ربيع شعوبنا هناك، وربيعنا هنا - سميح غنادري
من الطبيعي أن ينشغل كتابنا و صحافتنا، نحن فلسطينيوا الـ 48، بالحراك الثوري الربيعي الحاصل في العالم العربي. فهذا حراك لشعوبنا ولأمتنا. ومن الطبيعي أيضا أن يعود موضوع زيارة وفد العرب الفلسطينيين إلى ليبيا للالتقاء بالقذافي، قبل سنة تقريبا، إلى صفحات صحفنا. اللاطبيعي هو هذا التمجيد للثورات هناك ولكل ما نادت به ومارسته من قيم وسلوكيات مدنية وحضارية، ديمقراطية ووحدوية. هذا دون الالتفات إلى أنفسنا إن كنا نحن هنا حضاريين ومدنيين وديمقراطيين ووحدويين في مفاهيمنا وسلوكنا إزاء بعضنا البعض وفي نضالنا، بمن فيها أحزابنا وهيئاتنا التمثيلية والوطنية. إذ نحتاج نحن أيضا، هنا، إلى "ثورات" إعادة النظر في مفاهيم وأساليب وأدوات نضالنا وآلياته وبرنامجه، وإطلاق طاقات الشباب الخلاّق لإحداث التغيير المنشود, في مجتمعنا وبما يخصنا من قضايا.
أريد القول إن إغداق جبال من المديح على ما يجري هناك، لا يعفينا من محاسبة الذات هنا. لقد استفاض بعضنا، في الماضي واليوم، في تعليم العالم العربي ونقد سلبياته وعجز مثقفيه وشبابه عن إحداث التغيير. وتحدث بعضنا عن ترشيدهم لذاك العالم. وإذا ما تخطّينا النيات الحسنة وراء هذا الترشيد، نلاحظ أن المرشـّدين منا يلجؤون إلى هذا الترشيد للناس هناك، بدلا من فحص مدى رشد تصرفاتهم هنا. وأشتمّ في هذا ما يعرف عندنا بالوقاحة الإسرائيلية . وكنا لاحظنا هذه الوقاحة والعنجهية حتى في تعامل السواح منا مع أهل مصر والأردن.
لذلك، صرخت وأنا أستمع وأقرأ بعض هذه "الأستذة" المتعالية هنا: المطلوب قدر أقل من الترشيد والإشادة بما يحدث هناك، وقدر أكبر من استلهام تجربة ما يحدث والاستفادة منه لإحداث التغيير المنشود فينا وعندنا. أقل من التعليم، وأكثر من التعلم. أقل من التشدق الإنشائي والمتعالي، وأكثر من مساءلة الذات. أقل من الانشغال التفصيلي بقضاياهم هناك على حساب ومكان الانشغال بقضايانا هنا، ووعي كيف عالجوا قضاياهم هناك، وبأية مفاهيم وأساليب كفاح عقلاني ومدني وحضاري حلـّوها, بالإمكان الاستفادة منها هنا. أقل من التمجيد بروح وأخلاقية وجماعية وفاعلية ثورات الشباب هناك , وأكثر من استلهام وتذويت هذه السلوكيات وأخلاقياتها في ممارستنا وثقافتنا السياسية والاجتماعية هنا.
اذ أن وضعنا معطوب هنا. وشعبنا أيضا "يريد تغيير النظام". لا تتسرعوا ولا تفزعوا. فلست مغامرا دونكيشوتيا يدعو لثورة لإسقاط نظام الحكم الصهيوني. نحن أعجز من ذلك. أنا أدعو "لثورة" لإسقاط "نظامنا" كأقلية قومية. إذ آن الأوان ومنذ زمن لتنظيفه من مفاهيم وذهنيات وسلوكيات وآليات عمل وقيم (أو لا قيم) سائدة أكل الدهر عليها وشرب ولم تعد فاعلة.
أقصد اتباع تكتيك واستراتيجية موحدة لنا كشعب وعلى أساس ميثاق وطني جامع وملزم. وأقصد تخليص أحزابنا من نهج حزبية القبائل وقبلية الأحزاب, وعداوات تعاملها مع بعض وتربصها ببعض على حساب قضايانا. أقصد بناء وإعادة بناء أطرنا ومؤسساتنا التمثيلية وجمعياتنا على أساس وحدوي جامع لنا كشعب, وكرافعة مدنية فوق حزبية.
أقصد تخليص خطابنا الثقافي وإعلامنا من الثرثرات والعصبيات الجهوية، وجعله خطابا علميا وتنويريا وموضوعيا، بلا مزاودات وجعجعات. أقصد تشريع التعددية والديمقراطية وكل القيم الإنسانية في مواقفنا وسلوكنا، وعدم تخوين الرأي الآخر لكونه آخر. أقصد أقل من الترديد، في كل مناسبة وغير مناسبة، أن الخيانة ليست وجهة نظر، متناسين أن وجهة النظر الأخرى ليست بالضرورة "خيانة" و"انتهازية" و"أسرلة". أقصد تغليب الوطني الجامع على الاختلافات الثانوية والايديولوجية.
