رثاء قومي، ديمقراطي ويساري، لـِ: جيل شيوعي عصيّ على الموتِ - سميح غنادري
مات توفيق طوبي. مات آخر فرسان جيل الروّاد البناة المؤسيين. جيل مواليد عشية وأوائل عشرينات القرن الماضي.
مات الرعيل الأول من الوطنيين العرب أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني في فلسطين الإنتداب، ومن مؤسسي "عصبة التحرر الوطني" في سنة 1943 (حزب الشيوعيين العرب الفلسطينيين بعد انشقاق الحزب الشيوعي الفلسطيني اليهودي العربي). مات جيل القادة العرب التاريخيين الأوائل في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إثر نكبة 1948 وإعادة الوحدة بين الشيوعيين العرب واليهود في تشرين أول 1948.
وقبل طوبي كان قد مات رفيقا الدرب في هذا " االثالوث": إميل حبيبي وإميل توما. كذلك مات، من جيل تلاهم ورافقهم، توفيق زياد. وأعفوني من ذكر عشرات الموتى الآخرين من قادة شيوعيين مركزيين، شكلّوا مع هذا "الرابوع" (الرباعي) كوكبة فرسان تركت بصماتها على تكوين وبلورة الهوية القومية والثقافية الديمقراطية لشعب بقي في وطنه وصان الذاكرة الوطنية. وتعدّى أثره حدود الـ 48 إلى بقية فلسطين الوطن وفلسطين الشتات.
هل حقاً ماتت كل نجوم تلك الكوكبة؟ حقيقة الموت البيولوجي المادية الصوانيّة تبقى أعجز من عكس كل جوانبه ومعانيه. فكم من أحياء جيل ماتوا وهم أحياء. وكم من موتى جيل مستمرون في الحياة وهم أموات.
كانوا شباباً يافعاً في مقتبل العمر، في العشرينات من أعمارهم، حين تحدّوا الانتداب البريطاني الإمبريالي والصهيونية الكولونيالية الاستيطانية والرجعية العربية. شباب لم تعركه تجربة الحياة بعد، لكنه وعى تعقيداتها السياسية، وأصبح قيادة و"زعامة" وطنية حكيمة وصاحب ثقافة يسارية وديمقراطية، من نوع جديد في بلاده. حدث هذا في زمن كانت فيه القيادة والزعامة للمخاتير وللكبار من عائلات وحمائل إقطاعية وأوساط تقليدية وطائفية.
التقسيم كأهون الشرّيْن
شباب قادته قوميته العروبية ووطنيته الفلسطينية إلى الشيوعية. وبلورت هذه رؤيتهم للتحرر الوطني والاجتماعي لشعبهم، على أسس يسارية علمانية وإنسانية. فكانوا أول مَنْ طرح برنامج\ مشروع "الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة" لفلسطين. لكن رفض الدول العربية والقيادة التقليدية الفلسطينية لهذا المشروع، عداك عن المخططات السوداء للإمبريالية وللصهيونية لمستقبل فلسطين والشرق العربي، أفشلت هذا الحل الأمثل.
فكان قرار التقسيم لفلسطين، من قبل الأمم المتحدة بتاريخ 29.11.1947. وقف شيوعيو العصبة ضد التقسيم قبل اتخاذه قراراً. لكنهم وافقوا عليه بعد اتخاذهَ، رغم أن غالبية شعبهم وقيادته رفضته. ففتح هذا عليهم نيران من اتهامات مُغرضة بالخيانة القومية والوطنية، ولوحقوا من ذوي القربى وجرت محاولات لإغتيال بعضهم. هذا بالإضافة إلى ملاحقتهم وإغلاق صحيفتهم "الاتحاد" من قبل الانتداب – الاستعمار البريطاني. لكنهم لم يتراجعوا. بل علا صوتهم أكثر فأكثر محذّرين من المؤامرة\ الجريمة بحق فلسطين الوطن والشعب. كان رأيهم أن الحل الأفضل والأعدل هو دولة ديمقراطية علمانية واحدة تجمع العرب واليهود الذين في البلاد. أسقطت الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية (دون المساواة بينها في المسؤولية) هذا الحل. فهل يستمروا بالمطالبة بمشروع سقط، أم يقبلوا بحل وسط درءاً لبديل أسوأ؟
صحيح أن قبول الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية للقرار، بصفته الحل الوسط، أثرّ على موقف الشباب الشيوعي العربي في فلسطين. وفسّر هؤلاء الشباب موافقتهم على القرار ليس بصفته الحل الأمثل والأعدل، وإنما بصفته الحل الأفضل الممكن في ظل الظروف التي نشأت. قبلوه من باب كوْن البديل الممكن وقوعه أسوأ بكثير. قبلوه من باب حرصهم على حق تقرير المصير لشعبهم ولَوْ على جزء من أرض فلسطين (12 مليون دونم من أصل 27 مليون). وخصوصا أن تعداد العرب القاطنين على رقعة الأرض المخصصة للدولة العبرية حسب قرار التقسيم كان (438) الفاً، أي 46% من قاطنيها (54% يهود). واعتقدوا أن هذا الواقع الديمغرافي بالإضافة إلى نص القرار على تعاون إقتصادي بين الدولتين العبرية والعربية، يفتح المجال على مصراعيه لاتحادهما في دولة ديمقراطية واحدة في مستقبل قريب.
