لكل عملة وجهان - جواد بولس
النصر عندنا نحن العرب، لن يجيء إلّا زنديقًا، آباؤه كثرٌ كغوغاء في ربيع.
الفشل عندنا، نحن العرب، لن يكون إلّا لقيطًا، لفافةً من عجز وخطيئة تُترك خلسة على عتبة بيت آمن أو في كرم مفتٍ.
بارعون في تسويق الخسارة، حبّات من نصر مدَّعًى نتجرّعها في ليالي الهلوسة والمُجون، كأمنيات العوانس، فيمسي القبيح فيها حسنًا ويصبح الجهول حليمًا!
هكذا هو تاريخنا، من يوم مات من أعاد لابن الصحراء عزةً سلبت وكرامة ديست ولم شملهم بعد شتات، مات وأبقى خرافًا ضلّت بعده الطريق وتاهت.
أيام العرب تغاريبُ وحكايا سيفٍ وسكين. معاركهم "وقعات" والنصر فيها كان لجيوش من الملائكة تكر على الأعداء وتضرب بسيوف من نار غير مرئية وتهزم الكافرين، والخسارة فيها من غضب السماوات على قوم فسقوا واختالوا، لعلهم يتّقون، بطولات كالأساطير خزَّنتها بطونُ الكتب والعقول وما ضرَّها جداول الدم المسفوك، رواها، بعد الصدّيق، كل من استُخلف وحََكَم.
عشائر حبلى لا تلد إلّا بطونًا وأفخاذًا وسيقانًا. تاريخٌ نُصّ على رايات أربع محاها الجهل وكسرها الجشع، فصارت فسائل ففصائل، لا يوحّدها جوع "خضر" ولا "حسناء" من فلسطين بزَّت حسناء الخليل والقطرين.
خسارات العرب أرباحٌ وهزائمهم انتصارات، ولكن من العجب العجاب، براعتهم في تحويل نصر إلى هزيمة، فنصر "زيدٍ" مأتم عند "عمرو". تقام أعراس من التلاسن والتراشق البرّاق والمموَّه على حدٍّ سواء. خليط من ضحكات صفراوات وأفانين من المزايدات والاستبراع الأصدق من حمْل بغلة ولسانٍ ينزّ وطنيّة ومعايرةً أمضى من لسان حطيئة.
فهل حقًا يا عرب تؤمنون أن "خضرًا بنَ عدنان" انتصر على المخرز وأدمى يد موسى وهارون؟ أحقًا صلى ابن الأخضر والأصفر والأحمر والرمادي لوثبة الحق واستمطرَ السماء رحمةً وغيثًا ينزل على الخضر في لياليه الواخزة؟ والله يا أبتِ لا أكذب إن قلتُ أن إخوة لعدنان ما تمنّوا له ثباتًا ولا صمودًا ودعوا لتهبط عليه في الليل غيمة سوداء تنهك عزيمته وتدعه ينقضُّ على أول كسرة خبز يشمّها فيهشّم وقارها ويسفك وقارنا وينهل من شفة أول كأس لبنًا وسقوطًا وهزيمة! فعنترة، يا أبت، يبقى فارس بني عبس، هكذا علّمنا التاريخ وعلّم في عروقنا، فما لذبيان وللعبسي هذا؟
وهل حقًا يا عرب أصابكم داء العزة والرعشة، داء النصر، لأن أقحوانة من فلسطين ملأت الفضاء صلاة وترانيم لم نسمعها من يوم ما سكبوا الرصاص في أحضانكم وفي آذانكم؟ هل حقًا يا إخوتي طرتم على غيم ورقصتم على جناحي يمام يوم سجّلت "جميلتنا" تاريخًا "ترويه بلادي/ يحفظه بعدي أولادي/ تاريخ امرأة من وطني/ جلدت مقصلة الجلاد/ امرأة دوخت الشمسا/ جرحت أبعاد الأبعاد/ ما أصغر (جان دارك) فرنسا/ في جانب (جان دارك) بلادي".