تذكرون أوراق "التصور المستقبلي" التي قامت بعض شخصياتنا التمثيلية والأكاديمية بإعدادها. ولا أعاتبكم إن لم تذكروها. إذ أصبحت نسيا منسيا. فهي أوراق وليست ورقة جماعية واحدة – ميثاق وطني واحد. ولم تلتزم بها وتعمل حسبها حتى الجهات الحزبية والتمثيلية التي قامت بإعدادها.
وكثيرا ما نثرثر عن استحداث بناء وإعادة بناء أطر ومؤسسات وهيئات تمثيلية ونقابية لتنظيم الأقلية القومية. لكن سمّوا لي ولو مؤسسة واحدة كهذه قمنا ببنائها خلال العقدين – الثلاثة الماضية! حدث العكس، إذ قضينا على لجنة الدفاع عن الأراضي وعلى الاتحاد القطري للطلاب الجامعيين العرب, وعلى اتحاد الطلاب الثانويين, وعلى لجنة المبادرة الدرزية وجعلناها لجانا فئوية غير فاعلة, وعلى اتحاد الكتاب, وعلى غيرها. وأحلنا لجنة المتابعة ولجنة الرؤساء إلى ما هو أشبه بنواد لشد الحبل، كل في اتجاه، بين "أبطالنا" السياسيين.
حتى اللجان التي أقمناها في الثمانينات إثر مؤتمرات تمثيلية وبحثية (مؤتمر الأرض والمسكن، مؤتمر الزراعة، مؤتمر الخدمات الاجتماعية، مؤتمر الخدمات الصحية) اختفت وكأنها لم تكن. ولا يتفق شباب أحزابنا حتى على إجراء انتخابات للجان الطلاب العرب، وبعضها منذ عقد تقريبا، هذا عدا عن الاتحاد القطري للطلاب الجامعيين العرب, وأذكّر بالثرثرات القديمة – لأنها كانت وبقيت مجرد ثرثرات – عن إقامة اتحاد لكل من المعلمين والأطباء والفنانين والصحافيين العرب.
العنف الاجتماعي ينخرنا. وتشرئب الانتماءات الضيقة العائلية والطائفية والإقليمية، وحتى الحزبية المنغلقة، على حساب وحدتنا الوطنية القومية. وبدلا من الانشغال "بتطبيب" أنفسنا اجتماعيا، نعلّق كل سلبياتنا على سياسة التمييز العنصري الصهيوني. هذه سياسة إجرامية، ولها تأثيراتها دون شك. لكن القيادة التمثيلية والحزبية العاقلة والمنفتحة والفاعلة, من الأجدى بها ألا تنشغل يوميا وتشغلنا "بخطاب المحقين" بقدر ما تنشغل بدورنا وفعلنا الوحدوي والمدروس والفاعل لمحاصرة ومواجهة "خطاب المستبدين" وإفشاله وتحقيق الإنجازات المادية العينية والاجتماعية، على صعيد بناء ذواتنا كشعب. ويستطيع شبابنا ان أراد وتحرك ان يتعدى تكلس أحزابه ومؤسسات شعبه في مراوحتها في المكان نفسه.
أتساءل، ومنذ عقود، لماذا تعجز كل أحزابنا وهيئاتنا التمثيلية وشعبنا عموما عن إنجاح يوم اعتصام مدني واحد، يوم إضراب مدني واحد بمشاركة مليون إنسان؟ ولماذا لا نعدّ ونجند ليوم غضب واحد من أقصى النقب إلى أقصى الجليل، لمليون إنسان، في مسيرة تخترق كل البلاد وتصب نهراً جارفا في وسط ميدان تل أبيب، تحت شعار "الشعب يريد إسقاط العنصرية"؟ مسيرة لحشد شعبي عظيم تشكّل ضغطا جماهيريا، ونجند للمشاركة فيها قوى يهودية ديمقراطية وأخرى تمثيلية عالمية من شتى دول العالم.
السلبية والعزوف عن العمل السياسي الجماهيري تنخرانا. وهيئاتنا النضالية الوحدوية تعجزعن تجنيد ملء قاعة صغيرة من الناس، أو مسيرة ألفية في مواجهة ظلم عيني رابض على صدورنا. لكننا "نتقن" المسيرة – الطيران – إلى "رئيس رؤساء العرب" و "ملك ملوك أفريقيا"... القذافي، "مكمّل مشوار عمر المختار", الذي "نحبه ....لو تعرفون كم" !