ما من شك أن قرار التقسيم مجحف من وجهة نظر العدل والحق المُطلق. لذا لم يكن بالإمكان أنْ تقبله الغالبية الساحقة من شعبنا، لأنه يقسمّ ويجزءّ الوطن والشعب. تماماً مثلما لم تقبل الأم الحقيقية أن يشطر الملك سليمان ابنها لنصفين، نصف لها ونصف للأم الكاذبة المدّعية ملكيته وأمومته. وما من غضاضة في أن يناقش البعض وينتقد، من منطلق وطني، قادة عصبة التحرر الوطني يومها، على قبولهم لقرار التقسيم. أما التسفية والتشويه لمواقف هؤلاء القادة، الذي يصل أحيانا إلى حد التخوين، فلا علاقة له لا بالوطنية ولا بالقومية الحقّة ولا بالدين الحنيف.
لقد وصل التطاول والافتراء على هؤلاء الشيوعيين إلى حد اتهامهم بالخيانة والتواطؤ. وبأنهم قبلوا بقرار التقسيم من باب حرصهم على حق تقرير المصير لليهود واذدنابهم للحركة الصهيونية على حساب شعبهم. وبهذا مهدّوا للنكبة، بل وساهموا في تجنيد السلاح للعصابات الصهيونية من الدول الإشتراكية. و للأسف تجد هذه الافتراءات القديمة لبعض القيادات التقليدية الرجعية يومها ولقيادة جيش "الأنقاد" (جيش ماكو أوامر) صداها الحديث والمعاصر عند قوى مثقفة تقول أنها تنطق بإسم العروبة والفلسطينية والموضوعية العلمية والديمقراطية.
لم يكن بإمكان قادة الشباب العربي الشيوعي يومها أن يمنعوا النكبة، كان بإمكانهم أن يُحذروا من خطر وقوعها. فعلوا هذا بشجاعة عصفور يواجه ديناصورات غابة، أو سمكة تسبح ضد تيار أسماك القرش. ولا دخل لهم البتة بما تردد عن صفقات سلاح مع دول اشتراكية. أصلا كان الحزب الشيوعي الفلسطيني اليهودي العربي منشقاً يومها، وكان هؤلاء الشباب قادة "عصبة التحرر الوطني" للشيوعيين العرب. وقبلوا بقرار التقسيم من منطلق كونه "أهْوَن الشريْن". أما الذي "خان" قوميا و "تواطأ" و "مهدّ للنكبة" و"اذدنب"، موضوعيا بمواقفه وممارساته، أو ذاتياً وعن سبق إصرار وترصد، فهم أصحاب جعجعة الشعارات دون طحين وقادة حرب الكلام دون سلاح. وهؤلاء طالبوا بإعدام قادة العصبة بتهمة الخيانة القومية!
أما لنقاد معاصرين وعقلاء بإسم القومية، لقادة العصبة، والذين ما من شك في وطنيتهم، فأكتفي بالتساؤل: أنتم توافقون اليوم على حل تقسيمي للبلاد أسوأ بما لا يقاس من حل قرار التقسيم لسنة 1947. إذ توافقون على إقامة الدولة الفلسطينية على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، أي على 22% من أرض فلسطين، وليس على 45% منها كما نص عليه قرار التقسيم. وعلى هذه الـ22% ينص مشروع " المبادرة العربية" الصادر عن مؤتمر القمة العربية في بيروت، بموافقة كل الدول العربية و..م.ت.ف. تطرحون هذا اليوم بناء على أخذكم بعين الإعتبار الواقع الموضوعي السياسي والاجتماعي، محلياً وشرق أوسطياً وعالمياً، وتوازن القوى والإمكانيات القائمة والبدائل الاسوأ الممكنة. أي تلجؤون إلى الحجج نفسها التي لجأ إليها قادة العصبة في أواخر أربعينيات القرن الماضي بناء على الواقع الموضوعي الذي كان سائداً يومها. علماً بأن أوضاع اليوم أفضل من يومها. إذاً، بأي حق، وباسم أية قومية وعلمانية تتجنون على هؤلاء الرواد المعلمين الأوائل من قادة العصبة؟! أما القلة التي تطرح اليوم مشروع "الدولة الواحدة" فنقول لها إنها هي الأخرى تقتبس عمليا مشروع العصبة القديم قبل التقسيم، مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة. لكنها تفعل ذلك في الوقت الذي أصبح فيه من المتعذر ويكاد يكون من المستحيل تحقيق مشروع كهذا في المستقبل المنظور.
