ألأسدُ العائدُ الى عَرينِهِ - جاسر الياس داود
لم تُبهره حدائق أوروبا وجمال أزهارها وورودها، ولم تغريه حياة الترف والمال في البلاد التي تختلف عن بلاده الأراضي المقدسة، ولم يخلع قميصه الحقيقي ليرتدي قميصاً مُزيّفاً، بل كان يقول:" أنا فلاّحٌ ابن فلاح، خُلقت هكذا ولي الشرف أن أقول أيضاً " تمرمغِت وتدحرجت فوق تراب مقاتي البطيخ والشمّام في أرض الجليل الغالية، وما زلتُ أشمُّ رائحة " لِبْش البطيخ" وأتصوّر حمرة البطيخة التي كنّا نضربها بقبضة يدنا لنأكلها، كي نسكت جوع معدتنا، علّه أحدٌ يأتي من البيت حاملاً زوادة أو أكلاً لنا. "
كنّا نفترش الأرض للإستراحة، بعد أن قمنا بجمع عدد لا بأس به من البطيخ البلدي (نادراً ما نجده اليوم)، كي نبيعه في السوق أو في الحوانيت أو لأشخاص لا يملكون أرضاً كي يزرعوا فيها هذا المُنتَج أو المنتوج.
ضوء قمر أوروبا يختلف كثيراً عن ضوء القمر فوق " المقتاة "، كنّا ونحن في سن الفتوة ننام على الأرض لا فرشة ولا وسادة، نتلحّف الهواء النقي الذي يهبّ بين الفينة والأخرى، ليدغدغ بنسماته سنابل القمح والشعير، فتتمايل خجلاً من دغدغاته، كما وكان يلطّف حرارة أجسامنا التي خزنّاها خلال النهار الحار والساطع بشمسه الوهّاجة.
كان والدنا يحضر الينا بلباسه العربي، القمباز والشروال والحطّة والعقال، حاملاً بيده سلّة مصنوعة من القشّ، وكلّما اقترب منّا ونحن مفترشين الأرض يبتسم ويضحك،ويقول: شو يا وْلادي شوية شغل أتْعَبَتْكُ؟!
فكنّا نجيبه بابتسامة نابعة من احترام هذا الأب، الذي يخاف على فلذات أكباده من ضيم الزمن، فيُحضر لهم الزاد والقوت، وملامح وجهه تقول: كلوا عشان تكملوا مشواركو في هاي الحياة. وكان جوابنا لهذا الوالد المتشبث باللباس العربي الفلسطيني، والذي يُعدّه أساس الوقار والإحترام لتقاليدنا العربية ولإنتمائنا لشعبنا العربي الفلسطيني: لا يا يابا والله ريحة تراب بلادنا ما في زيها ريحة، والله بِتْجَنِّن، هاي المقاتي والسهول والمروج الذهبية صاحبة ومُعطية الخير لنا وللجميع.كان الوالد يُقَرْمِز ويأخذ بإخراج ما في سلّة القش، ويقول: يالا يا وْلاد إمْكو عملتلكوا عِجِّة بتوكلوا أصابعكو معها. فننهض من افتراش الأرض بسرعة ولهفة لتناول الأكل، ونحن نردِّد ونقول: وينِك يا إمّي تتشوفي وْلادِك أدّيش متلهفين لأكلياتِك. نعم، هذه الذكريات لم تبرح تفكيره أو فكره وهو في عالم التقدم والتكنولوجيا. هذه الذكريات، أيام الطفولة والفتوة والحنين اليها، كان يتحدث عنها في الجلسات مع أبناء شعبه في أوروبا وفي الأراضي المقدسة. كان الحنين يطغى على تفكيره، حتى أنّه قال بكلّ تواضع عندما سُئِلَ بِتْحِن لهديك الأيام؟: أنا باجي لهون مع وْلادي من أوروبا، وبخودهِن الى الأرض المزروعة، وبحدثهِن عن هديك الأيام، وْلادي مثلي بحبوا المجيء لأراضينا المقدسة. كان يحضر الى بلدته الجليلية المتربعة فوق بعض التلال، ويقوم بتقديم خدماته لأبناء شعبه من خلال المهنة التي يتقنها ويقدمها بكل محبة وتفانٍ واخلاص. وإذا سألته عن الأجرة،يجيبكَ: أنا ما بدّي إشي، هذا صندوق لأخوتنا الفلسطينيين، مِنْ نِفسَك حُط أديش بِدَّك فيه. من عطائه اللّا محدود وخاصة لأبناء شعبه المقهور من الشريحة الضعيفة اقتصادياً، كان يعمل هذا بحسب ما علَّمته الحياة من الأيام والليالي التي قضاها في حماية وحراسة " مقاثي البطيخ "، فيقول في قرار نفسه مخاطباً الأرض المقدسة: أنتِ أعطيتيني وأنا أُعطي أبناء شعبي. كان وما زال يسمع من أصدقائه أو أقاربه عن فلان أو فلانة بحاجة لمساعدة من خلال المهنة التي يعمل بها، فلم يكن ليَعُدَّ حتى الرقم ثلاثة، بل تراه يتصل أحياناً بصديق له بالمهنة يقطن في الأراضي المقدسة، ويعلمه بأنه جاهز لمعاينة فلان أو فلانة بحاجة لمساعدته، فيذهب هو ويعاين ويفحص ما يجب فحصه، غير آبهٍ بأنّه حضرَ من أوروبا لقضاء أسبوع من الراحة بين أهله وأقاربه وأبناء بلدته، بل كان يقول: خُلِقْتُ لهذا العمل، وعليّ أن أقوم بهذه الرسالة على أتَمّ وجهٍ. لم يكن ليحسب المسافة التي سيقطعها لرؤية المُحتاج الى مساعدته، ولم يكن يوماً من الأيام العنصر المالي في قاموسه أو في حساباته، وكان يشعر بارتياح تام وبهداة بال وبطمأنينة من خلال تصرفه هذا.
