مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

المقاومة والبقاء بالحيلة بقلم عزالدين مبارك

0.00 - (0 تقييمات)
نشرت
753
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

المقاومة والبقاء بالحيلة  بقلم عزالدين مبارك

المقاومة والبقاء بالحيلة

بقلم عزالدين مبارك

في خضم الكم الهائل من الرداءة التي تحيط بنا من كل جهة والانحدار المتواصل لمستوى القيم والأخلاق وانتشار الفساد والمحسوبية يعتبر البقاء حيا والصمود واقفا من المعجزات والخوارق الإلهية بحيث يتكيف الانسان مع كل المتغيرات المؤلمة والمحبطة والقاسية على الوعي والضمير ولا يسلم نفسه بسهولة للانهزامية والفناء وهو الكائن المجبول على الصراع والتحدي إلى آخر رمق.

لكن القلة القليلة من الناس هي التي تقاوم الرداءة وتقف في وجهها ولو لم تكن لها الأدوات المادية والسند المؤسساتي فتجهر بمواقفها للعلن وتتحدى الظروف والعوائق فتصل إلى مرتبة الزعامة والريادة ويمكن لها قيادة التغيير والتحولات الكبرى إذا اعتنقت الجموع مبادئها وبرامجها مثلما يحدث في أغلب الثورات.

لكن الأغلبية الغالبة من الناس تنتمي إلى فئة المسالمين والتابعين والمريدين بحيث يذهبون كيفما تذهب رياح الحاكم والأغلبية الصامتة تتحكم فيهم قوانين الولاء والطاعة العمياء بحثا عن السلم والسكينة لا يغيرون من مسارات حياتهم ولا يلتفتون للوراء ولا يغامرون مطلقا. وهذه الفئة التي تتغير ببطء شديد وتتسم بسمات الاستقرار والاستمرارية تعد عامل ثبات وديمومة للمجتمع وكبح لا إرادي لكل المغامرين  لكنها في المقابل تعد حاجزا قويا أمام التطور بما أنها تتشبث بالواقع المعيش والنظام القائم ولهذا فهي قريبة من دوائر السلطة ومغذية للفكر الديكتاتوري.

وهكذا هي هيكلية المجتمعات عموما، فئة ثائرة على الواقع تبحث عن أفق جديد وتريد التغيير المستمر وتعيش في تصادم مع السلط الحاكمة وهي فئة النخبة أو القلة التي تعيش وعيا آخر وتحلم دائما بعالم طوباوي خال من دنس وحيل أهل السياسة وبعيدا عن لغط وسفسطة العامة. وهي تقاوم الوضع الاجتماعي المتأزم بحيلة الوعي والتفكير والكتابة والتنظير وهي أدوات لا تنفع كثيرا أمام انتشار الأمية الفكرية  الزاحفة على المدارس والجامعات فلا تجد لها صدى وقبولا ورسوخا في العقول التائهة في الخزعبلات السياسوية والاكراهات المعيشية.

أما الفئة الثانية وهي فئة الوسط الكثيرة العدد والمحرك الأساسي لصيرورة المجتمع والتي تعيش ركودا وقلة حيلة في فرض نفسها والتخلص من مخاوفها المستعصية واستكانتها للمنظومة الفكرية السائدة والمقيدة بحبال انتظار الأيام الجميلة واتقاء شرور الزمن الرديء بالمواظبة على فعل الشيء نفسه كطاحونة رياح الشمال واتباع العادات واللوائح والإجراءات بكل حزم ومبايعة السلطان إن أصاب أو أخطا.

أما الفئة الثالثة وهي فئة المهمشين والفقراء والخارجين عن منطق التاريخ والدولة والعرف وهي فئة تزداد اتساعا في ظل الأوضاع المعيشية البائسة على حساب الفئة الوسطية التي تتدحرج رويدا رويدا نحو قاع المستنقعات الوبائية حيث الجريمة المنظمة والتهريب والمقاومة الفعلية بالحيلة للبقاء ضمن مجموعة الأحياء. وهذه الفئة الغامضة المليئة بالأعاجيب والخرافات والطلاسم تمور فيها شتى الأحداث والتحولات بعيدا عن الاضواء الكاشفة والدراسات السيسيولوجية والنفسية يمكن اعتبارها قنبلة موقوتة ومبعث كل المخاطر للمجتمع بأسره حاكما ومحكوما على حد السواء.

