعسع، كفر برعم، علما، الرأس الاحمر، طيطبا، قديتا، ودلاته والصفصاف، وميرون، والسموعي والقباعة وفرعم والجاعونة.
ومع زيادة صفوف المدرسة قررت ادارة المعارف اضافة ثلاثة صفوف دراسية (بعد ان كانت اربعة – مثل تلك المدارس في القرى المجاورة) وقررت تمكين المجلس القروي من اقامة سوق أُسبوعي كان يجمع أيام الجمعة جماهير غفيرة من سكان القرى الذين باعوا فيه واشتروا مختلف الحيوانات والمواد الغذائية، ومن ريع السوق بُنيَ المستوصف لرعاية الأم والطفل (وهو بناية المجلس المحلي الحالي)، ومنها امتد النشاط العمراني إلى تعبيد زقاقات القرية ابتداءً من الزقاق الفاصل بين الحارة الشرقية والغربية، وبعدها تمّ حفر بئر ارتوازية للري،إلاّ أن عمليات الحفر لم تصل الى نهايتها تمامًا كما حدث للمدرسة الثانوية الزراعية والتي خُطط لها في كسارة الجامع في موقع المحفرة.
ومن الجدير بالذكر أن المدرسة الابتدائية انتعشت بإدارة الأُستاذ المربي "غطاس يوسف غطاس" من قرية الرامة، كما عمل فيها العديد من المعلمين من صفد والصفصاف والراس الاحمر وترشيحا ومن الجش نفسها وكان بينهم الشماس "اتناسيوس عقل" بطلً قصة صمود القرية.
وكان الطلاب الأغراب يلتحقون بالصف الرابع ويتعلمون في الجش حتى الصف السابع، ومع هذه النهضة العمرانية شهدنا قفزة اجتماعية حين بدأت بعض الفتيات بالانضمام الى مدرستنا، وكانت الطلائعيات منهن: ابنتيَ المختار "محمد سليم ايوب" وهما "زهرة" و"شهرات"، وبنات عائلة الشولي: "فايزة" و"ماري" و"جوهرة"، وأيضًا "نجمة" ابنة السيد "يوسف صادر"، وأرجو المعذرة سلفا إذ قد أكون قد أسقطت سهوًا أسماء بعض الأمهات والاخوات فالذاكرة قد استسلمت لوهن السنين وبدأت تخون!
لماذا الجش؟
سمعتُ سؤالاً تردد كثيرًا على مسامعي خلال ستون عامًا واكثر، ألا وهو: "كيف ولماذا سمح لكم اليهود البقاء على ارضكم وفي بيوتكم بالجش بعكس ما حدث لسكان عشرات القرى في قضاء صفد؟"؛ وللحقيقة اقول ان هذا السؤال يفرض نفسه ولو أن عائلتي انحدرت من بلدة اخرى لتساءلتُ أنا أيضًا السؤال عينه، فغالبية سكان الجش دون سواهم من سكان القرى العربية الفلسطينية في قضاء صفد حافظوا على بيوتهم واراضيهم في وطنهم في حين ان الآخرين اصبحوا لاجئين غداة احتلال قراهم من قبل الجيش الاسرائيلي في خريف 1948.
ولكنني اجد نفسي في موقع المُطالب بالإجابة.
إن الفضل في حفاظنا على قريتنا عاد للشماس الفاضل والمربي طيب الذكر "اتناسوس ابن الخوري يوسف عقل" والذي جمعته صداقة حميمة باسحاق بن تسفي، آخر زعماء حزب المباي والذي تبوأ في مرحلة لاحقة منصب رئيس الدولة بعد موت حاييم وايزمان عام 1952.
ويُطرح التساؤل هنا: ما الذي قد يجمع بين بن تسفي والشماس الانجيلي ومعلم التاريخ والعربية في مدرسة "الجش الاميرية للبنين"؟ ما الذي جمع ذلك المعلم الذي كان يعاقب التلاميذ بلا رحمة خصوصًا من تغيبوا عن القداس او انهم لم يقوموا بحفظ مادة النحو والعروض وبحور الشعر والاعراب بالترتيب، مع ذلك القائد اليهودي الذي احتل مكانا مرموقا في الصفوف الاولى من قيادات "الحركة العمالية الصهيونية" قبل قيام دولة اسرائيل عام 1948 وبعدها؟!