الطيران إلى القذافي...
حتى الطيران لزيارة القذافي لا نتقنه. وأستبق الأمور لأقول لا أعارض تلبية قياداتنا دعوات للقاء شخصيات حاكمة وتمثيلية عربية، حسب أجندة واضحة ولأهداف وطنية جامعة ومحددة. ولا أحكم على الزيارة للقذافي يومها بناء على جرائمه اليوم (هل حقا اليوم فقط؟!) في ليبيا. ومن واجبنا التواصل مع عالمنا العربي لما فيه صالحنا, ولا يتم هذا التواصل من دون موافقة وزيارة الحكام العرب. وليس ضمن اجندتنا, ولا مقدرتنا او مهماتنا, احداث التغيير في العالم العربي والاطاحة بحكامه.
لم تكن تلك زيارة لليبيا ولا تصبّ في إطار التواصل مع عالمنا العربي، وإنما للقذافي شخصيا. وهي ليست زيارة له بصفته الرئيس المناوب للقمة العربية، إذ جرى الإعداد للزيارة والتباحث بشأنها في سفارة ليبيا في عمان مع شخصيات من عربنا، قبل شهور من انعقاد مؤتمر القمة العربية.
ولم تلتق " وفودنا" مع وفد من مؤتمر القمة برئاسة القذافي لطرح أجندتنا ومطالبنا من المؤتمر. وانما التقينا القذافي وحاشيته وحسب أجندته. وهي زيارة لم تنظمها ولم تشكل وفدها لجنة المتابعة العليا ولا أية هيئة وحدوية لأحزابنا. وإنما "لغوصت" فيها أياد معروفة قامت بتنظيمها ونجحت أن تجرّ وراءها، كتابع، لجنة المتابعة وأحزابنا العربية. بل أخذت هذه الأيادي، والأحزاب الوطنية أيضا، تتلاعب وتتنافس على من ينجح منها بالضغط لتمثيل أكبر عدد من جماعته في الوفد وحسب المحاصصة الفئوية. وشاركت بالوفد بعض "شخصيات" لا أحد يعرف ما هي أحقيتها وما هو دورها لتتمثل في هكذا وفد "تمثيلي". أما عن الرياء والمداهنة للقذافي وتبييض وجهه على حساب تسويد وجه مواقفنا ووحدتنا، فحدّث ولا حرج. لقد وصلت قلة حياء البعض إلى حد العار.
والطامة الكبرى ان " وفدنا" حمل معه، في تنظيم الزيارة وتشكيل وفدها، كل السلبيات التي تنخر حياتنا السياسية والاجتماعية. فالقيادة القومية التمثيلية للجماهير الفلسطينية في إسرائيل، والتي تعاني من التمييز القومي والتهميش والاقتلاع في ظل السلطة الصهيونية، كانت أعجز حتى من أن تتفق على خطاب وحدوي وبرنامجي يلقيه خطيب واحد باسمها. 13 خطيبا – قائدا أراد الكلام (لم يستطع القذافي الاستماع إلا لثمانية منهم)، من ضمن وفد لم يتعد عدد أعضائه الـ38 شخصا. وكأننا 13 دولة مستقلة، لا أقلية قومية مظلومة ومميز ضدها ومنسية في وطنها الذي أصبح اسمه إسرائيل. لعمري، هذا سبق عالمي لم يحدث ولا تجد مثيلا له عند أي شعب آخر في العالم. وأستغرب لماذا لم يدخل هذا السبق بعد إلى كتاب "غينيس"، إلى جانب صحن تبولتنا وحمّصنا... على اعتبار كونه "سلطة خطابات عربية"!
لا، ليست الزيارة للقذافي هي أساس وجوهر العار. فالعار، كل العار، في سلوك "وفدنا" في هذه الزيارة، اعدادا لها وفي أثنائها وبعدها. إذ حمل معه كل سلبيات سلوكيات "قادتنا" هنا من سياسيين ومثقفين، ومن يلتصق بهم من تـُبّع –وشخصيات مقربة، أدباء كانوا أم محامين أم إعلاميين. حمل وفدنا معه الرياء واللامبدئية، والقبلية الحزبية، والصراع والتنافس العدائي "الوطني"، والعقليات المتخلفة، والرغبة بالتسلط والبروز على حساب الوحدة الوطنية والبرنامج القومي الوطني الجامع.
غنيّ عن البيان أني لا أتهم كل من شارك في الوفد بهذه الصفات. وإنما أتحدث عن الانطباع الذي أثاره عموم سلوك وجوه رئيسية في الوفد، وسط عدم اعتراض أو مشاركة أو انسحاب الذين كان عليهم أصلا ألا في هذا المطب – الجورة. ويؤسفني بشكل خاص مشاركة بعض شخصيات حزبية نحترمها ونحترم أحزابها... في هكذا وفد. والأشد أسفا أن لا تنطق هذه الشخصيات/ الأحزاب حتى يومنا هذا بأي كلمة نقد ذاتي واعتذار حقيقي.