فكيف نرثيهم؟ نقول: الحجر الذي رفضه البناؤون أصبح رأس الزاوية!
مأثرة البقاء
استفاق شيوعيو العصبة، في أيار 1948، مع بقية شعبهم التي بقيت في وطنها حيث قامت إسرائيل، على هَوْل الهزيمة وتداعياتها وآثار النكبة: قيام دولة إسرائيل على رقعة أكبر من التي جرى تحديدها لها وفق قرار التقسيم، وعدم قيام دولة فلسطين. هذا بالإضافة إلى تشريد غالبية أهل البلاد الأصليين وجعلهم لاجئين. تجزأت وتقطعت أواصر الوطن والشعب. وبلغ تعداد اللاجئين الفسطينيين(780) ألفا، وجرى هدم (478) قرية وخربة من أصل (585). ولم تقصّر الحركة لصهيونية في ارتكاب أية موبقة أو جريمة لقمع وإقتلاع شعب من وطنه بهدف إقامة دولتها اليهودية على أرض خالية من أهلها وأصحابها العرب.
لم يبق في الوطن الذي أصبح اسمه إسرائيل إلا(160) ألف عربي فلسطيني من أصل (800) ألف. وعلى هؤلاء فرضت إسرائيل الحكم العسكري على منطقتي الجليل والمثلث العربيين (من تاريخ 12.12.1948 إلى 12.12.1966)، بالإضافة إلى تفعيل قوانين الطوارئ الانتدابية البريطانية والإبقاء عليها حتى بعد إلغاء الحكم العسكري، وتعميم سياسة القمع والملاحقة والسجن والاعتقالات الإدارية، والنفي داخل الوطن وتحديد مكان الإقامة وفرض منع التجول على بلدات بأكملها أحيانا، ومنع التواصل والتنقل إلا بتصريح عسكري.
كانت الأهداف المركزية من وراء فرض الحكم العسكري منع عودة مَن جرى ترحيله لاجئا، وترحيل من بقي في الوطن من أهله من خلال التضييق عليه، فيرحل "طوعا". هذا عدا عن إغلاق سبل العيش أمام الباقين وفرض السيطرة عليهم وإرهابهم وإذلالهم وتطويعهم وسلب أرضهم. فمنذ السنة الأولى لإقامتها جعلت الحكومة الإسرائيلية الاقتلاع الإستيطاني والتمييز العنصري القومي والمدني سياسة رسمية لها، ولحكومات متعاقبة كانت سكرى بنشوة الإنتصار. سياسة صهيونية شوفينية وكولونيالية. وتجلت هذه السياسة إزاء العرب الباقين في وطنهم، بالاستيطان والتهويد ومصادرة أرضهم وخنق زراعتهم، وباحتلال العمل والسوق، والتجهيل ونشر العدمية القومية، وتسعير التفرقة العائلية والطائفية عملا بسياسة "فرّق تسد". حدث كل هذا في ظل فرض إرهاب الحكم العسكري والبوليسي والمخابراتي على العرب الباقين في وطنهم بهدف إخضاعهم وإذلالهم ومنع اتحادهم ومقاومتهم للسياسية العنصرية الحاكمة.
