عن بيان المثقفين اليهود والعرب: لماذا رفضتُ التوقيع على البيان... ؟! - سميح غنادري
لم أوقع على البيان!
عندما طلب مني زميل أن أوقع على بيان المثقفين اليهود والعرب تأييداً لإقامة الدولة الفلسطينية ولطرح الاعتراف بها على أجندة الأمم المتحدة، رفضتُ ذلك.
رفضت، رغم تأييدي لما جاء في البيان بخصوص اقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية. ولا أزاود على هذا الحل الذي لا يوفرّ العدالة التامة، بل أعتبره مساومة تاريخية مقبولة. وذلك لأن البديل القائم كارثي، ولأن المستقبل المنظور غير حامل بحل أفضل.
لكني لم أوقع البيان!
لم أرفض التوقيع لأن البيان لا يذكر حق العودة للاجئين. فالبيان ينص على أن إنهاء الصراع يقوم على أساس قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وهذه تتضمن حق العودة. أي لا يوجد في البيان تنازل عن ذلك الحق، رغم عدم ذكره مباشرة. ثم أتفهم أنه ما دام المقصود هو دعم حق إقامة الدولة الفلسطينية وتجنيد أكبر عدد من المثقفين والشخصيات اليهودية الإسرائيلية تأييداً لهذا، فإن ذكر حق العودة صراحة ومباشرة قد يضر بهذا الأمر.
لم أوقع!
ليس لأني أرفض العمل العربي ــ اليهودي المشترك من أجل السلام العادل والدائم (والمساواة والعدالة الاجتماعية أيضاً). بل اؤيده وأدعمه وأمارسه في عملي الوطني وكتاباتي. ولا أعتبر هذا "أسرلة" و"صهينة"، وإنما دفاعاً عن حقوقي القومية والمدنية وهويتي ومواطنتي. وعجيب غريب بالنسبة لي أن ترفض أقلية قومية العمل المشترك مع الأغلبية، وكأنها تهوى إطلاق النار الذاتية على أرجلها في حلبة السباق نحو حقها في صيانة الهوية والمساواة. الحكومة الصهيونية هي التي تحارب هذا العمل المشترك وتعمل كل ما في وسعها لعزل وتهميش الأقلية ولمنع دعم القوى الديمقراطية اليهودية لها وتضامنها معها.
لكني لم أوقع البيان!
ليس لأنه لا يتضمن موقفاً من قضايا المواطنين العرب الفلسطينين في إسرائيل ولا لعدم وجود ذكر فيه لآثار التسوية السلمية بين إسرائيل وفلسطين، على العرب الباقين في وطنهم في حدود مناطق الـ48. إذ ليس من المفروض أن يشمل بيان عام يدعو لاقامة دولة في الضفة والقطاع، وهذا أساسه، كل الآثار المترتبة عليه بخصوص قضايانا كأقلية قومية في وطنها، وجزء لا يتجزأ من شعبنا العربي الفلسطيني.
لم أوقع البيان!
ليس لأني أعترض على صهيونية غالبية اليهود الموقعين. فهنالك تباين وخلافات عميقة بين اليهود أنفسهم بخصوص ماذا تعني الصهيونية اليوم لكل منهم. ثم كفاحي اليوم، في سياق البيان والهدف منه، ليس أيديولوجيا ضد الصهيونية كنظرية، وإنما من أجل تحقيق مطالبي العادلة. ولن أشترط على أي يهودي أن يعلن عداءه للصهيونية وأن يعتبرها حركة كولونيالية عنصرية حتى أقبل تعاوني معه ودعمه لي في معركتي من أجل السلام العادل والمساواة. فهل تقترحون مثلاً أن نشترط على اليهودي الذي يدعم حقنا في المواطنة المتساوية وضد سلب الأرض أو هدم البيوت العربية، ومن أجل المساواة في الميزانيات والإسكان والتعليم والعمل...إلخ، أن يتبرأ من الصهيونية ويعاديها حتى نقبل دعمه لقضايانا؟ وهل وضعت الدول العربية و م.ت.ف التنكر والإدانة للصهيونية كنظرية شرطاً في مبادرتها العربية في قمة بيروت، وفي مفاوضاتها مع إسرائيل؟
لكني لم أوقع!
