عن حزب التجمع والرسالة عن مؤتمره: أنا الذي كتب الرسالة! - سميح غنادري
كان سؤال المليون في الأسبوع الماضي: مَنْ الذي كتب الرسالة الموقعة باسم مستعار هو "عضو في اللجنة المركزية"، والتي كشفت بعض خبايا ما جرى في المؤتمر الأخير لحزب التجمع. ومن كثرة ما رّن الهاتف في بيتي وعلَت بورصة التخمينات، وجدتني أقول: أنا الذي كتب الرسالة!
وكأن اسم الكاتب، لا فحوى المكتوب، هو القضية الأساس. وكأن المهم هو اسم كاتب النص لا جوهر النص. على هكذا موقف كان سيجيب شكسبير على لسان هاملت: وماذا يهمّ الاسم؟ لذلك كان من الأجدى بقيادة التجمع إصدار بيان تفنّد فيه ما جاء في الرسالة غير الموقعة، أو تعترف به وتوضح الإجراءات التي ستتخذها لإصلاح الحال. وكنّا سنحترمها على هذا.
لكن بدلاً من هذا، داهمنا بيان "ردّ" على الرسالة (الأصح ردح) غافل هو الآخر عن التوقيع، ويظهر أنه صادر عن ناطق إعلامي ما...(الأصح ناتق). جاء فيه أن كاتب الرسالة هو: "سعيد النفاعي الإنتفاعي...سارق المقعد البرلماني...الساقط أخلاقياً...الفاقد للتوازن ...المنتفع لصالح جيبه...فاقد المكانة والهيبة شعبياً وأخلاقياً...المثير للشفقة".هذا دون تطرق الناطق ــ الناتق أبداً لفحوى ما جاء في الرسالة.
مثل هذا الردح مهين لكاتبه ولمن استكتبه، وغير مقنع لنا. لقد ذكّرني هذا السقط ــ النزق الإعلامي ببيانات بعض حكام العرب ومرتزقتهم من "شبيحة وبلاطجة"، في محاولة يائسة ورخيصة منهم لتغطية شمس الحقيقة بعبائة مهلهلة وممجوجة، ولسد الطريق على رياح التغيير وقدوم الربيع بإطلاق الرصاص العشوائي من قبل القناصة "المجهولين". لذلك وجدتني أضيف على اعترافي بأني كاتب الرسالة، أني أنا الذي عمّمها ونشرها أيضاً!
فتعالوا نتفرغ الآن لمناقشة جوهر وفحوى الرسالة. وخصوصا أن تحويل سعيد نفاع إلى "فزاعة" بهدف إخراس النقاش الداخلي والخارجي بخصوص مضمون الرسالة، ولصالح التغطية على الأزمة التي تعصف بالحزب، يبقى هروبا رخيصا نحو تعميق الأزمة. سعيد نفاع لم يكتب الرسالة. أنا متأكد من هذا. ولنفرض، جدلاً، أن نفاع هو الذي كتبها... هذا لا يحرر قيادة وكوادر الحزب من وجوب مناقشتها، خصوصاً أن العشرات ممن بقوا في الحزب وممن استقالوا، يقولون (وقالوا...) ما قالته تلك الرسالة. ولا أقصد الحقائق الاسمية ــ الانتخابية والرقمية التي وردت فيها، وإنما أقصد الخلفية الفكرية والسياسية والتنظيمية المأزومة التي قادت إلى حدوث تلك الحقائق.
فحزب المواطنة المتساوية والهوية القومية، الحزب الديمقراطي والعلماني واليساري، حزب إعادة بناء وتوحيد الحركة الوطنية لعرب الـ 48، حزب التنظير للعمل النضالي الجماهيري المدني، حزب الفئات الوسطى والمثقفين والشباب الصاعد، حزب استغلال البرلمان الإسرائيلي كأداة داعمة للعمل الكفاحي الميداني، حزب القيادة الجماعية ونبذ المركزية الخانقة واعتماد الديمقراطية والتعددية نهجاً وتنظيماً،...إلخ...إلخ...كفّ عن كونه كذلك، عمليا وممارسة، ولم يعد بؤرة جذب صاعدة. وهو مأزوم وفي أفول. فالتجمع الذي كان تيارا صاعدا في السنوات الأولى لتأسيسه ورددت قيادته أنه سيصبح هو "التيار" المركزي، أصبح أشبه "بالتـُوَيْرِر" (إن صح تصغير كلمة تيار بهذا الشكل). وبدلاً من أن يكون بؤرة جذب، أصبح شبه حزب وينفر حتى أعضائه... فيستقيلون.