تخيّلوا شعباً يستفيق ذات صباح ليجد نفسه محكوما من غريب هزم أمته. وليجد نفسه "غريباً" غير مرغوب به في وطنه، وتعتبر الصهيونية مجرد بقائه خطأ تاريخيا. شعب يستفيق على كونه بقية شعب، شرذمه مهمشة وضائعة وجائعة للقمة العيش في وطن كانت تملكه وتملأه. أقلية مهزومة ومهانة ومحاصرة ومفزوعة ومقموعة ومتقطعة الأوصال. أقلية يائسة تقهرها نفسية النكبة وتسيطر عليها. غصن مقطوع من شجرة. ريشة في مهب الريح. مجموعة بشرية تشرّد شعبها واحترقت أرضها وأحلامها، تئنّ حشرجتها مستنجدة: "واعرباه". علّ ما يحيطها من بحر عربي يستجيب، ولا من مجيب. أصبح البحر العربي مستنقع عجز عربي لا يرى ولا يسمع ولا ينطق. وحدها الأقلية بقيت منسيّة بين أنياب الذئب الصهيوني وفي أتون النكبة. ولم يبق معها من قادة وطنيين وحزبيين إلا هؤلاء القادة الشيوعيين.
فكانت معركة البقاء والحفاظ على الهوية. سقط خيار انتظار قدوم الفارس الأسمر ممتطيا جواده الأبيض لإنقاذ الضحيّة. والذي ينتظر صامتاً في خزّان حديدي مغلق يحترق (رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"). لذا لم يكن من بدّ لهذه الأقلية الباقية إلا أن تدّق على جدران الخزان منذ اليوم الأول للنكبة (حسب وصف حبيبي). هذا ما قام به من بقي في الوطن من القادة الشباب لشيوعيي العصبة، داعين للتشبث بالوطن وعدم الرحيل، وزارعين للأمل عن طريق الإصرار على البقاء والصمود والتحدي.
"الصوت الصارخ في البرية" والمُتـَهمون من ذوي القربى سابقا بالخيانة القومية والعمالة للصهيونية ، و"الحجر الذي رفضه البنّاؤون"، أصبح الصوت والقائد القومي والوطني لبقية الشعب بأسرها في الدولة الصهيونية. وكان قادة العصبة هؤلاء قد أصبحوا قادة في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إذ أعيدت وحدة الشيوعيين العرب واليهود في تشرين أول 1949.
قاد هؤلاء معركة البقاء والحفاظ على الهوية بحكمة وبشجاعة. قرؤوا الواقع بعقلانية سياسية وشخصوه بذكاء. لم يزاودوا ولم يغامروا... لكنهم لم يهادنوا وتحدّوا الهزيمة. قيـّموا الإمكانيات المتاحة موضوعياً وذاتياً، محلياً وشرق أوسطياً. ووعوا مدى استعداد بقية مهزومة ويائسة تئنّ تحت نير الحكم العسكري لأنْ تتحرك وتتحدى. لكنهم لم يستسلموا أمام الأنين والفزع والانتكاس عن الفعل النضالي. بل نشطوا بمثابرة قطرات ماء تحفر صخراً لرفع المعنويات.
حرثوا البلاد طولا وعرضا، وحدهم تقريبا، ومع حلفائهم فيما بعد من وطنيين لا حزبيين، منذ أواخر الأربعينات حتى نهاية السبعينات، زارعين للأمل وململمين للصفوف ومقدّمين الأمثلة الميدانية على إمكانية تحدي الظلم وانتزاع المكاسب. ودفعوا ثمن هذا غالياً: ملاحقة وسجنا ونفيا داخليا واعتقالا إدارياً وتحديد إقامة وتعذيبا وفصلا من العمل. لم يقوموا بهذا عن طريق التنظير فقط، دون التقليل من أهميته، وإنما عن طريق الممارسة النضالية المثابرة وتقديم المثال الشخصي، وثقفّوا الناس على حقهم في البقاء والمساواة. قالوا لهم، في صحافتهم ومناشيرهم ونواديهم وتظاهراتهم ومهرجاناتهم وأدبهم نثراً وشعراً و... من على منبر الكنيست الإسرائيلي، إنهم إن أرادوا الانتصار في معركة الحياة فلا بد لهم من النضال بأوسع وحدة صف. وإنهم هكذا فقط يستلون حقهم بالبقاء في وطنهم، وفي المساواة القومية والمدنية، ويضمنون الحفاظ على وتعزيز هويتهم القومية والوطنية بصفتهم جزء لا يتجزء من شعبهم العربي الفلسطيني.
عودوا لقراءة صحف ومجلات الشيوعيين هؤلاء منذ قيام دولة إسرائيل، واقرؤوا تاريخ وممارسات هؤلاء القادة. لن تجدوا مطلباً قومياً وَ\ أو مدنيا لهذه الأقلية، ولن تجدوا مكسباً وحقاً انتزعته، إلا وكان الشيوعيون وحلفاؤهم من لا حزبيين وطنيين المبادرين لطرحه وقادة النضال لتحقيقه.
