الصهيونية والعنف الواعي
لا يشكل العنف الإسرائيلي في مواجهة انتفاضة الشباب الفلسطيني حالة نادرة في تاريخ الكيان الاستعماري-الاستيطاني الإسرائيلي ومن قبله الحركة الصهيونية التي تمخض عنها هذا الكيان الاستعماري. بل إن العنف عنصر أساسي في بنية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ومحرك سيرورة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين لعدة أسباب، أهمها لكونه أسلوب وأداة لا غنىً عنها، بالنسبة للمُستَعمِر بحكم كونه مُستَعمِر، لنجاعته في مواجهة الأصلانيين وإزالتهم وسحقهم عملياً وعلى مستوى الوعي على المدى البعيد، وفي مواجهة المواقف اللحظية والهبات الشعبية الوقتية والانتفاضات والتظاهرات وغيرها من أساليب المقاومة وفقاً للمنظور الصهيوني.
وبصرف النظر عن دقة الادعاءات القائلة بتجذر العنف في جينات الفكر الصهيوني، أو المقولات النقيضة بحيث يبدو العنف مجرد آثار جانبية غير مقصودة أو دفاع عن النفس، فإن الأكيد هو أن الحركة الصهيونية كانت على دراية تامة بوجود سكان فلسطينيين أصلانيين في فلسطين، ووجود حضارة قائمة فعلاً. ومثالاً على ذلك، ما جاء في التقرير الذي أعده مندوبا أحد قادة الحركة الصهيونية واليد اليمنى لهرتسل، ماكس نوردو، إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، من "إن فلسطين عروس جميلة جداً، ومستوفية لجميع الشروط، لكنها متزوجة فعلاً."
أي أنه اقرار صريح بوجود سكان أصلانيين يقيمون على هذه الأرض ويملكونها، ولهم عليها سيادة، وتشكيلاتهم السياسية والاجتماعية والحضارية الخاصة. وبالتالي جزءاً وازناً من قادة الحركة الصهيونية أدركوا أن أداة العنف ضد الأصلانيين لا مفر منها في حال شرعوا بعملية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين. ويعود ذلك لرفض أي شعب في أن يتخلى أو يتنازل عن أرضه وحقوقه وأملاكه وموارده وارتباطه بأرضه وشعبه لأي سببٍ كان، وهي ذاتها الأمور الواجب تحصيلها أو إزالتها لكي ينجح مشروع إقامة الدولة العبرية. وطبقاً لذلك، فقد كان واضحاً لقادة المشروع الاستيطاني الصهيوني أن نجاح المشروع سيكون على ركيزتين هما سفك الدم الفلسطيني، وطرد الفلسطينيين من أرضهم، حتى وإن تغاضت الحركة الصهيونية في بداياتها عن طرح إجابة واضحة حول مصير الفلسطينيين.
يعتقد الكيان الإسرائيلي أن العنف أفضل وسيلة لتحقيق الهدف المنشود وهو كي الوعي الفلسطيني الذي يعني فيما يعنيه تغييب وعي الفلسطينيين بالعنف والقوة العسكرية والقمع وتحويله باتجاه الاعتراف بالتفوق الإسرائيلي والقبول بفرضية انهزامهم أمام المشروع الاستيطاني، وتجريدهم من هويتهم الوطنية وانتمائهم إن أمكن، وما يترتب على ذلك من سلبية وقبول بالنظام الاستعماري القائم على طبقات من المظالم التاريخية الهائلة ضد الشعب الفلسطينيين على المدى البعيد. وعلى المستوى القصير، فالعنف هو أنجع وسيلة لقمع أي حركة احتجاجية على المشروع الصهيوني الاستيطاني كذلك أو أي مظهر من مظاهر الاحتجاج والمقاومة الفردية والجماعية من منظار المستوطن. ولا وسيلة أنجع من ذلك تلوح في الأفق من حيث قوتها وجمعها للقدرة على التعامل المواقف اللحظية وبعيدة المدى لدى المشروع الصهيوني.
ولكونه مشروعاً استيطانياً، يدرك حقيقة الجدلية غير القابلة للفكاك بين المقاومة أو تحدي الهيمنة الاستعمارية والأصلاني. لذلك تدرك إسرائيل حقيقة استحالة قبول الشعب الفلسطيني بحالة الذل والقمع والقهر وسلب الأرض والحرية والكرامة والإنسان، وإن خمل قليلاً، ، فإنها استراحة محارب لا محالة، والعودة تكون قريبة للنضال ضد الاستعمار الاستيطاني الموجه ضد أرضه وشعبه ويتوسع على حسابهم. وبما أن التوسع في السلب والسيطرة والقمع والقتل والعزل ونزع الحقوق وإلغاء الفلسطينيين الأصلانيين هو عنوان أصيل في بنية الاستعمار الاستيطاني، فإن متلازمته هي مقاومة الفلسطينيين لهذا المشروع كأصلانيين. وهنا تكمن أزمة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، والحل السريع والوحيد لدى المشروع الصهيوني الاستيطاني هو العنف لحل نقطة التناقض بين ضرورة التوسع في حجم ونظام السلب والهيمنة والسيطرة والإلغاء الموجه ضد الفلسطينيين وتعميقه لدى المشروع الصهيوني الاستيطاني، وبين فطرية وحتمية مقاومة الفلسطينيين لهذه العمليات الموجهة ضدهم وأرضهم.
والخلاصة أن المشروع الصهيوني ليس لديه الحل، وإنما لديه حل وإجابة واحدة على الظلم التاريخي القائم والمستمر من عشرات السنين ضد الفلسطينيين وهو مزيد من العنف ومزيد من الهيمنة والسلب والتفتيت. بل إن العنف الاستعماري الإسرائيلي يزداد شراسة وشدة وخبرة وتطرفاً يوماً بعد يوم على حساب الدم والأرض الفلسطينية. وما يميز الفاشية الإسرائيلية في قمع الفلسطينيين خلال هذه الانتفاضة (أو الهبّة، أو كما شئتم) من وصولها إلى مدى غير مسبوق من استسهال سفك دماء الفلسطينيين لمجرد الشك بالنوايا، أو القتل في حالات يمكن فيها السيطرة على الفلسطيني بدلاً من إعدامه بهذه الطريقة البشعة اللاأخلاقية ولا قانونية ولا شرعية دينياً وتاريخياً خير دليل على ذلك.
بالنسبة للمشروع الصهيوني- كمشروع استيطاني نهب معظم أراضي الفلسطينيين وما يزال، وهجر معظم سكان الأرض بيد من حديد ولا يزال يقوم بذلك بطرق مراوغة، وسفك الدماء ولا يزال يتلذذ بسفكها، وانتزع الحرية ولا يزال ينتزعها من الشعب الفلسطيني الأصلاني- إن التوقف عن استخدام العنف يعني بالمقابل التنازل عن ذاته وجوهره التوسعي والإلغائي والاعتراف بجرمه والعمل على إصلاح ما أوقعه من فظائع على الفلسطينيين الذين في نظره أقل من أن يكونوا بشراً، وهو ما يعني بالضرورة تفكيك المشروع الصهيوني لذاته وهو ما لن يحصل.