سعيد نفّاع وخيار القائد - جواد بولس
من المرجّح أن يقوم النائب السابق المحامي سعيد نفاع، بتسليم نفسه لإدارة مصلحة السجون الإسرائيلية في الأيام المقبلة، وذلك بعد أن تنتهي المحكمة العليا من النظر في الطلب المستعجل، الذي تقدم به طاقم الدفاع عنه، في محاولة أخيرة لإلغاء قرار ثلاثة من قضاة تلك المحكمة، حيث ثبّتوا فيه، مؤخرًا،الحكم الصادر عن المحكمة المركزية في الناصرة، وهو يقضي بحبس نفاع لمدة عام، وكان من المفروض أن يبدأه في السادس من تشرين الثاني الجاري.
لا أعوّل على ما ستقرره المحكمة العليا، مع أنني أتشوّق لإحداثها مفاجأةً، قد تُبقي لي ولكثيرين ممن فقدوا مثلي ثقتهم بعدلها، فسحة من أمل حتى وإن كانت أصغر من خرت إبرة.
بدخوله السجن يكون نفاع أول عضو كنيست عربي يسجن فعليًا ولمدة طويلة، بسبب نشاط سياسي مارسه وهو نائب في الكنيست.
بدأت فصول قضية سعيد نفاع، عمليًا، في مطلع العام ٢٠١٠، وهي، بتداعياتها، تكتنز مجموعةً من عناصر المأساة التي تعيشها الجماهير العربية في إسرائيل بمحوّريها الأساسيين: علاقة مؤسسات الدولة بهذه الجماهير، وعلاقة مؤسسات الجماهير وتنظيماتها السياسية والاجتماعية بأفرادها.
قرار الجهات الأمنية الإسرائيلية بملاحقة نفاع والتحقيق معه حول زيارة قام بها إلى سوريا بمشاركة وفد كبير من مواطني الدولة لم يكن عرضيًا، ولا هو نتاج نزوة تلبّست ذلك المسؤول أو تلك الجهة، و لذلك فهو يشكّل قفزة نوعية في سياسة الدولة تجاه مواطنيها العرب، وعيّنةً لما ينتظر هذه الجماهير وخصوصًا قادتها، لا سيّما من سيتمرد منهم على القائم والسائد والمألوف من أنظمة الترويض والتهريج والتصويت والفرقعة التي تفترض المؤسسة الإسرائيلية أن المروِّضين يضعون حدودها والمروَّضين يعرفون حدودها، ويحترمونها، تمامًا كتلك النمور التي أدمنت حشائش سوّاطيها!
فعلى الرغم مما يشيعه القرار من قسمات تبدو في سياقها العام، طبيعية وعفوية، أو على الأقل هذا ما يوحي به رد الفعل العربي المحلي، على جميع المستويات الشعبية والمؤسساتية والحزبية، وخاصّة عندما استدعي النائب نفاع إلى التحقيق وبعدما قرر المستشار القانوني لحكومة إسرائيل تقديمه إلى المحاكمة، ستبقى هذه القضية شارة تحذير صارخة، وتنذر بما اختمر في دهاليز الدولة وبما ستوقعه هذه الخمائر من ضحايا ستصيبها حصّة منها والعدوى.
قرار السلطات الأمنية الإسرائيلية اتخذ على الرغم من عضوية النائب نفاع في الكنيست، وزياراته تمّت حين كان يمارس، بمفهومه، نشاطًا يندرج في إطار مسؤولياته السياسية الوطنية والشعبية المسموحة، والاستفراد به كان متعمّدًا، فقبله زار سوريا مئات من المواطنين والشخصيات الاعتبارية والنوّاب في الكنيست، وإدانته عكست التئامًا مقلقًا، بين جميع سلطات الحكم في الدولة وشوارعها: انقضاض يميني حزبي مسعور، تلاه نشاط محموم لأجهزة الأمن، أفضى إلى تقديم لائحة اتهام مزعجة بمضامينها، تبنّتها المحكمة المركزية وحكمت على المتهم نفاع بالسجن الفعلي لمدة عام كامل، وتصديق مستفز من المحكمة العليا، هذه المحكمة التي يتصدّر بعض قضاتها، في السنوات الأخيرة، مهام كتابة الفصول الأخيرة في تاريخ حروب اليهود مع الأغيار، ويكملون عمليًا ما بدأته الأسطورة وأرّخه "يوسيفيوس" ولم ينته بأحلام هيرتسل وصحبه من ورثة يوشع وأسلافه.
من المعروف أن عددًا من المواطنين العرب، وبضمنهم قادة جماهيريون وسياسيون، حوكموا في الماضي، فيما وصف بمحاكم سياسية، لكنني أرى أن قضية نفاع تتميز عن جميع تلك القضايا لما سيق أعلاه من خصائص، ولأنها تؤسس، عمليًا، لسابقة قد تفتح بوّابات سجون إسرائيل لدخول نواب عرب وقياديين وأكّاديميين وفنّانين سيتهمون في القريب العاجل، بمخالفة هذا القانون أو ذاك الحظر؛ فكلّنا يعلم أن الكنيست الإسرائيلية أفرزت في السنوات الأخيرة مجموعة قوانين فاشية، لن تبقى مجرد سطور في كتب التاريخ وزينة في المكتبات، بل ستتحوّل سريعًا، إلى خناجر تسلط على رقاب كل من ستسوّل له نفسه تحدي محاذيرها وعدم الانصياع لها.
