عن الدجاج السياسي: إما أن نكون شعباً، أو لا نكون - سميح غنادري
لم يؤدِ الحراك الجماهيري الإسرائيلي المطالب بالعدالة الاجتماعية، إلى اعتزازي "بوجود شعب إسرائيلي افتخر بالإنتماء إليه...". لكن ازداد عدم اعتزازي بقيادات عربية تمثيلية قررت أن لا دخل لنا في هذا الحراك، بحجة أننا أقلية قومية تعاني من سياسة التمييز العنصري، وبناء عليه قضايانا مختلفة.
مرّة أخرى "يقصفنا" خطاب المحقين الراديكاليين العرب... بمدافعة الثقيلة. علماً بأنه مشلّح وليس بمسلح. ويكاد يصّم أذننا ويحجب الرؤية عن أعيننا بقنابله الصوتية والدخانية... الكلامية طبعاً. فلا يمنع أمراً مكروهاً ولا يحقق انجازاً مطلوباً.
" يا بشرب من رأس العين، يا بموت عطشان. يا بأخذ وحدة شلبية. يا بحلف عالنسوان" ــ يزاود بعض سياسيينا وصحفيينا، لا المغني فقط في أغنيته الساقطة والمتخلفة. هذا دون أن يروونا من رأس العين، ولا من وسطه وطرفه أسقونا. وبقينا وحيدين عطشانين لفعل الفاعلين، تحت لهيب الخطابات والمواقف الكلامية النارية.
يظهر أننا اعتدنا إلى حد الاستمراء على كوننا مفعولاً به لا فاعلاً، وإن فَعًلْنا يكون فِعْلنا رد فعل كلامي لتسجيل الموقف، لا مبادرة ممارسته للانتصار لموقف. في أمس قريب أعلنا "إضراباً شاملاً" في يوم الأرض، كانت نتيجة أن أضرب شعبنا عن الإضراب الذي لم يلتزم به، ولم يعمل لإنجاحه حتى الداعين له. هذا مع العلم أن لغتنا الجميلة غنيّة بأفعالها. وهي لا تقتصر طبعاً على أفعال: صرّح، وأعلن، وقرّر. وإنما فيها أيضاً، لعلم قيادتنا أفعال: طبق، نفذّ، مارس، جددّ.
أما في ميدان تل أبيب وسائر ساحات المدن الإسرائيلية فيمارس الناس ويفعلون ويطوّرون تنظيرهم من خلال التطبيق، فيتجددون ويجددون. شيء جديد ونوعي يولد في تلك الساحات. لأول مرة تخرج للشارع النضالي، وبجماهيرية متعاظمة، "القبيلة" اليهودية الخرساء النائمة والمسجونة ضمن عنكبوت ــ فزاعة الأمن والعسكر، والمسمّمة بقومجية ووطنجية شوفينية وعنصرية. تخرج لا لتهتف كالقطيع لملك إسرائيل "الحي القيوم"، ولا لتهلّل للجيش الذي : "لا يُقهر"، ولا لتزعق "الموت للعرب". وإنما لتمارس قرارها: "الشعب يريد العدالة الاجتماعية". أما بعض سياسيينا وكتابنا فيزاودون عليهم قومجياً، بدلاً من ان يتعلموا منهم مدنياً.
أمر جديد ينهض أمام اعيننا. تقول الأغنية العبرية: "نهض الإنسان في الصباح، شعر أنه شعبٌ، وبدأ بالمسيرة...". فما بدأ باحتجاج بضع عشرات على غلاء سعر جبنة "الكوتيج"، وتبعته مطالب فئوية لقطاعات اجتماعية مختلفة، أصبح حركة جماهيرية بمئات ألوفها توحدت تحت سقف " الشعب يريد العدالة الاجتماعية". والعدالة الاجتماعية أصبحت تعني وتشمل، كما تطوّر تنظير المعتصمين من خلال الممارسة: دولة الرفاه، والتوزيع العادل للثروة، وتغيير سلّم الأولويات في الميزانية واالسياسة الاقتصادية لصالح المحتاجين، والتكافل الاجتماعي، وتطوير الخدمات. وكل هذا يعني تخفيض أسعار السلع الحيوية ورفع أجور الفئات المتوسطة والفقيرة وتوفير المسكن والخدمات الصحية والتعليم وفرص العمل للمحتاجين. هذا إلى جانب التركيز على تطوير المناطق الجغرافية المهملة في البلاد وعلى دعم الفئات السكانية المهمشة. وهنا يجدي ذكر المواطنين العرب ومناطقهم، وحتى ذكر ضرورة الإعتراف بالقرى العربية غير المعترف بها، وتخصيص أراض للتصنيع والإسكان الجماهيري في البلدات العربية.