تعالوا نعدّد القضايا الأساسية: البقاء والتصدي للترحيل، هدم حاجز الخوف والترهيب، زرع الامل ووجوب التصدي لانتزاع الحقوق، مقاومة الحكم العسكري وإلغاؤة، الحفاظ على الهوية واللغة العربية، إعادة تواصل وبناء المجتمع العربي المدني للجليل والمثلث معا ولسائر الشراذم المتقطعة في البلاد. إفشال سياسة التجهيل والعدمية القومية، مصادرة الأرض، حق العمل والتوظيف وتحصيل لقمة العيش، القرى المهجرة واللاجؤون في الوطن، القرى غير المعترف بها، قضايا العرب البدو الخاصة، التصدي لسلخ العرب الدروز عن شعبهم وللتجنيد الإلزامي، حق التنظيم وبناء مؤسسات وأطر تمثيلية، تشكيل وانتخاب سلطات محلية عربية وتحصيل الميزانيات لها، فتح شارع لقرية وربطها بشبكات المواصلات والمياه والمجاري والكهرباء، فتح مدرسة، حق التعليم الجامعي ومقاومة التمييز في القبول للجامعات، تشغيل الأكاديميين وحق التوظيف، تحصيل رخصة بناء منزل والتصدي لهدم منزل، مسألة الأوقاف وتحريرها وبناء دور العبادة الإسلامية والمسيحية، فتح نادٍ وتشكيل فرق رياضية وفنية، الحفاظ على التراث وإحيائه، قضايا الزراعة والتصنيع وورش ومشاغل العمل، رعاية الأدباء والفنانين وتوفير المنابر لهم، انتزاع حق عقد الاجتماع والمهرجان والمظاهرة والمسيرة والإضرابات وحرية الكلام، والتصدي لربط البقاء واكتساب الوظيفة والعمل والمركز بالولاء للسياسة الصهيونية وبيع الكرامة، مواجهة الطائفية والعائلية والتخلف الاجتماعي والتمييز بحق المرأة، بناء هوية عربية اجتماعية تقدمية ونهضوية، إلخ،إلخ. كل هذا يصبّ في معركة البقاء وفي تحقيق المقومات والقاعدة المادية الاقتصادية والهوياتية الثقافية لضمان هذا البقاء وبكرامة.
البقاء وانتزاع مقوماته كان الشغل الشاغل لطوبي وسائر أعضاء الكتلة الشيوعية في الكنيست. والتأريخ للشعب الفلسطيني ومسألة بقائه هو ما أشغل المؤرخ توما. وبالإمكان تلخيص كل الإنتاج الأدبي لإميل حبيبي، وحتى "للأسبوعيات" (مقالاته السياسية)، بكلمة واحدة هي: البقاء. البقاء في الوطن ولَوْ على خازوق كما في روايته "المتشائل"، وفيها تصرخ بطلتها "يعاد" العائدة في وجه عساكر الترحيل: هذا بيتي. أما البطلة الثانية في الرواية فاسمها "باقية". "هاي قعدة" و"مش راحلة"، تقول: بطلته هند – النورية- أم الروبابيكا الباقية في وادي النسناس في حيفا ساهرة وجامعة وحافظة لذاكرة الغائبين. وعلى شاهد قبره أوصى حبيبي أن يُكتب: "باق في حيفا"، معلنا من قبره: هذه بلادنا وفيها باقون، إما أحياء كراما فوق أرضها وإما أمواتا حافظين للذاكرة الوطنية تحت ترابها. ولن نرحل- هنا لنا ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل وبالدم الزكي لن نبخل، ينظم زيّاد في قصيدته "باقون". هنا... على صدوركم باقون كاالجدار، وفي حلوقكم كقطعة زجاج كالصبار، وفي عيونكم زوبعة من نار.
لا أتنكر أبداً لدور أي إنسان وطني، أو أية مجموعة وطنية على قلتها وصغر ومحدودية دورها وتأثيرها، في المساهمة في معركة البقاء وبناء الهوية الوطنية. لكن أستغرب وأستنكر تنكرّ البعض للدور الريادي والأساسي والطاغي للشيوعيين في رسم خطوط وتوجيه وقيادة تلك المعركة وإنجاحها جماهيريا. فعلى أيديهم تثقفت أجيال تلو أجيال من الباقين المكافحين، بمن فيهم حتى بعض هؤلاء الذين يتنكرون اليوم لدورهم التاريخي.