ليس لأني ضد القرار الفلسطيني بعرض القضية على الأمم المتحدة. بل على العكس، إذ أرى في هذه المبادرة خطوة جريئة وضرورية لإعادة القضية إلى الحلبة الدولية وشرعيتها وإخراجها من متاهات وعنكبوت الهيمنة الأمريكية ــ الإسرائيلية، وزجها في مفاوضات ثنائية مستمرة برعاية أمريكية منذ عقدين دون التوصل إلى فرض الحل العادل لها.
لم اوقع!
ليس لأني من مؤيدي المزاودين الثوريين شعاراتياً، لا فعلاً. بل يستفزني ويثير استيائي لجوء بعض هؤلاء الثوريين الراديكاليين قومياً و/ أو أصوليا دينيا من العرب في إسرائيل إلى إطلاق مواقف تحتار، والله، على ماذا يعتمد أصحابها في اطلاقها. تظنّ أحياناً ، وأنت تستمع إلى أو تقرأ بعض تصريحاتهم وكتاباتهم، أن الواحد منهم يقود كتائب الألوف من الجيش المغوار الجاهز للانطلاق والمدجج بأحدث الأسلحة من طائرات ودبابات وغواصات، وربما أيضاً بقنابل ذرية يخفيها عنا وعن العدو في جيبه وهو يكتب مقاله الثوري في غرفته المكيفة، أو تحت لسانه وبين الزبد المتطاير من فمه وهو يلقي خطابه عن المنصة.
لكني لم أوقع!
ليس لأني ضد المبادرة العربية المقررة في قمة بيروت والتي توافق عليها كل الدول العربية و م.ت.ف. ولا أطالب، كما يُلمّح البعض، لضرورة تراجع العرب عنها بعد أن رفضتها إسرائيل. بل أقول إن هذا هو الوقت لإعادة طرحها وإبرازها جنباً إلى جنب مع طرح القضية الفلسطينية على المجتمع الدولي في أروقة الأمم المتحدة.
إذاً، لماذا أوقع البيان؟
لأن البيان مكتوب بلهجة إسرائيلية مناسبة للأذن اليهودية، وتفوح منه رائحة وتوجهات صهيونية حتى لبعض مواقف شخصيات حكومية إسرائيلية متعاقبة، وإن حاول كتبة البيان إخفاءها وتلطيفها. لا توجد في البيان لا كلمة الاحتلال، مَنْ يحتل مَنْ، ولا تعبير عن حق تقرير المصير والتحرر الوطني لشعب رازخ تحت الاحتلال. وهو مليء بإشارات، وبنصوص واضحة، إلى أن إسرائيل ستحظى باعتراف عشرات الدول العربية والإسلامية إذا ما وافقت على إقامة الدولة الفلسطينية، وكأنه لهذا يجب أن توافق. وبتحذيرها من أن استمرار الجمود السياسي يخلق أرضية خصبة لقوى متطرفة تجرّ المنطقة لإراقة الدماء...(من هي؟ وهل يوجد أكثر تطرفاً وخطرا دموياً حاصلاً من حكومة ــ إئتلاف ــ نتنياهو؟).
أعرف أسباب هذه التوريات والمسايرات. فهنالك من بين الموقعين اليهود من يساوي بين الجاني والضحية، ويحملهما معاً مسؤولية وجود الاحتلال وغياب السلام العادل. وهنالك، مِن منطلق رغبته الصادقة بتجنيد اكبر عدد من المثقفين اليهود لدعم مبادرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، يتأتئ في قول الحقيقة الصريحة. وقد أتفهم هذا الاعتبار ما دامت النيّة صادقة من قبل الشخصيات اليهودية بتعميم ودعم حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم في الضفة والقطاع، داخل المجتمع الإسرائيلي - اليهودي.