ما من مطلب طرحه هذا الحراك الجماهيري المبارك إلا وكان عادلاً، ويخص العرب بعموميته وبصفتهم مواطنين في هذا البلاد، وبخصوصيتهم لكونهم الأكثر فقراً إقتصادياً واجتماعياً والأحوج للأرض وللمسكن والعيش الكريم، لكن العرب مغيبون تمثيلياً تغيباً ذاتياً، بين مجموعة هذا الحراك، وجماهيرياً بين مئات ألوف المعتصمين والمتظاهيرين. وبدلاً من تدارك هذين الأمرين - وسيجد تداركنا له الأذن الصاغية الترحيب من قادة وجماهير الحراك - يلجأ بعض السياسيين الحزبيين والصحفيين العرب إلى تحذير شعبهم من أن تلبية مطالب قادة الحراك سيكون على حسابهم كعرب(؟!).
نحن 20% من مواطني هذه الدولة التي نريدها دولة مواطنيها. ونريد أن نحيا ونأكل ونشرب ونرتدي ونسكن ونتعلم ونعمل وننشئ أبناءنا ونتعالج طبياً ونشيخ ونتقاعد... باكتفاء اقتصادي وخدمات اجتماعية تضمن احتياجاتنا الحياتية اليومية وكرامتنا المعيشية. وهذا الحراك الاجتماعي الحاصل في المدن اليهودية هو حراك عادل ولصالحنا أيضاً كمواطنين وكعرب، ومن واجبنا المشاركة الفعالة والفاعلة فيه دون أن نغفل مطالبنا الخاصة كأقلية قومية تعاني من العنصرية والتميير والإقصاء والتهميش. إذ لا توجد أية أقلية قومية تعاني من التمييز القومي في دولة في العالم، عزلت نفسها بنفسها وبإرادتها عن الحراك العادل لقومية الأغلبية. بل هذا كان هدف دين وديدن السلطة العنصرية الحاكمة، في كل زمان ومكان.
نعم، للعرب قضاياهم الخاصة أيضاً. ويصعب عليهم أن ينسجموا مع كل ما يصرح به قادة مجموعات ذاك الحراك، وما يرفعونه من شعارات وينشدونه من اناشيد قومية ــ لكن بإمكان الخصوصية العربية أن تجد وتبلور المشترك العام في إطار مطالب مجموعات الحراك، دون التنازل عن طرح أجندتها العربية الخاصة المتماهية مع المطلب العام بالعدالة الاجتماعية. وليس من مصلحتي كعربي، بل من المسيء لقضيتي قومياً ومدنياً، أن أشدد الآن على إبراز الفوارق التمايزات في الدوافع والخلفيات والمطالب... بيني وبين اليهودي من قادة الحراك. هذه انعزالية وفجاجة تهدف إلى تبرير تقاعسي عن المشاركة الفاعلة وتقود إلى المزيد من تهميشي وإقصائي كمواطن، وإلى إضعاف النضاليين: المطالب العامة المشتركة التي هي لصالحي أيضاُ والمطالب الخاصة بي كأقلية قومية مميّز ضدها.
اقرؤوا بعض ما ينادي به هؤلاء "الثوريين" شعاراتياً لا فعلياً: ينبهنا أحدهم أن اليهودي المعتصم "يطرح مطالبه في سياق صهيوني"، وهو بالتأكيد ضد الإحتلال والإستيطان. وآخر يعلّمنا أن "الصهيونية حركة كولونيالية وعنصرية" ولذا فإن الشباب اليهودي المعتصم يطالب عملياً "بعدل اجتماعي كولونيالي"(؟!) لصالح "البرجوازية اليهودية" ويحذرنا ثالث من أن المساكن الجماهيرية حق لنا سيكون على "أرض اللاجئين الفلسطينيين التي يجب أن تعود لهم". ورابع يستصرخ لافتاً انتباهنا لكون جميع الشباب اليهود "خريجوا وحدات قتالية قتلت شعبنا واحتلت أرضه"، لذا لا يجوز لنا أن نزور خيمهم ونشارك في نضالهم،وطلب "شرعيتنا منهم"(؟!). وخامس يدعونا للحسم الثوري: "ما دام لا يطالب الشباب في ميدان تل أبيب بإقامة الدولة الفلسطينية وبعودة اللاجئين، لا دخل لنا بحركتهم ومطالبهم، ولا دخل لهم بنا".