انها هواية البحث عن الآثار والاساطير التاريخية التي كان شيوخ قريتنا يرددونها، كما ان الشماس تعلم العبرية العتيقة في مدرسة مشموشه المارونية، الى جانب السريانية لغة الصلاة عند الموارنة - يوم كان يستعد للكهنوت.
ولكن كيف نجح الشماس في ابقاء اهل الجش في بلدتهم ومكّن سكان كفربرعم الذين طردوا الى ارميش من العودة الى الجش؟ للرد على هذا السؤال استطيع الإدلاء بشهادة عيان!
احتلال الجش:
لم أتواجد في الجش يوم احتلالها. لقد كنت يومها طالبًا في مدرسة ثانوية اقامتها منظمة الصليب الاحمر الدولي لابناء اللاجئين في قرية المختارة اللبنانية مع مجموعة من ابناء جيلي، إلاّ أنني عدتُ أدراجي الى قريتي بعد الاحتلال باسبوع او اقل من ذلك قليلا بُغية الاطمئنان على والدَيّ وافراد عائلتي واهل قريتي ومنهم سمعت وعرفت تفاصيل ما حدث من قتل وارهاب في الصفصاف، وسمعتُ منهم كيف تم معاملة سكان القرى الاخرى.
غداة عودتي الى الجش للاطمئنان على والديّ وشقيقتي رجعت من قرية يارون، وفي طريق عودتي قضيتُ بضعة ساعات من الراحة في قرية "كفربرعم" العامرة، وزرتُ خلالها بيتَ المرحوم الكاهن "ابو عيد يوسف سوسان" والذي لفت انتباهي يومها بألاّ أعود من الطريق القصيرة الى الجش عن طريق "بلاطة الهوا" والوعور بل اسلك طريق السيارات الطويلة ومفرق قرية سعسع، لأن الجنود لن يستوقفوني حين يرونني أسير في الوعور بل يُطلقون علي النار!
كما ونصحني بأن لا أهرب في حال رأيتُ سيارة دورية لأن الجنود لن يعتدوا على فتًى في الخامسة عشر من عمره!
واخلاصا للحقيقة اقول بأن ذاكرتي لا تُسعفني اليوم في التذكُّر فيما لو كنت يومها قد قبلتُ النصيحة أم أنني اختصرت الطريق، ولكنني في كل الأحوال عدتُ يومها إلى الجش واستقبلني والدايَّ بدموع الفرح واغلب ظنِّي في أننا لم ننم ليلتها! واذكر ان شقيقتي نظيرة ابلغتني بأن صديقي وابن صفي يوسف محمد القاسم (وهو وحيد والديه) كان من بين الذين قُتلوا في الغارة الجوية التي سبقت الاحتلال، وبأن "رضا بخيت" وزوجتة "فوميا" قُتِلا مع دخول اليهود الى القرية بقنبلة يدوية رماها من شباكهم جندي حين سمعهما يتحدثان (وكان "رضا" قد اصيب من رصاصة طائشة لم تمكنه من الخروج والالتحاق بمن لجأوا الى الكنيسة).
كما وحدثتني شقيقتي عن جريمة اغتيال أربعة رجال من قبل جنود سَرقوا ما وجدوه في حوزتهم. كانت مجموعة من الأشخاص وبضمنهم شقيقتي نظيرة في طريق عودتهم من البيادر الى البلدة فقام جنود بإيقافهم وتفتيش البعض منهم، حيث وجدوا معهم أوراقًا مالية فقاموا بمصادرتها مُدَّعين بأنها أموال قديمة! أثناء عملية التفتيش تعرف أحد الشباب وهو "يوسف هاشول" على أحد الجنود وسأله عن شقيقه الذي عرفه من ملاعب كرة القدم في حيفا واستغرب الجندي ان يكون هذا العربي يعرف شقيقه. بعد هذا حاول الجنود صرف المجموعة لتعود الى البلد عندما طلب الشباب الذين صودرت أموالهم باستلام إيصال ليتسنى لهم استبدالها بالعملة الجديدة عنما يتم إصدارها. قام الجنود بتلبية مطلبهم ودعوهم الى "المكتب" في منطقة "خلة الجوز" لاستلام هذا الإيصال. بعد دقائق من هذا سمعت شقيقتي وزميلاتها صوت اطلاق نار كان حصيلته قتل هؤلاء الشباب بدم بارد وكانوا اربعة، وهم: رفول هاشول وصهره يوسف، وأيضًا فارس ويوسف اندراوس حداد.
