مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

مقال عن الحراك الاجتماعي في إسرائيل (3-4): نحو أفق سياسي جديد - سميح غنادري

0.00 - (0 تقييمات)
نشرت
852
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

مقال عن الحراك الاجتماعي في إسرائيل (3-4): نحو أفق سياسي جديد - سميح غنادري

 

لا القضايا الأمنية المستجدة منذ انطلاق الحراك الاجتماعي في البلاد، ولا توصيات لجنة طرختنبرغ، ولا أسابيع الانشغال بعملية تبادل الأسرى، ولا حتى هطول إطلاق الصواريخ من غزة باتجاه إسرائيل وهطول أمطار السماء على الناس... استطاعت إسكات الحراك الاجتماعي المطالب بالعدالة الاجتماعية. إذ شارك عشرات الآلاف في مظاهرات الاحتجاج بتاريخ 29 أكتوبر في تل أبيب وغيرها، بينما كانت الصواريخ تـُطلق في اليوم نفسه باتجاه أشكلون وأشدود وبئر السبع. وحين علا زعيق المحرضين بأنه "في الجنوب يموتون في الحرب، وفي تل أبيب يرقصون"، علا بالمقابل رد قادة الحراك في وسائل الإعلام: الوضع في الجنوب لن يغير مطالبنا بالعدالة الاجتماعية أولا، والحرب الحقيقية هي الحرب على مستقبل المجتمع. وصرّح أحد قادة المتظاهرين: "لا أستبعد أن يكون الأمر قد صدر بتصفية المجموعة الغزاوية، لاستدعاء إطلاق الصواريخ في يوم تجدد مظاهراتنا بالذات بهدف التخريب عليها".

لا يهم مدى تصديقنا أو عدمه لصحة رأي ذاك المتظاهر. لكنه يعكس قناعة واسعة في إسرائيل، حكومة وشعبا، بأنه لم يعد بالإمكان إيقاف الحراك الاجتماعي إلا عن طريق تفجير مسألة أمنية كبرى. وقول ذاك المتظاهر يذكّرنا بما كان قد كتبه آساف غيفين (يديعوت 19 آب)، أنه إذا ما تراجع أبو مازن عن إعلان الدولة في أيلول، وإذا لم تبدأ انتفاضة ثالثة، "سيرسل نتنياهو وزير ماليته، شطاينتس، لإطلاق الصواريخ على أشكلون على أمل أن يوقف هذا الأمر حركة الاحتجاج في إسرائيل". لم يرسل نتنياهو شطاينتس... بل أعاد غلعاد شليط. لكن حتى هذا الأمر لم يجعل الشعب يهتف "هايدي نتنياهو، ملك إسرائيل الحي القيّوم". بل واصل جمهور الحراك هتافه: "الشعب يريد العدالة الاجتماعية".

شيء ما جديد ونوعي لحركة احتجاج من نوع جديد بأجندة وخطاب جديدين... تولد في البلاد. ربما تخفت الحركة أحيانا لكنها لم ولن تختفي. فقيظ أواسط تموز، موعد انطلاق الحراك، يبشـّر بطقس خمسيني في شتاء قادم قد يأخذنا نحو أفق سياسي جديد.

                   

ثورة في الوعي

"ثورة في الوعي" – هكذا عَنوَن الكاتب الصحافي غاي ألجاد (هآرتس 29 أيلول) مقاله عن الحراك. لقد صدق في هذا، لأنه نشأ حقا وعي جديد أتى بخطاب اجتماعي جديد كاد يهيمن على الناس وخطابهم وعلى مساحة واسعة في وسائل الإعلام ومضمونها.

تجلـّى هذا الوعي في رفض رؤية الضائقة الاقتصادية والاجتماعية كقدر محتوم، وإنما نتاجا لسياسة اقتصادية معطوبة وخنزيرية أباحت حقوق المواطنين المعيشية. وتجلـّى أيضا في تخلّي الناس عن عقلية ونفسية اللامبالاة وعدم الفاعلية والخـَدّر الاجتماعي. وإذ بالقطيع المخدّر أمنيا وقومجية شوفينية، أو "الحسناء النائمة" إن شئتم، يقبّلها أمير الحاجة والضائقة فتصحو ويصحو معها الناس على شتى انتماءاتهم الإثنية والجغرافية والطائفية. وصرخوا صرخة وعيهم المدوّية في مظاهرتين هما الأكبر في تاريخ إسرائيل، بتاريخ 6 آب بمشاركة 300 ألف إنسان، وبتاريخ 3 أيلول بمشاركة نصف مليون إنسان. فتعمّق الوعي بضرورة مواصلة الصعود إلى سقف تطلعات الشارع وتصعيد كفاحه.