قيل عن م.ت.ف، وبحق، أنها حوّلت شعباً من اللاجئين من مجموعات تشحد الإعاشة ذليلة على أعتاب مكاتب "الأونروا"، إلى شعب من المقاومين يُشهر سلاحه لانتزاع حق تقرير المصير. ومن حق جيل الشيوعيين العرب الرواد هؤلاء في فلسطين ومن ثُمّ في إسرائيل، أن نقول عنه إنه حوّل البقية الباقية في وطنها من شرذمة مهزومة ومنسيّة ويائسة جرى التخطيط لها أن تعيش ذليلة تستجدي بقايا فتات المائدة الصهيونية، إلى شعب مكافح تطاول هامته السماء كرامة قومية وعزة وطنية.
فلا تعاتبوني لعدم رثائي التقليدي لذاك الجيل. إذ لا يجوز رثاء البوصلة ومنارة الطريق. والناس لا ترثي طائر الفينيق الذي ينتصب حيّا من بين الرماد ويعيد بناء جناحيه ويُحلّق. والناس لا ترثي طائر الرعد الذي رغم ضجيج الرعد الهادم وصواعق البرق الحارق يحلّق ويُهْطِل الخير على الأرض مطراً وربيعاً.
تقولون: هذه أساطير. أجيبكم: أوليست معركة البقاء، معركة إحياء الرماد جمراً وإعادة بناء أجنحة حرقها رعد وصواعق الهزيمة- النكبة، أسطورة اجترحها ذاك الجيل؟!.
الطبقية والأممية...
إن تطلب من الشيوعي أن يتخلى عن نظرته بأن تاريخ البشرية هو تاريخ صراع بين طبقات، وألا يكون أمميا، يعني أن تقول له: لا تكن شيوعياً. إذ أن رؤية الانتماء والمصلحة الإقتصادية المخفية وراء الموقف السياسي الظاهر للطبقات/ للدول/ للأحزاب، ألف باء الشيوعية.
لا يهمنا، في إطار هذا المقال ان نثبت أو ندحض صحة وجهة النظر الطبقية الأممية،أو تلك التي تقول إن الصراع قومي ليس إلا، أو صراع ديانات أو حضارات، او صراع بقاء للأفضل أو للأقوى. وما من اعتراض عندنا على حق قوى سياسية، يومها وحتى يومنا هذا، بنقد الشيوعية فكراً وممارسة. الاعتراض هو على تشويه موقف الشيوعيين العرب الرواد إلى حد الإفتراء عليهم وعلى ممارساتهم ومواقفهم السياسية.
بعكس ما يدعيه البعض، لم يتنكر الطبقيون والأمميون الشيوعيون لوجود مسألة قومية عربية فلسطينية وصراع قومي، وإنما أكدوا على وجود خلفية طبقية لهذا الصراع. ولم يقولوا "إن الصراع طبقي، ليس إلا" وما من حل له إلا بوحدة البروليتاريا العربية واليهودية والقيام بثورة اشتراكية. وإنما أكدوا على أن المسألة هي مسألة تحرر وطني وحقق تقرير المصير لفلسطين وشعبها، وأنه يجب أن تلتقي مصلحة العرب واليهود من سكان البلاد في مقاومة الإستعمار والانتداب البريطاني- والصهيونية والرجعية العربية، لضمان هذا الحق. ثم مسألة التحرر الوطني وحق تقرير المصير للشعوب ووجوب مساهمة الشيوعيين فيها قضية أساسية في الفكر والممارسة الشيوعية خصوصاً في اللينينية.
ولم يطلب الشيوعيون الفلسطينيون من شعبهم الانتظار حتى مجيء الحل الشيوعي الأمثل حسب رأيهم، وإنما ساهموا في حركة تحرير شعبهم سياسياً وفكرياً وتنظيماً وحتى عسكرياً. ومعروف أن قائد عصبة حركة التحرر الوطني فؤاد نصار، عشية النكبة، والعديد من رفاقه الذين أسسوا "مؤتمر العمال العرب في فلسطين" وصحيفة "الاتحاد" ومن ثم "العصبة" كانوا شيوعيين مقاتلين شارك بعضهم في النضال المسلح لثورة 1936 وما بعدها.