لقد قرأت إسرائيل الرسمية ما كتبه العرب على جدران حاراتهم، وما كان ينشر في أدبيات أحزابهم، وما نضحت به خطابات قادتهم ونشطائهم، ففي مطلع العام ٢٠١٠، كانت حروب قبائل العرب مستعرة وطبول الجيوش المتعادية في النقب والمثلث والجليل تدردب، والأهم، فيما يخص قضية النائب نفاع، برأيي، كان تزامن قرار فصله من حزب التجمع مع قرار تقديمه للمحاكمة من قبل المؤسسة الإسرائيلية، وما تدفق من بيانات تجمعية مهاجمة من جهة وبيانات رافضة من جهة أخرى، كادت تشعل فتنة خططت لها إسرائيل وتمنتها. معظم القوى السياسية التزمت، في حينه، الصمت، وبعضه كان تعبيرًا عن شماتة معظم المتفرجين وفرح دفين في صدورهم على حرب بين حزب مشاكس مع واحد من أهم قادته ومن كان يمثلهم في الكنيست، وكأني بالصامتين يقهقهون: بطيخ يكسّر بعضه!
راهنت إسرائيل على فرصة مواتية، وانتظرتها بمهارة ثعلب وصبره، وانقضت، باللحظة المناسبة، على شخصية حزبية قيادية، تُركت من قبل رفاقها جريحة ووحيدةً، ونتيجة لغباء ساسة مصابين بقصر النظر، ومدفوعين بنكايات حزبية شخصية ثانويّة، فصارت لليمين الإسرائيلي فريسة وتواجه مخالب أمضى من خناجر عدن، ومن دمائها، هكذا افترضت إسرائيل، سيتعظ الغافلون، والمقامرون والمتقاتلون من إخوة أعداء!
لقد اختار سعيد نفاع أن يواجه القرار الإسرائيلي بإصرار واضح رغم قلّة المناصرين في البدايات، وبمساندة خجلى من البعض الذي استعرض حضورًا بروتوكوليًا ومجاملًا، وهو كقائد سياسي آثر أن يدفع ثمن ما آمن به ونشط من أجله، ولم يسع إلى تدوير الزوايا أو التفتيش عن ملاجئ تقيه قرف السجون والمعاناة من فقده لحريته وعيشه بشوق لعائلة ستعتز به وتنتظره بلهفة، والأهم بنظري، أنه لم يستظل بفيء طائفة حاول بعض نشطاء حزبه، كما أشاعوا حينما فصل، أن يتهمه بمداهنتها وإيثار علاقته بها طائفيًا، على حساب انتماءاته الحزبية والوطنية، وهو، في الواقع وكما ينعكس ممّا يقوم به في السنوات الأخيرة يحاول تسخير قضيته وعرضها وسيلةَ إيضاح فالقة ليستصرخ من خلالها، أكثرية من طائفة ما زالت تراهن على حلف دمها مع المؤسسة الإسرائيلية وعليه تعقد حبال نجاتها وعيشها المرفّه.
إنها قضية تكتنز وتختزل كثيرًا من عناصر مأساة الجماهير العربية الصامدة في وطنها الذي صار في زمن الجهل دولة اسمها إسرائيل: فسعيد نفاع يدفع ثمن التواصل مع عرب ما زالت أكثريّتهم لا تعترف بنا وهم في عارهم غارقون، وثمن سياسة دولة لم تزل ترفض قبولنا مواطنين أحرارًا وأبناء فخورين لشعب كنا له بوصلة وسنبقى من أجله، في الأنواء، يواطر، ويدفع ثمن المزايدات والمؤامرات والمبايعات والمقايضات الحزبية الضيقة التي سيبقى وبالها علينا طالما بقي ممارسوها محكومين بأنفس عليلة وذليلة، وثمن المداهنات والرياء من أناس يعيشون في فقاعات من كذب وجحود ومجاملات تصلح لشاشات روتانا ومثيلاتها.
وأخيرًا، وبعد أن صار قرار المحكمة شبه نهائي، وباب الزنزانة ينتظر، باسمًا، سعيدًا، بدأنا نلحظ تصاعد موجات التضامن مع سعيد نفاع. وبينهم رأينا حتى من أمطروه شتائم وتهمًا من جميع الأحجام والأشكال، ويتصدرون اليوم ديوانه مؤازرين ومتضامنين. قد لا تنقذ هذه الحملات سعيدًا من ظلمة الأسر، لكنها تثبت قصور الأحزاب والحركات حينما كانت قياداتها متخاصمة ومتنابذة، وتثبت بالمقابل، أن بين جماهيرنا مواطن قوة كثيرة هُمّشت واستُثنيت، وهي على استعداد للانخراط في عمل وطني سليم، إذا كانت الغاية منه وطنية حقيقية وأكبر من حركة أو حزب أو طائفة، فاليوم، هكذا استشعر المتضامنون، سيدفع سعيد نفاع فاتورة القمع والقهر والشرذمة والفرقة والنميمة والمزايدة والجحود والكراهية، وغدًا إذا لم نتعظ، قد ندفع كلّنا، فاتورة سياسات قادة عانوا من ضعف في جميع الحواس، إلا من حاسة الشم، فهي التي أنبأتهم، أن من بعد سعيد، ستكون الزنازين جاهزة والجلّاد ينتظر.