لم يكُن ليطمع بالمال، لو أراده لكان من أغنى رجال العالم العربي الفلسطيني، بل كان يقول دائماً: كفاني أو يكفيني أن أرى السعادة والبسمة فوق شفاه المُحتاجين للمساعدة، فأنا خُلِقتُ وتَعلّمْتُ كي أعطي بلا حدود كلّما استطعتُ هذا، ولا يُمكنني نسيان جذوري العربية الفلسطينية، ففلّاح أنا ابن فلّاح تربّى على الفضيلة والعطاء، فقد رأى وشاهد والده كيف كان يساعد مَنْ يطلب مساعدته من قريب أو بعيد، من بلدته أو من غير بلدته. كل هذا أثّرَ به وزرعه في عمق أعماقه وفي مشاعره وشعوره الإنساني، وسيبقى كما يقول في المناسبات المختلفة حتى آخر يوم في حياته الأرضية، وهذا يتجلّى من خلال تصرفاته بعطائه، فتراه يُشاركُ بعض أصدقائه بفرح أولادهم، فيأتون إليه وهو جالس بمكان الفرح بعض المحتاجين لاستشارته وطلب مساعدته، فتراه يستجيب لطلبهم ويتحدّث معهم حول الأمر الداعي لتقديم المساعدة، غير آبهٍ بأنه يريد أن يُفَرّج عن نفسه، وهذا التصرف كان وما زال يزيد من احترام الغير لشخصه ولإنسانيته الغير محدودة. سأله أحد الأصدقاء وزميله في المهنة: لماذا لا تتقاضى أجراً عالياً مقابل عملك هذا؟ إبتسم وأجاب: لربما أتى إليَّ إنسان بسيط يعتاش من عمله البسيط هو وأفراد عائلته، وهو بحاجة ماسّة لمساعدتي من خلال مهنتي، فماذا أقول له: مُتْ، فأنا أريد كذا وكذا من المال؟!!! لا يا صديقي وأخي، أنا وُلدتُ لأعمل منيح وأرمي بالبحر، وبهذا أعمل بما قاله سيّدنا يسوع المسيح عليه السلام في إنجيله العزيز:" طوبى للبسطاء لأنهم يرثون الأرض ". وكذلك أعمل بحسب ما قاله نبيّ الإسلام القريشي محمد (صلعم) في كتابه القرآن الكريم:" وأمّا اليتيم فلا تقهر وأمّا السائل فلا تنهر ". تخيّل يا صديقي لو كنتُ أنا مكان هذا الانسان العامل البسيط، كيف سيكون شعوري تجاه ابن شعبي الفلسطيني، الذي رفض مساعدتي ومنحي الحياة من جديد؟!!! بالله عليك يا أخي: ما هذا العمل بظلم كبير؟!!! مِن أجل حفنة من المال أخسر ابن شعبي الفلسطيني!!! لا يا أخي ، فأنتَ تعمل مثلي في نفس المهنة، مللنا يا أخي القهر والظلم والاستعباد. أنا قررتُ العودة الى وطني الأراضي المقدّسة، الى جليلي، الى شعبي العربي الفلسطيني، لأنّ وطني علّمني قيمة الإنسان كإنسان، وكذلك أبناء شعبي بحاجة إليَّ والى الكثيرين من أمثالي، الذين بمقدورهم أو بقدرتهم العطاء بدون كلل أو تعب أو تأوّه. والله يا خيا بقولوا: إفتحْ صباحَك بالخير لغيرَك الله بفتحها بوِجْهَك وبوجه أبناء عائلتكَ، فالسيّد المسيح قال: إسألوا تُعطَوا،إقرعوا يُفتَح لكم. كما وقال: كنتُ عطشاناً فسقيتموني، جوعاناً فأطعمتموني، عُرياناً فكسيتموني. أيوجَد يا أخي أعظم من هذا القول، الذي يدعو الى المحبّة والتعاون ما بين بني البشر؟!!! أرضنا مقدّسة وبلادنا بلاد قداسة، فلنحافظ على طابعها بعمل الخير فيما بيننا، ومن ثمّ بيننا وبين الآخرين، كي نُظهر وجه الديانات السماوية الحقيقي، ونعمل بحسب تعاليمها، عندها يعِمّ السلام على وجه البسيطة، وينعم الناس بنِعَم الله عزّ وجلّ، التي منحها لنا دون مقابل ودون منّة أو معاتبة، أعطيتكم فاعطوا كي تطول أيامكم، وتعيشوا بسلام مع أنفسكم أوّلاً ومن ثمّ مع الآخرين.وهكذا عاد الى وطنه، واحتضنته البلدة المقدّسة محليّاً وعالميّاً، لينطلق منها في تحقيق أمنياته، وأعزها محبّة الإنسان لأخيه الإنسان، وحال لسانه يقول: أُدعُوا بسطاء الشعب يأتون لأساعدهم، فَجَليلي ما زال بخير ومنه أستمد عطائي والحمد لله.
عبلين 3/2/2012م