قامت والدتي، ونحن نتسامر، بترطيب الأجواء المفجعة بقصتها الطريفة مع الاحتلال: "اليهود رموا قنابل على البلدة وهرب الناس الى الكنيسة"، ومدافع اليهود تركت اثرها في حائط "الدير" الشرقي وراء الهيكل. ولكن امي لم تنضم الى من اختبأوا في الدير لأنه كان عليها "دور" اعداد الخبز لجنود جيش الانقاذ ووالدي كان غائبًا ليلتها. في الصباح التالي جاء جندي يهودي ودخل الغرفة التي ادت فيها واجبها بلا استئذان، فتوهمت أمي بأنه جاء لجمع الخبز لذا أخبرته بأنها ما زالت منهمكة في الخَبز فأمرها الجندي بترك الخبز حالا والاختباء في الكنيسة في اسرع وقت ممكن.
شماس ينقذ قرية
في صبيحة اليوم الثاني لزيارتي الى الجش نادى الناطور من فوق سطح بيت "سعيد الجبران" بأن على الرجال الاجتماع في بيت المختار "ابو جلال سمعان الجبران"، فكنت اول الملبين لهذه الدعوة. تواجد في المكان ضابط يهودي نادوه باسم "الخواجه مانو" وقد كان يتحدث اللغة العربية بطلاقة وسلاسة. وبعد دقائق معدودة فهمت بأن "الخواجة مانو" أو "عمانوئيل فريدمان" جاءنا بأمر من القيادة العسكرية بترك القرية والذهاب إلى لبنان لفترة لا تزيد عن أسبوعين لأن الجيش يتوقع هجومًا مضاداُ، وقد قال بأن الأوامر صدرت الينا والى جيراننا في كفربرعم وقد ابلغهم بذلك.
سأل الأستاذ الشماس "اتناس عقل" "الخواجة مانو" إن كان قد أمر سكان قرية الرامة أيضًا باللجوء الى لبنان، إلاّ أن ذاك الأخير اجابه بالنفي. فسأله الشماس فيم لو كان يسمح لأهل الجش بالانتقال الى الرامه، فكانت إجابة الخواجة بأنه لا يستطيع الرد على هذا السؤال. فسأله الشماس إن كان بأمكانه الاتصال بصديق له وجاء على ذكر اسم "اسحق بن تسفي"، إلاّ أن "مانو" أخبره بأنه لا يملك وسيلة للاتصال وقال للشماس بأنه على استعداد لنقله الى صفد وتمكينه من الاتصال شريطة ان يبدأ سكان البلدة في جمع أمتعتهم حالاً استعدادًا للرحيل الى لبنان، وليكن مصيرهم كمصير جميع القرى المحيطة.
وهكذا سافر الرجلان "مانو فريدمان" و"اتناس عقل" بسيارة الجيب رقم 6ج ، وتركا الناس في حالة من التوجس الرهيب لبعض الوقت. وقبل الظهر عاد الجيب وقد كان الضابط الاسرائيلي "مانو فريدمان" يسوق السيارة بينما رفيقه الشماس "اتناس" واقفًا ورافعًا طاقيته فوق عصاه. هب الناس لاستقبال الشماس الذي دعا الجميع الى كنيسة السيدة العذراء للموارنه دون أن يُصرح بشيء سوى ترديده للجملة: "يا الله يا الله... الى الكنيسة".
وهناك في الكنيسة سمعته يطلب من الحضور الصلاة وترديد نشيد "يا ام الله يا حنونه يا كنز الرحمة والمعونة انت حمانا وعليك رجانا"، وبعد ترديد هذه الصلاة قال لنا الشماس وبينما كان غالبية المُصلين يمزجون نشيدهم بدموع الفرح "سنبقى في بلدنا، بل وسينضم إلينا جيراننا واقربائنا من قرية كفر برعم الذين يفضلون الجش على أرميش اللبنانية!!"
وهكذا كان وبرحمه الله وبفضل صداقة الشماس "اتناس" مع "بن تسفي"، تم انقاذ الجش وكفربرعم من التهجير وراء الحدود.