تؤكد وتثبت البرامج التي طرحها ذاك الجيل من الشيوعيين الرواد، في فلسطين وفي إسرائيل من بعدها، انغماسهم بالهم القومي الوطني لشعبهم. لقد طرحوا مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة، ووافقوا على قرار التقسيم، واستمروا بالمطالبة بتنفيذه، (أي بانفصال الجليل والمثلث عن إسرائيل!) وبعودة اللاجئين... حتى الستينات. ثم نادوا بتطبيق قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية بما يخص القضية الفلسطينية وحق العودة والصراع العربي الإسرائيلي. وهم أول من طرح حل الدولتين على أساس حدود حزيران 1967 الذي أصبح حلاً مقبولاً دولياً بعد أن وافقت عليه م.ت.ف، وهم واضعوا برنامج المساواة القومية والمدنية للجماهير الفلسطينية في إسرائيل. فهل هذه البرامج أعلاه برامج "طبقية" وتخص "ثورة البروليتاريا العربية واليهودية" وتتنكر للتحرر الوطني وللحقوق القومية لشعبهم؟!
ولم تساوِ طبقية هؤلاء الشيوعيين بين قومية الأمة المظلومة (العربية) والأمة الظالمة (اليهودية). فقد ميّزوا بين الأولى التي تحتوي العناصر الديمقراطية والعدالة وبين الثانية التي تتلّوث بالشوفينية والعنصرية لكونها قومية ظالمة ومحتلة. ولم يساووا، بعكس الافتراءات المغرضة لنقادهم القدماء والجدد، بين التطرف لدى القوميتين. هم حذّروا طبعاً من تطرف قومي عربي يتخذ أحيانا طابعاً عنصرياً وشوفينيا. وفعلوا هذا من باب الحرص على نقاوة وديمقراطية وإنسانية وعدالة قضيتهم وعدم تسبيب الضرر لها. لكنهم أكدوا دوما أن هذه المظاهر السلبية تنشأ على مستنقع الشوفينية الصهيونية واحتلالها وتمييزها العنصري. وهذه الأخيرة هي الغاصب والمجرم.
لقد ضجّت "الاتحاد" الشيوعية بعناوينها ومقالاتها الصارخة "لا تلوموا الضحية"، ولا تساووا بينها وبين المجرم القاتل، وحتى إن أخطأت تبقى هي الضحية لخطايا الغاصب. ونبهّت الضحية الصارخة في الوقت نفسه إلى ضرورة معرفة كيف تضبط وتوجّه وتستعمل غضبها الناقم العادل هذا، وحقها بالانتفاض ضد الإبقاء عليها كضحية. وإميل حبيبي، رئيس تحرير صحيفة الاتحاد الذي تعود له براءة شعار "لا تلوموا الضحية" و"أنا الطفل القتيل"، لا قاتل الأطفال، هو الذي شبه غضب الضحية الغاضب والعادل هذا باليود. لكنه نبّه أن هذا الدواء الشافي للجراح- اليود- يصبح دواء ضارا للذات وعامياً للنظر إذا ما جرى سكبه على بؤبؤ العين. ويأتي مؤخرا قومجي متأسلم ليفتري على هؤلاء الشيوعيين قائلا إنهم بندائهم لعدم لوم الضحية كانوا يقصدون اليهود الصهاينة وجرائمهم بحق العرب، لأنهم ضحية النازية!
على هذا المستوى نفسه من الافتراء، كان النقد والسخرية للبعض من الشعار لأممي للشيوعيين "الأخوة اليهودية العربية". يحق لهؤلاء أن ينتقدوا هذا الشعار وما نتج عنه من ممارسات، وأن ياتوا بأفضل وأنسب منه حسب رأيهم. أما الافتراء التشويهي، فليس من شيم القوميين الوطنيين. لم يقصد الشيوعيون بهذا الشعار، بعكس ادعاء البعض، طمس الهوية القومية العربية وجعلها تابعة وخادمة لليهودية، وإنما كان موجها بالأساس ضد الشوفينية الصهيونية. ولم يطالب هؤلاء بالتحالف والنضال المشترك مع اليهود على حساب هويتهم القومية وضد مصالح شعبهم، وإنما ضد السياسة العنصرية الإسرائيلية. والأمر نفسه يقال بخصوص انتقاد الشيوعيين لكونهم استعدوا، بسبب أمميتهم وطبقيتهم، للتعاون مع قوى يهودية تعرّف نفسها بأنها صهيونية. وهذا يعني، حسب هؤلاء النقاد، خدمة الصهيونية والوقوع في براثنها. إذ يجب التحالف فقط مع العناصر اليهودية التي تعلن عن نفسها أنها معادية للصهيونية. (مع مَنْ؟مع حفنة أشخاص من أصل ستة ملايين؟!).