العودة الى الذات...
نريد التواصل مع أمتنا العربية، وليس دفاعا عن حكام العرب الذين لا يستحقون أي دفاع- ولا أستثني منهم احدا- وانما دفاعا عن كرامتنا وانفسنا اقول: من ينتقد من قادتنا العالم العربي على عدم وحدته، ومن ينتقد حكامه على قبليتهم وعصبيتهم وممارساتهم وتخلفهم ومعاداتهم للديمقراطية (وبحق)، لا يضيره النظر في المرآة وفحص ما إذا كانت سلوكياته كقائد لأقلية مظلومة (لا حاكم دولة) تختلف جوهريا عن سلوكيات هؤلاء الحكام. ومن الأجدى بمن ينتقد أنظمتهم ويفرح لإسقاطها (بحق)، أن يتساءل: ألا نحتاج هنا أيضا إلى إسقاط نظام سلوكياتنا القبلية، ولاديمقراطيتنا، وعدم احترامنا للتعددية ولحق الاختلاف في الرأي، دون إقصاء وتخوين وادعاء احتكار الحقيقية؟! والذي يهلل لثورات وانتفاضات الشباب الربيعية هناك، اليس من الأجدى له ولنا ان يحرص أولا على إطلاق مبادرات الشباب الخلاّقة هنا, وأن يفتح لهم مجالات القيادة والتغيير، بدلا من تنشئتهم على شاكلته وجعلهم قوة ضاربة لأفكار فسدت... وأفسدت.
والذي يمجد سقوط زين العابدين ومبارك والقذافي( سيسقط) هناك، حبذا لو يعمل لاسقاط " العابدية" و" المباركية" و" القذافية" في ثقافتنا وممارساتنا هنا. تعالوا نذكر أول ما يخطر في بالنا من سلبيات هؤلاء الحكام- مثلا: اللاديموقراطية والاستبداد والاستئثار بالسلطة، استغلال المركز كمطية للثراء وللمجد الشخصي وتوظيف المقربين، الفساد، تغييب النقد وتخوين الرأي الاخر، الهوة بين الخطاب والممارسة، العصبية الجهوية والعائلية والحزبية، القبلية والطائفية، البلطجية والعدوانية والعنف الكلامي، النفاق والكذب، الدواوينية والمشهدية والنرجسية والنفخة النجومية، رفض المكاشفة والمساءلة، معاقبة واخراس- فصل- من يغرد خارج السرب....الخ.
هل يستطيع احدكم ان يدعي ان بعض ( أو غالبية) احزابنا وجمعياتنا ومؤسساتنا المدنية والاهلية وسلطاتنا المحلية...خالية من هذه السلبيات؟ العابدية والمباركية والقذافية...تنخرنا هنا. وعلى شو؟ على قيادة حزب او مؤسسة او سلطة محلية لبلدة لاقلية قومية داخل اسرائيل، بالكاد يصل عدد اعضائه ولا سكانها الى عدد سكان شارع فرعي في القاهرة. هكذا تتعامل هذه الاطر المدنية مع بعضها، وكل على حدة وبين قياداتها وازاء أعضائها. هذا مع العلم اننا لا نحكم دولة ولا نملك شخصيا ثرواتها وبترولها وغازها وارضها وفضاءها...ورقاب أهلها. والله العظيم عندما أراقب ممارسات هيئاتنا ازاء بعض وازاء اعضائها من اصحاب التفكير الاخر، أقول: الحمد لله أنهم ليسوا حكاما لدول، والا لكانوا نصبوا المشانق لبعضهم البعض وحتى لاعضائهم!
لذلك كله، وبعكس العديد من زملائي الكتاب والصحفيين، أنا لا أدعو لمزيد من نقد العالم العربي هناك... من هنا. وانما أدعو الى أن نرى القش في عيوننا وعقولنا قبل أن نرى الحطب في عيون وعقول الاخرين. ولا أدعو لنقد الزيارة للقذافي في حينه, وانما لنقد سلوكنا في تلك الزيارة.
تعالوا نهبط من الطيران ونعود الى ذواتنا لنكتشف اننا، وقبل كل شيء، لسنا اورطة احزاب وقبائل وانما شعب. علنا نعي عندها انه علينا ان نتصرف كشعب حتى نحصل حقوقنا كشعب. والا نكون قد فشلنا باستلهام ربيع ثورات شعوبنا العربية الموجود هناك... لإنماء ربيعنا المنشود هنا. ويكون حالنا كحال القرعة، من قبل ودبر ، لكنها تفتخر بشعر ابنة خالتها.