لا يريدونها لأنها مدارس وطنية - جواد بولس
لا أذكر أنني عانيت كما عانيت في اليومين الأخيرين. أتنفس أخبارًا سوداء ورملًا خبيثًا، يتسلّل إلى صدري المريض ويشلّه.
الأطباء يمنعوني من مغادرة بيتي، ويجزمون أن لمن خسر مثلي، مناعته وشباب رئتيه فليست له هوامش للمناورة ولا فسحة للتحدّي. بيتي حصني، وقلمي ملجأ عجزي.
بدأت أكتب مقالتي الأسبوعية، ومواقع الأخبار تنقل، برمادية طاغية، خبر فشل المفاوضات ما بين الأمانة العامة للمدارس الأهلية المسيحية وممثلي الوزارات الإسرائيلية المختلفة، حيث جرت يوم الأربعاء، التاسع من أيلول، في القدس.
أحاول أن أهرب ممّا تمليه شؤون الساعة. أسرح في تفاصيل لقائنا الزاهي ليلة أمس، مع الكاتب والصحفي العتيق فيصل حوراني، الذي أكرمنا، وحلّ ضيفًا على جليلنا فزاده شممًا وعطرًا ووجعًا.
يستقبل ميلي عددًا من بيانات المناصرة والتضامن، يعلن مطلقوها عن تأييدهم لنضال المدارس الأهلية في إسرائيل، ومعظمهم يؤكد على دور تلك المدارس الوطني عبر التاريخ. لا تغيظني النصوص، فأنا مولع باللغة وبالإنشاء إذا كان بديعًا وخصيبا، ولكنني أحسست بالحزن، كلّما كشطتُ عن كلماتهم رقيقةً، وبالحسرة، كلما سلخت عن حروفهم نقطة أو ضمّة. نحن لغتنا، وليحيَ الضياع.
آمنت دائمًا أن الصدفة في الحياة ملكة، وهي فوق كل تدبير.
يدق جرس بابي، فأفتح ليدخل خليل عاصي، رجل من سمرة بلدي، في منتصف سبعينياته، دمث رقيق، أعرفه بعيدًا وهو قريب، وأعرف أنه صديق عمي المريض. يجلس وفي عينيه بريق أولاد ينتظرون مرور صوت بائع العنبر أمام بيتهم، يسألني عن صحة رفيقه، يقلق من جوابي، ويتمنى له السلامة ووافر الصحة. يستدرج رأيي فيما يجري بقضية المدارس الأهلية، ويتساءل متظلّمًا ومستفهمًا، لماذا لا يسمّونها مدارس مسيحية أهلية، فأنا تعلّمت في مدرسة قريتنا "البصة"، وكان اسمها "المدرسة الأسقفية الوطنية"، ومنها تخرج قبل يوم هجيجنا في عام النكبة جهابذة فلسطين. أجيبه ولا أجيب، ويجيبني كما أجيب، يودّعني، ويترك بين يدي ظرفًا، وفيه مجموعة من كراريس لم يبق فيها الدهر إلّا أشباه ألوان، وكنزًا من العزّة الغابرة والحنين الذي لا يشيخ.
أعود إلى نفسي. من العسير أن نتكهن كيف ستنتهي هذه الأزمة، فعلى الرغم من عدالة ما تطالب به المدارس الأهلية المسيحية، سيضعف بالقريب العاجل، برأيي، موقف إداراتها، إذ لا يعقل أن يستمر الرهان على إضراب وقوده ثلاثة وثلاثون ألف طالب لن يقامر أحد على مصير عامهم الدراسي، حتى وإن بدا، اليوم، أنهم، وعائلاتهم، على استعداد للمضي في هذه المسيرة والتضحية بالكثير.
إنه زمن الغبار، حيث يصير الاستلباس والالتباس مخلّصين للبشر. فما هي هذه المدارس التي يتحدّثون عنها، وبعضهم يصر أن يصِمها بدينها أو يُجزيها لدينها، فهي، لهذا ولذاك، مسيحية، وآخرون، وسطيون مرتاحون ظرفاء، يصرّون أن ينصفوها على طريقتهم، فهي بعرفهم أهلية فقط، وغيرهم، موضوعيون، لا يترددون بتسمية الولد باسمه، فهي، كاسمها، أهلية مسيحية! والخلاصة، لمن لم يقرأ المكتوب أن القصة، على ما يبدو، ليست قصة رمّانه.. كما كانت تقول لنا جدّاتنا، بل قد تكون نهاية/بداية حكاية بير الزيت الفلسطينية.
فمن قريب تبدو هذه الأزمة كبداية لنهاية حقبة مُطّت فصولها بشكل غرائبي قد يحفز دارسين لسبر مفاعيلها ودواعيها، فالمدارس الأهلية المسيحية الأولى نشأت في فلسطين في معطيات كانت في حينه من موجبات الساعة، وشروط ولادة طبيعية، عاشتها فلسطين التي كانت مدارسها فقيرةً وعبارةً عن مؤسسات موروثة من عهد كان يلفظ آخر أنفاسه، ولم تعد تلائم هوية مجتمع بدأ في العشرينيات والثلاثنينات من القرن الماضي، يتلمس عوده الوطني ويتحسس وثبته القومية العربية.