الحمد لله، الذي لا يُحمد على مكروه سواه أن أحداً منا لم يطالب قادة هذا الحراك الجماهيري الاجتماعي العادل بالإعلان عن قناعتهم الصوانيّة بضرورة إزالة دولة إسرائيل من الوجود ورمي يهودها في البحر، إلا أولئك اليهود الذين يجهرون، مشفوعين بالقسم، بأن الصهيونية حركة استعمارية وفاشية ونازية يجب قتل كا أتباعها. عندها نقبل مشاركتهم في النضال لتحسين ظروف معيشتنا في... إسرائيل!
أعتقد أن العديد من التحفظات التي قرأناها وسمعناها بخصوص عدم الحماس لإشراك الذات الجماعية العربية في الانفجار الكفاحي الحاصل (وهي بمجملها ألطف طبعاً من التحفظات التي أوردناها أعلاه)، وكذلك الإكثار من إبراز خصوصية قضايانا بصفتنا عرباً، ما هي إلا قناع لإخفاء عجز وتقاعس قيادتنا السياسية والتمثيلية في التجند والتجنيد لصالح هكذا حراك، وهروب من المبادرة وتحمل مسؤولية القرار ووجوب تنفيذه.
وبلغني، وأنا أكتب هذه السطور، أن لجنة المتابعة العربية ستجتمع في نهاية هذا الأسبوع لدراسة الموضوع ومهماتنا كعرب بناء عليه. صًحْ النوم. وبكير يا جماعة. فلم يمر إلا شهر بكامله (!)، على انطلاقة هذه الهبة الاجتماعية. يظهر أن بعض قادتنا العرب هنا، مثلهم مثل رؤساء العرب هناك الذين يطيح بهم ربيع شعوبهم: لا يفوّتون أية فرصة في إضاعة الفرص.
لم يمنع أحد أحزابنا العربية ولجنة المتابعة ولجنة الرؤساء، وسائر الأطر والمؤسسات والجمعيات التمثيلية والأهلية والمدنية لشعبنا، من أن تقيم الدنيا ولا تقعدها في الوسط العربي وعلى مفارق الشوارع الرئيسية، في أفعال نضالية كفاحية وجماهيرية من أجل العدالة الاجتماعية، واالمساواة القومية والمدنية لنا. وخصوصاً أن البلاد وأجواءها العامة على ضوء حراك الجماهير اليهودية، وكذلك إعلامها العبري، لم تشهد زمناً وفرصاً مواتية لسماعنا وللتعاطف معنا وعدم إقصائنا.. أفضل من الزمن والفرص التي وفرتها الأسابيع الأربع الماضية. لكننا لم نفعل هذا!
ولم يمنع أحد كل هيئاتنا التمثيلية من طرح قضية الأرض والمسكن، مثلاً، كقضية حارقة للعرب في ساحات مدننا، وفي ميادين وساحات الحراك الاجتماعي في المدن اليهودية أولاً. أقصد وقف سلب الأرض، وتخصيص أراض من الدولة لبلداتنا ــ للإسكان الجماهيري ولمناطق صناعية وتجارية وخدماتية، وتوسيع مسطحات النفوذ والبناء وإقرار الخرائط الهيكلية، ووقف هدم البيوت، والاعتراف بالقرى غير المعترف بها، والتسريع في إقرار رخص البناء... الخ. لكننا لم نفعل هذا!
لم يمنع أحدُ قيادتنا من تنظيم مسيرة كفاحية تخرج من بلداتنا العربية ، بمشاركة عشرة آلاف عربي، خمسين ألفا، مائة ألف، ربع مليون...، تقتحم الشوارع الرئيسية العامة وتدخل أكبر البلدات اليهودية في طريقها، لتصب بحراً جارفاً في وسط ميدان تل أبيب... حيث مركز الحراك الاجتماعي اليهودي. ويتقدم المسيرة شعاران فقط: "الشعب يريد العدالة الاجتماعية" و " الشعب يريد إسقاط سياسة التمييز العنصري". لكننا لم نفعل هذا!