هل حقًا يا عرب صدّقتم أن "جميلتنا" ستصمد في وكر الثعبان؟ هل حقًا صلٌيتم لها أن تنجو ولا تقضي بخطيئتها مذنبة حمقاء طائشة متشاوفة! ألم تغظكم العبسية هذه؟ أوَما كان يكفينا عنترةٌ واحد، فما بال المصائب حين تأتي، جملةً تأتي.
أحرجتكم هذه السوسنة. صمتها/جوعها "تحرَّش" برتابة هديركم. إلحاح هذه النحلة كشف عجزَكم. جاءت على صيفكم من غير موعد كلفحة شمس، استفزت رجولتكم وتحدت شبعكم، فلجأتم إلى ما حمى من مثلكم، إلى الظل في عرائش المدرجات، فما أبرعكم يا كل المنتشين على صدأ المبدأ. فليحيا الموقف ولتزغرد الحناجر، فكلنا نقول لا للإبعاد ومن لم يقلها في الماضي مستنكفًا كان ومتخاذلًا. لا للإبعاد، فهو أظلم من الظلم وأشد من عقاب الرب لشعبه المختار، ولا للإبعاد لأنه لا يشكّل حلًا ولا للإبعاد لأنه ينافي شريعة الله وشرعة البشر.
والله يا أبتِ، ما أغاظني مَن مِن فرط حبه لوطن سجّل موقفًا وتابَ، ولكن عتبي على من تمسّح بزيت الوطن ليطوّق جبين "هناء" بإكليل من عتب وشكوى، وهي التي تستحق منا إكليلًا من غار ووقار. عتبي على كل من كان رقيبًا كخَفَرِ السواحل ينتظر الموجة والشاطئ، واليوم بخباثة فيروس يشيد بالمناضلة ويردف تحفظًا فعنده الأولى بها أن تكون مناضلة حتى النفس الأخير، شهيدةً في مقبرة بلدها لا حيّة منفيَّة في صحراء غزة ولتحيا الحياة بعدها!.
وعتبي على كل من غاب عن الساحة واستكثر إعلاء صيحة في ميدان واستبخس المناصرة ولو بطلقة حنجرة، وذلك لأنه من قوم لا يؤمنون إلا بالكفاح الشامل العارم القبّاض الهلّاك وبالضربة القاضية ينزلها "كجلمود صخر من علِ" فيمسي الاحتلال في خبرِ كان وبغدادَ ولاس فيغاس!
وعتبي على مسؤولين خبراء مجربين غيّبهم الحدث عن السطور فاحتموا بالهمز والغمز يشككون بمن عمل وضحّى، وصاروا كأبناء "الموضة" ومن وحدة الهتّافين في أسواق المزايدة والتلويم المرقط.
لقد كنت هناك يا أبتِ، شاهدًا على كيف ما يزال حفيد روتشيلد يراهن على سذاجة الفلاح فينا وقهر الجوع والمِعَد الخاوية وأظافر أخٍ تنشب في جلد أخ.
لقد كنت هناك يا أبتِ في ليالي الجرمق الحزين، ينتصر لابنه، يعيد بعضًا من كرامة فُضَّت يوم نام الرعاة. وكنت هناك يوم بكت السوسنة حينما كانت عليلة ومقيّدة وسجينة، وعرِفتْ أنها في مستشفى وعلى ثرى حيفا فتمنَّتْ أن تكون النهاية هناك فهي من حيفا ولا تعرفها، وهي من حيفا ولم تزرها، فصلّت عسى الرحمن يدبِّر بحكمته لتزرع سوسنة وتملأ الكرمل سوسنات.
كنت هناك يا أبتِ شاهدًا كيف يعيد حرٌّ وحرة للوطن معنى وللكرامة بيرقًا. وكنت هناك شاهدًا كيف للمقامر أن يخسر الرهان أمام من بالإيمان والعقل والصبر يصمد. كنت هناك وشاهدتُ وتعلمتُ أن ما ينفع الناس باقٍ وأن المزايدة هي الوجه الثاني للبلادة، والردح، في بعض الأحيان، يكون الوجه الآخر للعمالة... فلكل عملة وجهان.