"إن حق لي أن أشير إلى طابع للحركة الفكرية في فلسطين، قلت غير متردد إن طابعها للمدارس والتهذيب، ففلسطين الأن في طريقها إلى المدرسة..إن لم تكن قد أصبحت فيها"، هكذا يفتتح الاستاذ الكبير حبيب أفندي خوري (كما جاء في الأصل) مقالة عنونها، "المدارس الوطنية" ونشرها في رسالة كانت تصدرها، بشكل دوري، مدرسة قرية البصة الجليلية، التي أسسها ورعاها مطران العرب غريغوريوس حنا حجار عام ١٩٢٧، وأسماها "المدرسة الاسقفية الوطنية"، وكما جاء في فصل سمّى أهداف المدرسة، كتب القائمون عليها مؤكدين: "وغاية المدرسة الرئيسية تربية التلامذة تربية صالحة وطنية تكفل لهم أن يكونوا في الحياة رجالًا يعتمد عليهم في كل الأعمال".
قد تختلف ماهية المدارس المسيحية الأهلية القائمة اليوم عن أمهاتها من زمن التأسيس، وذلك بالأساس لاختلاف الحاضنة التي ولدت في حضنها والدفيئة التي نمت في ظلّها تلك المدارس قبل عام النكبة، واستحالة مقاربتها مع ما استجد بعد عام النكبة؛ مع أن القائمين على إدارات هذه المدارس المسيحية الأهلية التي استمرت بعطائها في العهد الجديد، عدّوا، في أغلب الأحيان، شخصياتٍ وطنيةً تقدمية، ليس أقل، إن لم يكن أكثر، من بعض من أداروا المدارس الحكومية العربية الإسرائيلية.
وبعودة الى مقالة الأستاذ حبيب خوري من عام ١٩٤٣ نستطيع أن نفترض أن ما كان قائمًا وزرع في رحم هذه المدارس، ما زال مستوطنًا هناك، كالجينات لا تهلكها عواتي الزمن، مهما تبدلت الأحوال، "فلقد كان السواد الأعظم من مدارسنا إلى ثلث قرن خلا إما حكوميًا أو أجنبيًا، أما الآن، فقد ظهرت تباشير الدور القومي وهو الدور الطبيعي المعقول وهبّت الامة تتحفز له.."، أقرأ وأصرخ، فان اردنا، اليوم، أن نبكي، فلنبكِ على وطن ذبح ولننحْ على أمّة جهلت، وليس على مدارس ما زالت تؤمن بالغد والزهر والقلم!
هكذا، إذًا، فهمت في حينه الأمة دور مدرسة أسقفية وطنية كانت تعي ما قد يستثيره اسمها من التباس فنوّهت في قانونها الواضح وبالبنط العريض: "ولئن كان اسم المدرسة يدلّ على أنها طائفية إلّا أنها تعامل جميع تلامذتها على اختلاف مذاهبهم ومراتبهم معاملة متساوية مشبعة بروح الإخاء وبالتهذيب الصحيح".
كم كنت أرجو أن يتسع مقال أسبوعي لمراجعة تلك الكراريس الكنز التي تركها الخليل، ابن البصة بين يدي، لأشرككم في غبطتي، وتروا معي كيف تكون مدرسة أسقفية مرجلًا لصهر الرجال الرجال، وكيف كان يؤم سراة القوم مهرجانات فرحها الكبير ليؤازروها ويحتفل الطلاب تارةً وينهلوا من "الخطيب المفوه الاستاذ رشيد الخوري" وبعده بعام يتفقهون على "المحامي القانوني الكبير الاستاذ أحمد الشقيري"، حينها قد تتيقنون مثلي أن القضية لم تكن، وهي ليست، بالاسم أو الوصف أو اللقب، بل هي بما تُحشى به عقول البشر، وما ينكأ به دهر جروح بلد ويجود به قدر؛ فالمدرسة كانت مسيحية لكنها كانت في البداية والنهاية وطنية، ومن أسسها أقسم أن يبني الانسان أوّلًا، وبعده فليكن فلسطينيًا عربيًا مهذبًا عصاميًا متسامحًا غيورًا مستقيمًا، وأقسم، كذلك، أنهم للوطن، وهو عندهم في مكانة لا تدانيها مكانة، وقبلها كان الدين مهذّبًا ومرشدًا وجسرًا وبانيًا القيم.
أعود إلى صمتي. "كذا أنا يا دنيا" كان عنوان مقالة خص بها الأديب الفلسطيني أحد أعداد رسالة مدرسة البصة الأسقفية. "أكره أن يخاف الإنسان ولو سقطت عليه السماء"!
حض السكاكيني جيل ذلك الزمن، وأردف "أكره الذين يزدهيهم شيء". أقول لنفسي، لو تخيلته اليوم أكان كتب لطلابه ويقول: قد نجد ما تختلف به مدارس اليوم المسيحية الأهلية عن مدارس ذلك الزمن، لكنّها لا تنفرد بما تختلف فيه عن سائر المدارس الحكومية أو الأهلية غير المسيحية، أو المسلمة أو اليهودية، ولن يستعصي على محقق جاد أن يجد كثيرًا مما يميّز هذه المدارس الأهلية المسيحية ويزكيها بأنها أهل لتحمل تاج مدرسة البصة الاسقفية الوطنية، فلربما لأنها ما زالت مدارس مسيحية أهلية ووطنية، لا يريد لها البعض أن تستمر وتبني ذلك الإنسان الحر والوطني الحق.
قلت ربما! فكذا أنا يا دنيا.. "ولا عاش من يمشي على الأرض خائفًا أو مزهوًا"، ورحم الله زمن السكاكيني.