ففي ظل ضعف هيبة الدولة وغياب الرادع الأخلاقي والقانوني وتوجه فئة النخب الحاكمة وأهل السياسة لتأثيث البيوت والدكاكين الحزبية وانحلال القيم التنظيمية والهيكلية للمؤسسات ذهب كل واحد يبحث عن مصلحته الشخصية المحضة وغابت عن الأذهان المصلحة العامة فتدحرجت قيمة العمل للصفر وكذلك مستوى الخدمات والانضباط.

وهكذا دخلنا لعبة الحيل من الباب الكبير بحيث لكي تحصل على المغانم والمناصب بالنسبة للنخب وأهل السياسة والإدارة والبقاء حيا على هذه الأرض ومسايرة ظروف المعيشة الغادرة وصعوبات هذا الزمن الرديء الموبوء  بالنسبة للمهمشين لا بد من التحايل على القوانين والإجراءات السائدة بشتى الطرق حتى أصبح الأمر كالعرف الجاري والقانون الخفي في ظل الفساد والمحسوبية وضعف منظومة الأخلاق والتكالب على السلطة والمنفعة الشخصية البحتة.

فقد أصبح البقاء على هذه الأرض من الناحية الموضوعية والصمود في وجه الفناء والتلاشي هو المقاومة ولو عن طريق الحيلة رغم أنف المقولة الشهيرة '' الحيلة هي في ترك الحيل'' لأن البيئة الفاسدة لا تترك مجالا لأخذ الحقوق بالقانون والمنطق فيضطر الناس لطرق بديلة.

فالنخب الحاكمة والتي بيدها الحل والعقد تشرع بنفسها القوانين لصالحها ولمنفعة أهلها فتجعل من التراب تبرا وذهبا وقادا وتنصب من تشاء وتمنح النعم لمن تشاء وقد منحها الشعب صوته لتفعل ما تراه صالحا لفائدتها الخاصة بعيدا عن استحقاقات المواطنين وحقوقهم الضائعة وكرامتهم المهدورة ومستقبلهم الغائم.

ومادام الأمر كذلك ولكل فئة حيلها وطرق شرعيتها فيذهب المهمشون إلى قانون الغاب ودولة الفساد والتهريب والعمل في الخفاء فلهم حكومات ووزراء وسلاطين وقوانين خاصة بهم وإجراءات متبعة ونظام يسيرون عليه وعقوبات زجرية ولوائح وشيوخ وزعامات معتبرة.

ففي زم الأزمات والحروب وضعف الدولة وغياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفساد يتجه الأفراد من القمة إلى القاعدة للبحث عن منظومة اجتماعية تحميهم وتلبي لهم احتياجاتهم المعيشية بعيدا عن القانون والأخلاق ما دام مصير بقاءهم مهددا ولم يجدوا حماية وسندا من الدولة التي ينتمون إليها افتراضا وواقعا تاريخيا.

فعندما تفقد الدولة شرعيتها الفعلية بحيث تصبح عاجزة عن  تقديم الخدمات لمنظوريها على أساس العدل والانصاف والكرامة الانسانية يصبح المرء في حل من العقد الاجتماعي الذي يربطها بها فلا يعترف بقوانينها ولا بسلطانها عليه لأن المنفعة التشاركية المتبادلة قد انتفت بتخل طرف من العقد عن التزاماته.

فنحن الآن في أزمة الهوية الاقتصادية والاجتماعية بامتياز بحيث لا تعترف الدولة إلا بالقلة الثرية المرفهة والماسكة بزمام الأمور الإدارية والحزبية والمناصب العليا والثروة وتغمض عينيها عن البقية المهمشة ولا ترى فائدة منهم إلا وقت الأزمات والشدائد وشد الأحزمة والانتخابات وترمي لهم الفتات وتتركهم لقمة سائغة لأباطرة التهريب والجريمة المنظمة مما يخلق شرخا في المجتمع  وجروحا غائرة لا تداويها بعض الشعارات الجوفاء والدجل السياسي العقيم. 

753
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

جاري التحميل