وتجلّى الوعي في تحدي الأفكار السائدة في المجتمع، بما فيها فزاعة – بقرة الأمن المقدسة- (انظر/ي المقال الأول في هذه السلسلة). وكذلك في تعميم أولوية الأمن الاجتماعي، وفي فرض المطالب الاجتماعية وأجندتها على جدول أعمال الحكومة. وكانت الحكومة قد تجاهلت الحراك في بداياته. لكن مع تعميم الوعي والفعل الاحتجاجي سارعت لاحتوائه وفشلت في هذا، فانصقل الوعي أكثر فأكثر.

لقد أصاب البروفيسور اليهودي الفرنسي والمتخصص في علم النفس الاجتماعي، دانيئيل سيفوني، كبد الحقيقة حين أكد على أبرز معْلمين في هذا الوعي الجديد الناشئ (يديعوت 27/9). وهما "الخروج من الضغط القاتل والقمع المكثف لسجن الأمن"، و"الخروج للتظاهر في الشارع، الأمر الذي يعني اعتماد ديمقراطية مباشرة وضاغطة لتغيير اللعبة السياسية القائمة". نوافق سيفوني على رأيه، ونضيف أن الوعي والاستعداد لممارسته يؤدي ويقود نحو فعل اجتماعي كفاحي. وهذا بدوره يغني الوعي ويرقى به. وغني عن البيان أن الخطاب والكفاح الجديدين ينتجان بجدليتهما وديناميكيتهما مقدمات الانطلاق نحو أفق سياسي جديد...

 

سنريها من يملك القوة...

في البدء لم تـُبق الحكومة وأحزابها والناطقون والكاتبون باسمهن من إهانة وتسخيف، عدا عن التحريض الأمني، إلا وأطلقوها بحق قادة الحراك. وهن وهم شابات وشبان في العشرينات والثلاثينات من العمر. قالوا عنهم: شباب فارغ، مدلّلون، حملة آيفونات، مراهقون، أكلة سوشي ومدخنو أراجيل، سذج وغشماء، متبطلون، سخفاء، سطحيون، زهقانون، أولاد...

لكن مثابرة هؤلاء "الأولاد" في كفاحهم والتصعيد في مطالبهم وفي جذريتها، وتفويتهم الفرص لتفسيخهم –(وكل هذه الأمور مميزات أخرى لوعيهم)- اضطرّ الحكومة لتشكيل لجنة رسمية بقيادة البروفيسور طرختنبرغ لدراسة المسألة وتقديم التوصيات بشأنها (عن اللجنة وتوصياتها انظر/ي المقال الثاني).

لم يقع قادة الحراك، بعكس بعض المعلقين الاقتصاديين والكتاب الصحافيين، بشراك الكثير من الكلام المعسول وبعض "الحلاوة" في بعض التوصيات. بل رفضوا بحدّة التلهي بعظام وفتات مائدة ألقتها لهم الحكومة من خلال التوصيات. هم طالبوا بإعادة بناء السياسة الاقتصادية للدولة وتغيير سلم أولوياتها وضمان العدالة الاجتماعية، وبدعم الفئات المتوسطة والفقيرة المستضعفة، عن طريق إعادة دولة الرفاه والحد من تحكم وانفلات السوق والاحتكارات والتايكونات والأوليغارخيا. وقالوا إن هذا يتطلب رفع سقف الميزانية وإعادة بنائها جذريا.