ولم نجعل الأرض تزلزل زلزالها حتى داخل مناطقنا وبلداتنا، لا في الناصرة ومنطقتها، ولا في منطقتي البطوف والشاغور، ولا في النقب والجليل والقرى غير المعترف بها، ولا في المدن المختلطة. كان بإمكاننا ذلك، وخاصة أن كل بلدة ومنطقة عربية تعاني من قضايا اجتماعية ومعاشية خانقة، ومن أزمة إسكان وأراض قاتلة. وهي كفيلة أن تخرج الطفل من سريره والكهل من ضعف حركته. واكتفينا بنصب خيمة هزيلة هنا، وتظاهرة أهزل لرفع شعارات هناك، بمبادرات محلية ضيقة، شخصية أو فئوية ضيقة... ومن باب "شوفوني يا ناس" هذا بدلاً من توحيد الشعب... كل الشعب في زئير واحد لأسد واحد. لكننا لم نفعل هذا. ولم، ولم، ولم...ولكننا، ولكننا، ولكننا اجتمعنا وصرّحنا وقررنا يعطيكم العافية وسعيكم مشكور (محمود). أرأيتم ، ها أنا أضعكم ــ أستغفر الله ــ في مكانه الله الذي لا يُحمد على مكره سواه.
لماذا؟ وأين يكمن أساس هذا الترهل والتقاعس والعطف والعفن؟
فتش عن القيادة ومواقفها وسلوكياتها وأخلاقيات عملها السياسي، وكذلك عن عجزها عن المبادرة والتجديد، وجبنها وعدم استعدادها لدفع مستلزمات النضال.
قيادة تنخرها فتنخرنا، وتسمّم أجواءها فتسممنا، وتخرس فعاليتها فتخرسنا... أوبئة قبلية الأحزاب وحزبية القبائل وفئويتها والصراعات فيما بينها وحتى داخل صفوف كل منها. قيادة لا تنطق إلا متأخرة، وإن نطقت تنطق تأتأة. وإن قررت، لا تنفذ ما تقرره. قيادة تعيش رهينة أسيرة في أقفاص مفاهيم وأدوات الأمس، لا تتجدد ولا تجدد.
هكذا لا يقودون شعبنا، بل يحيلونه إلى فدرالية قبلية وحزبية وجغرافية وجهوية وطائفية هذا رغم أنه، لا بد لنا إلا أن نتصرف كشعب حق نحقق حقوقنا كشعب. فالشعب إما أن يكون شعباً, أو لا يكون. وهو لن يكون إذا ما قاده "الدجاج السياسي".
ـ ماذا تعني بالدجاج السياسي؟
ـ الدجاج طير جبان، ولا يمتاز بالذكاء. كثير النقنقة، قليل الفعل. يسير بطيئاً، وقاصر عن التحليق بعيداً لإستكشاف آفاق جديدة. يغط نائماً ساكناً في بيته ــ قفصه، سجنه. وإن خرج فلا يتعدى مزرعة أو مزبلة ضيقة يأكل منها ويبرز عليها. زيود مهرولاً إلى القفص ولا يبرحه مع أن أبوابه مفتوحة، إذ تسيطر عليه العادة إلى حد استمراء القفص. ويطيب له أن يأكل مما يُلقى له أمامه وتحت بطنه. يدلي برأسه إلى هناك لالتقاء فتات الطعام... فلا ترى عيناه أبعد من قفاه. وكثيراً ما تقع الواقعة بين الدجاجات الأخوات، فتشحذ مناقيرها وتنفش ريشها ويعلو زعيق مكاكاتها في حرب ضروس فيما بينها، كحرب داحس والغبراء، ولا على جمل أو فرس وإنما لالتقاط... دودة.
ـ كفانا الله شر الدجاج السياسي.
ـ وجنبّنا خطر دعوى بالتشهير والمس بالسمعة ترفعها ضدنا جمعية الرفق بالحيوان، لأننا شبهنا الدجاج ببعض القادة السياسيين!