أنا الذي كتب الرسالة!
لأن حزب التجمع نسى، ناقض، خان ــ (اختاروا ما شئتم، أو كلها مجتمعة) ــ المبادئ والقيم والبرنامج والنهج الذي وعد والتزم به حين تأسس (أوردناها في الفقرة أعلاه). صحيح أن الخطاب اللفظي العام ما زال هو هو. أما نهج الممارسة، فكرياً وسياسياً وتنظيميا، فهو على النقيض. فالتجمع قطرياً، وكذلك فروعه، غائب عن العمل الميداني الجماهيري وعن قضايا وهموم الناس هنا. اما المزاودة عبر راديكالية خطاب المحقين، فتبقى مجرد شعاراتية بعيدة عن قضايا وهموم الناس هنا، وغير قابلة للتطبيق. وارتبط الحزب بعواصم وقوى خارجية (وهي متغيرة بالمناسبة...) أكثر من ارتباطه بقضايا الناس هنا، وبالتعاون مع القوى الوطنية الفاعلة بينهم من حزبين ولا حزبيين.
ومَنْ يستعرض اليوم أسماء مَنْ تبقى أو يتواجد في الهيئات القيادية المركزية للتجمع وفي لجانه وفروعه وجهاز العاملين المتفرغين وصحيفته وبين مؤيديه وأصدقائه، من فئات وسطى ومثقفين وشخصيات اجتماعية، يتقطع ألماً. لقد نجح الحزب نجاحاً باهراً في تهجيج غالبية هؤلاء. أما عن "الإيمان بالتزاوج" (؟!) –(لاحظوا الكلمات: إيمان وتزاوج، لا دعوة للتعاون بخصوص قضايا مشتركة)- بين التيار القومي العلماني والتيار الأصولي الإسلامي وعلى حساب التعاون والتحالف مع قوى علمانية وتقدمية أخرى، والتأتاة في مواجهة التخلف الإجتماعي والأصولية الرجعية والعنصرية المتسترة بلباس الدين ــ هنا وفي المناطق المحتلة، فحدّث ولا حرج. هذا ما آل إليه ــ ميدانياً وفي وعي الناس ــ حزب التنوير والنهضة الثقافية غير المعاقة!
أنا الذي كتب الرسالة!
لأن الحزب الذي يُحمّل الناس "ألف جميلة" لأنه "تنازل" وقبل الترشح للكنيست، ينتخب هيئاته المركزية القيادية وتتصارع القيادة المنتخبة لهذه الهيئات، على خلفية الكنيست ومَنْ سيترشح لها. وكل تاريخ الصراعات الداخلية الحادة في الحزب، في المؤتمرات والهيئات وبين "الكتل" المركبة والمتصارعة في المكتب السياسي...هو تاريخ صراع على الكنيست. وما من أزمة عميقة عصفت بالحزب وبوحدة قيادته وتركت آثارها المدمرة على الفروع والكوادر وسلوكياتها... إلا وارتبطت بالصراع على مقعد الكنيست. وما من أزمة مالية قادت إلى شل عمل الحزب وتعميق عدم الاستثمار في صحيفته ونواديه وفروعه وجهاز العاملين والشبيبة والنساء والطلاب...إلا وكانت على خلفية حرق موارد الحزب ولسنوات قادمة في البعزقة (المعروفة والسرية...) من أجل الفوز بمقعد الكنيست.
وما من عار فكري وسياسي وتنظيمي أيضا لحق بالحزب وهجّج بعض كوادره ومؤيديه... مثل "العارات" المتكررة في ائتلافاته وتحالفاته عشية الانتخابات البرلمانية، والتنكر لمستحقاتها بعد عبور نسبة الحسم، إلا وكان لأجل الكنيست. والحزب الذي نظّر لوجوب التحالفات بين التيارات الوطنية، لا مع "الطيارين" الباحثين عن مقعد في الكنيست، لم يُبقِ على "طيار" من هؤلاء إلا وتحالف معه.
لذلك كله تتساءل قواعد الحزب: هل أقمنا مشروعا للهوية القومية والمواطنة المتساوية ولتوحيد الأقلية القومية وتياراتها الوطنية... والكنيست إحدى أدواته، أم أن المشروع مشروع عضوية كنيست للبعض والحزب هو الأداة؟
أنا الذي كتب الرسالة!