لذا رفض قادة الحراك توصيات لجنة طرختنبرغ –(وكل ما نورده أدناه استشهادات مقتبسة من خطاباتهم ومواقفهم المنشورة)- ورؤوا فيها "خديعة" و "صرفا للنظر عن الجوهر" و "تتراوح بين السيء والأسوأ" و "نفاق لخطابنا الاجتماعي دون تلبية أي مطلب جوهري يتضمنه". وهذه توصيات "تتحدث عن الممكن بدلا من المطلوب" و "المطلوب تغيير القائم لا تبريره وتجميله". إنها توصيات "تحويل مطالبنا الكبيرة إلى فراطة صغيرة". ولهذا هي "لا تحل القضية ولن تهدئنا، بل سنصعّد من نضالنا". إذ أن حالنا مع هذه اللجنة والحكومة وتوصياتهما كحال "من ذهب إلى طبيب الأسنان لمعالجة التسوس والعصب للأسنان، فجاؤوه بمساعدة طبيب أسنان لتسكين الوجع عن طريق التخدير". لكن "لم يعد بالإمكان الضحك علينا... وإذا كانت الحكومة لا تفهم سوى لغة القوّة، سنريها من يملك القوة"!

هذه، أعلاه، ليست لهجة "أولاد سخفاء وسطحيون". وتلك، أعلاه، ليست مطالب بتخفيض سعر اللبنة أو الإسكان، ولا كفاحا نقابيا محصورا بمطلب عيني. وإنما هي صرخة وعي اجتماعي وسياسي تعبّر عن الإحباط القائم من عطب السياسة القائمة لدى شباب اختار طريق الكفاح لا طريق القطيع الأعمى المقود نحو المسلخ. ووجه ووجهة حراكهم هو المجتمع الإسرائيلي ومستقبله وبناء "إسرائيل جديدة" تليق بهم بصفتهم "إسرائيليون جدد". ولهذا حراكهم، إذا ما تواصل وتصعّد سياسيا، يبشر ويعد بأفق سياسي جديد...

 

جدلية الاقتصادي والسياسي

لا نقول إن جدلية الاقتصاد والسياسة وأثرهما الجدلي أيضا على مجالات السياسة العامة، أصبحت مفهومة وعامة في أوساط حركة الاحتجاج الاجتماعي. ولا حتى بين عموم مجموعة قادة الحراك. ولا نقول إن الحكومة الإسرائيلية بائتلاف أحزابها لا تملك في جعبتها السياسية شتى الوسائل من فزاعات أمنية وقومجية صهيونية وتحريض إعلامي وأدوات تفسيخ وإغراء... لإسكات الحراك وعدم تطوره سياسيا. فالوضع في إسرائيل ليس عشية الثورة، ولا هو بوضع ثوري أصلا، حيث لا يكون بإمكان الحكّام أن يستمروا بالحكم بالأسلوب القديم ولا يرضى المحكومون باستمرار قبولهم للعيش في ظل نظام الحكم القديم.

لكننا نقول إن الحراك الاجتماعي الجديد والمتصاعد داخل إسرائيل أزاح أجواء خانقة وبائسة كانت توصد الأبواب أمام التعبير والتغيير. فانهارت اللامبالاة والخدر، ونما وعي وإحساس الناس بمقدرتهم وقوتهم على اختراق الجدران والخنادق الضاغطة والمانعة لانطلاقة تطلعاتهم وآمالهم بالعدالة. ولا نتحدث بهذا عن حتمية تاريخية ستهدم عالم الجدار القائم وتعيد بناء المجتمع – الدولة من جديد. لكننا نرى تصدعا بدأ يظهر على جدار كان يبدو فولاذيا وغير قابل للتصدع في أمس قريب. ونستشعر تيارات جوفية بدأت تتفاعل في أعماق البحر.

وصل صدى صرخة التعبير والتغيير لداخل الحكومة وأحزاب ائتلافها ولداخل الكنيست ولأحزاب المعارضة. وكانت الصحف قد نشرت قولا لوزير ليكودي، تسرّب من داخل جلسة حكومية، جاء فيه: "إما أن نكون هناك، أو لا نكون هنا". بمعنى إما أن نتجاوب مع بعض مطالب ساحات الحراك، أو لا نبقى في الحكومة. فالحراك حامل بإمكانية إضعاف الائتلاف الحكومي القائم وأحزاب اليمين (مع أن هذا لم يحدث حتى الآن).

ثم ما من شك عندنا أن الحراك سيترك أثره على أحزاب المعارضة، إلى حد إمكانية إعادة الروح لها من جديد وزيادة قوتها وشعبيتها إذا ما أحسنت التصرف والتجاوب مع مطالب الجماهير. وسنرى تأثير خطاب الحراك وأجندته أو بعضها، ليس فقط على برامج الأحزاب اليوم، وإنما أيضا عشية الانتخابات البرلمانية القادمة لسنة 2013 وعلى أعضاء الكنيست. فإما أن يتغيّروا أو يُغـَيّروا...