الذي حلّل وكتب وأثبت في مؤلفاته ومقالاته وقرارات مؤتمراته أن الصهيونية حركة عنصرية وربيبة وخادمة للإمبريالية وليست حركة تحرر وطني لشعب، هم قيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي من عرب ويهود (ارجعوا، على سبيل المثال لا الحصر، لمقالات وكتب وولف ايرليخ وتمار غوجانسكي وإميل توما). لكن الحزب الشيوعي قيّم أيضا أن الصراع داخل إسرائيل ومع الفلسطينين والعالم العربي ليس صراعا فكريا لإثبات بطلان نظريات معيّنة، وإنما صراع سياسي بخصوص إنهاء الإحتلال والتمييز وتحقيق السلام العادل والمساواة. وفي هذا الصراع، مثلا لإلغاء الحكم العسكري والتمييز العنصري وسلب الأرض ومن أجل الديمقراطية وتحقيق المساواة القومية والمدنية للمواطنين العرب، وكذلك ضد الاحتلال وجرائمه ومن أجل الانسحاب وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، يجوز بل ويجب التعاون مع "الصهيوني" المعادي للاحتلال والعنصرية .
نعم يوجد تناقض بين الصهيونية كنظرية وممارسة وبين "الصهيوني" المستعد للتحالف مع العربي من أجل السلام العادل والمساواة. فليحلّ هو هذا التناقض. والعديد من اليهود حلّوا هذا التناقض بإعطاء تفسير آخر "لصهيونيتهم" المعاصرة بصفتها "صهيونية" حداثوية وسلمية لما بعد قيام إسرائيل وترفض التمييز العنصري. نستطيع طبعا إثبات بطلان هذا الأمر على الصعيد النظري الفكري. لكن السؤال بالنسبة للعرب الباقين في وطنهم داخل إسرائيل ضمن أغلبية يهودية: هل معركتهم من أجل البقاء والمساواة والسلام العادل معركة نظرية؟ وهل يريدون الاستكانة لخطاب المحقين فقط أم يريدون أن يكونوا فاعلين ومؤثرين على الواقع الذي يعيشونه لما فيه صالح قضيتهم العادلة؟ أتلك هي المسألة؟ ثم أن استعداد الشيوعيين العرب للتعاون والتحالف مع عناصر "صهيونية" بخصوص قضايا معينة، لم ينقص قيد أنملة من معركتهم الفكرية ضد الصهيونية.
ما من أقلية قومية مظلومة أو إثنية أو دينية، في دول العالم أجمع، عزلت نفسها طواعية عن الغالبية الظالمة. لقد حدث العكس دوما. أي أن الغالبية الظالمة هي التي عزلت الأقلية وهمشتها دوما، ومنعت خطابها من الوصول لأسماع الغالبية وتجنيد حلفاء ديمقراطيين لصالحها. ولا حاجة بنا لاستعراض تجربتي السود في أمريكا والسود في جنوب أفريقيا وغيرهما وغيرهما... وكل الأقليات القومية والدينية والإثنية في العالم.
لقد ساهمت النظرة والممارسة الطبقية والأممية للشيوعيين العرب في إسرائيل، في أصعب الظروف في عزل سياسة مَنْ أراد عزل شعبهم، وفي اختراق الإجماع الصهيوني، وفي كسب حلفاء ديمقراطيين، وفي تحقيق مأثرة البقاء والعديد من الإنجازات والحقوق القومية والمدنية. وفي الوقت نفسه ساعدت أيضا على إبراز الوجه الديمقراطي والعادل لقضيتهم، وعلى تطهير الذات من أدران تأثيرات شوفينية الآخر عليهم، وحفاظهم على القيم الإنسانية العامة وبناء الهوية القومية والوطنية كهوية ديمقراطية، وتجنيب شعبهم الكثير من المطبات والمصائب في عقر دار الصهيونية.
فكيف نرثي هكذا جيل... هذا ما أورثتنا إياه أفكاره وممارساته؟ الشعب لا يرثي إرثه بل يرْثهً. لقد أصبح إرث ذاك الجيل مكونا أساسيا من مكونات الذاكرة الوطنية والكفاحية لشعب بأسره، بمن فيهم الذين ينتقدون ويرفضون طريقه. فهل نرثي الذاكرة؟ خير رثاء هو استلهام تجربة هؤلاء القادة الشيوعيين والوعد والعهد على مواصلة وتطوير مسيرة ذاك الجيل العصي على الموت. المواصلة تكون أيضا من خلال نقد ما قد نراه اليوم خطأ في مواقفهم وممارساتهم في زمنهم، لا في الشتيمة عليهم، إذ نشتم عندها أنفسنا وذاكرتنا الوطنية كشعب. جيل مضى يهز الجيل القادم: قاومت فقاوم!