حالة الحزب التنظيمية بائسة ومخزية، وسلوكه وأخلاقياته التنظيمية تحصيل حاصل لحالته ولممارساته الفكرية السياسية ولمجمل نهج عمله وتعامله. قلت لقيادته في السابق (حين كنت عضواً وعاملا في الحزب): "انتوا بتلعبوا حزب". قلتها وأنا أشاهد يومياً ثقافة النرجسية، والمزاجية، واللامبدئية والانتهازية وتلوّن وتبدل المواقف، وترفيع فلان وتهجيج علنتان بناء على مدى انصياعه وارتباطه بهذا القائد أو ذاك، واللقلقة والتآمر والتحزبات. أما الصراعات الشخصية داخل الهيئات القيادية... فتطغى على المواقف ونهج العمل والتوظيف والتمويل، في سبيل ضمان سيطرة مجموعة قيادية، أو مكانة لها أو مركز أو مقعد كنيست. وكأن الحزب ملكية خاصة ومشروع شخصي لصالح هذا أو ذاك.
وأكثر ما آلمني هو تسرب هذه العقلية ــ النفسية لكوادر بارزة من الجيل الثاني أو الثالث. وهؤلاء مستقبل الحزب! وهؤلاء بتذويتهم لتلك العقلية المريضة والهدامة تنظيماً... أرادوا أن يكونوا من المرضي عنهم وأن يتوظفوا ويصبحوا أعضاء في اللجنة المركزية وحتى في المكتب الساسي (وأصبحوا...). كما يظهر فإن جدلية البرنامج والتنظيم تفعل فعلها ــ فهكذا نهج عملي في الفكر والسياسة يقود إلى هكذا تنظيم، وهكذا تنظيم يؤزم أكثر هكذا نهج فكري وسياسي. والذي يصر على المبادئ والقيم وأخلاقية السياسة وعدم الاذدناب لمجموعة ما، ويواجه... يجد نفسه مُقالا أو مستقيلا بإرادته. وحدها المجموعات القيادية المتنفذة لا تـُقال ولا تستقيل. وهي تحاسِب ولا تـُحاسَب على ما جرّته على الحزب من أزمات وإخفاقات. هكذا لا يبنون حزبا، هكذا يهدمونه – قلت لهم أكثر من مرة.
أنا الذي كتب الرسالة!
نهض أمامنا حزب جديد، صاحب رؤيا جديدة في مرحلة جديدة. جذبنا كالمغناطيس بفكره القومي الديمقراطي، العلماني اليساري. وبطرحه لمسألة دولة المواطنين وبتحدّيه الثقافي الراقي للصهيونية وللرجعية والتخلف الاجتماعي، وبدعوته ووعده بالعمل الجماعي والديمقراطية والتعددية. لكن قبل أن يكبر ويشيخ، صدمتنا قيادته المتنفذة بالتناقض المميت وبالهوة المتزايدة العمق والاتسعاع لديه: بين الفكر والممارسة، والبرنامج والتطبيق، والسياسة والأخلاق، علوية القيم وانحطاط وفساد التنظيم.
من عادة الحيتان حين تهرم وتتكلس الرؤية لديها وكذلك "أدمغتها" أن تسبح في المياه الضحلة وتفقد بوصلة الاتجاه... فتنتحر على رمال وصخور الشواطىء. عُمْر حزب التجمع (15) عاماً فقط. أي ما زال "مراهقاً". وكل المستقبل أمامه إذا ما تحلّى بشجاعة إعادة النظر النقدية في مسيرته ــ فكرياً وسياسياً وتنظيمياً...
أنا هو الذي كتب الرسالة.
استدراك
لا أصدق أن أحداً منكم قد صدق أني الكاتب لتلك الرسالة. لكني اعرف مَنْ كتبها. وبالتأكيد ليس هو سعيد نفاع. أراكم لا تستطيعون كبت حب الاستطلاع لديكم. إليكم الجواب على سؤال "المليون":
قيادة الحزب المتنفذة هي التي "كتبت" الرسالة. إذ أن مواقفها وأفعالها أكتبت، استكتبت، أو قل قادت إلى انفجار عضو في الحزب (وغالبا من القيادة...) وجعلته يصرخ علناً. لماذا أخفى اسمه؟ لأنه ما زال يأمل بإصلاح الحزب من الداخل ويخاف أن تجري الإطاحة به إذا ما كشف هويته. أو ربما هو ايضاً من الطامحين للوصول إلى الكنيست... لكنه من غير المرضي عنهم.
مَنْ هو؟ أجابكم شكسبير: وماذا يهم الاسم؟!