لكن ما ذنبي أنا العربي الفلسطيني المحتلة أرضه والمشرد شعبه؟ ولماذا يجب أن أوقع على هذا البيان الحليبي الخالي من الدسم؟ نعم أريد العمل العربي اليهودي المشترك دفاعاً عن قضيتي، والتي في حلها مصلحة لليهود كبشر أيضا، ودفاعاُ عن المواطنة المتساوية وفي مواجهة السياسة الرسمية للدولة ولصالح إجراء تغيير ديمقراطي فيها. لكن أريده عملا عربيا يهوديا مشتركا قائما على الندية والمساواة واحترام اعتباراتي مثلما أحترم اعتبارات الآخر. لست قوة احتياط تابعة لقوى يهودية، مهما كانت ديمقراطية وسلامية ومعادية للاحتلال. بل أنا أهل البلاد الأصليين، وأنا الابن الشريد والطفل القتيل. وأنا الضحية لتطرف الآخر واحتلاله وعنصريته. وأنا الذات القومية بهويتها الجمعية الديمقراطية الإنسانية والأممية. ولا أقبل مساواة الضحية بالآخر الجاني ولا لومها ولا أطالب بتقاسمها للمسؤولية معه.
لذلك كله لم أوقع البيان!
أصلاً ماذا يفيد توقيعي على هكذا بيان موّجه لليهود بالأساس؟ وإذا كان القصد أخذ موافقتنا نحن العرب على قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، فخذوا غيابياً حتى توقيعاً على بيان ينص على ذلك، دون مواربة، من مليون باق في وطنه يوافقون علية ويناضلون في سبيله. أما توقيعنا على بيان المثقفين فلن يخدم حتى هدفه من تجنيد المزيد من اليهود للتوقيع عليه.
وأنا مستعد للعمل مع المبادرين اليهود على تجنيد المزيد من اليهود للتوقيع، رغم تحفظاتي على بعض ما جاء فيه، مضموناً ولهجةً. إذ أن قيمة وأهمية وتأثير هكذا بيان يكون بتجنيد أكبر عدد ممكن من الشخصيات اليهودية للتوقيع عليه، لا من العرب. ولأني أتفهم الاعتبارات والأوضاع السائدة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، أعي ضرورة تجنيد مَنْ أوافقهم على ثلاثة أرباع مواقفهم أو حتى نصفها، للتصدي لسياسة حكومتهم الصهيونية المشبّعة بالشوفينية كلياً. لكن لا تجعلوا مني لا نصف ولا ثلاثة أرباع فلسطيني مكافح لإنهاء الاحتلال وحق تقرير المصير لشعبي. ولا تطلبوا مني دفع مستحقات مواطنتي الإسرائيلية، المنقوصة أصلا، على حساب إصراري على مستحقات هويتي العربية ووطنيتي الفلسطينية.
تنويه...
نقدي للبيان وتبريري لعدم التوقيع عليه، لا يعني بأي حال من الأحوال التشكيك بوطنية وبوعي وإخلاص مَنْ وقع عليه من عرب. وبعضهم، بل الكثير منهم، زملاء أعتز بزمالتهم وأقدر عالياً مساهمتهم، في الأمس وفي اليوم ــ وغداً بالتأكيد، في الكفاح الوطني لشعبنا وبلورة هويته القومية العربية ووطنية الفلسطينية الديمقراطيتين.
كنتُ أفضل ألا يوقعوا. وأعرف أن منطلقهم في التوقيع كان وطنياً، ومن باب رؤيتهم أن توقيعهم هو لصالح شعبهم، ومن منطلق التأييد والدعم لشخصيات يهودية تريد وبصدق إقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل، ولرغبتهم بالمساهمة ببناء رأي عام وضاغط على الحكومة الإسرائيلية، حتى لو كان محدود التأثير. لذا أستنكر كل تطاول قيل بحقهم لأنهم وقعوا.
رأيي المتواضع يقول إنهم أخطؤوا. ومن حقهم أن يقولوا عني أني أنا المخطئ. وخلاف الرأي لن يفسد للود ولاحترام وطنيتهم قضية. أما التطاول عليهم وطنياً من قبل البعض فهو... خطيئة لا مجرد خطأ!