كذلك من الوارد تشكيل قادة الحراك وجمهور مؤيديهم لحزب جديد يعبّر عن أجندتهم. أو، وهذا هو الاحتمال الأكبر، الانضمام إلى أحزاب قائمة (وسطية أو يسارية حسب الخارطة الحزبية الإسرائيلية ومفاهيمها...) والتأثير على تغيير أجندتها وتجذير مواقفها. إذ لا بد لهذا الحراك من إيجاد مرساة يواصل منها الانطلاق. ولا بد لهذا الكم الهائل من الناس الغاضبين والمستائين إلا أن يجد له إطارا منظما وفاعلا يمارس من خلاله العمل السياسي المباشر والمنظم حتى لا تبقى أجندته وعيا جديدا وبرنامجا مأمولا فقط، وإنما لتصبح واقعا محققاً وملموسا.

وإلا، فمن الوارد أن يتآكل هذا الحراك ويذوب، أو تصعد على أجندته قوى وأحزاب انتهازية قائمة تتبنى بعض خطابه لفظا... لا ممارسة. أو أن يقوم هذا "السماوي الحماوي" نتنياهو، ساحر اللعب بالخطابات وفق رغبة الجمهور الذي يستمع وممارسة ضدها، ويذيب الحراك هو وليكوده وليبرمانه وأحزابه الأصولية المتدينة والمستوطنون، بمساعدة الطغمة المالية والأوليغارخيا الماسكة بخيوط دمى السيرك الإسرائيلي القائم.

أعرف أن القارئ ينتظر جوابا محددا وواضحا بخصوص مصير هذا الحراك ومطالبه، يا أسود يا أبيض، أعجز عن توفيره لأن المسألة ليست مسألة حسابية. بل هي سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة، بواقعها الإسرائيلي وبمؤثرات وتطورات عالمية وشرق أوسطية محيطة. والاحتمالات مفتوحة على كل الجهات، ورهينة بتطورات مستقبلية ليس بمقدور أحد حسم وجهتها في الزمن الآني المعطى.

لكن ما من شك بولادة ووجود أمر نوعي جديد، نميل ونأمل أن يقود إلى أفق سياسي أفضل وأسلم. قلتُ نأمل؟ نعم، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل... وهذه موجودة حتى لو كانت ضعيفة. الحراك هو الذي منحنا إياها.

 

الانقلاب الاجتماعي والانقلاب السياسي

توجد أغنية احتجاج عبرية قديمة، تقول كلماتها عن الجنود الذين يقمعون الانتفاضة الفلسطينية بالرصاص: "يُطلقون ويبكون". حوّر المحتجون الاجتماعيون بعض كلماتها فأصبحت "يدفعون ويبكون"، في إشارة منهم إلى أن المواطن الإسرائيلي اعتاد دفع المطلوب منه بخنوع ومن ثم التباكي على هذا، بدلا من الانتفاض ضده.

حركة الاحتجاج الإسرائيلية الجديدة هي تمرد أطاح بالتباكي القديم. صحيح أن الاحتجاج لم يتـّسم بعد بطابع حراكي ساخن. وصحيح أن مظاهرته الأخيرة، بتاريخ 29 أكتوبر، لم تكهرب الأجواء كسابقتها بتاريخ 3 أيلول، ربما بسبب الأوضاع الأمنية التي كانت سائدة في البلاد. لكن من على منصة تلك المظاهرة الأخيرة، ووسط حشد عشرات الألوف، أعلن الخطباء من قادتها: "لن نتوقف، لن نتنازل، بل سنواصل وسنصعّد كفاحنا"، و "نضالنا أعطى الناس إيحاءً وإشراقا، وستزداد يقظتهم" و "سينمو ويتصعد احتجاجهم ضد حكومة سلـّمتنا وأباحتنا لاقتصاد سوق منفلت. لكن لن نسمح لهذا النهج الاقتصادي بالاستمرار بالدوس علينا". و "إلى جانب مواصلة الكفاح في الشارع سنحرص على ترجمة احتجاجنا إلى خطوات سياسية"...

حتى الآن ما زال الاحتجاج يخص السياسة الاقتصادية، ولم يتعداها بعد إلى الاحتجاج ضد السياسة العامة وضد الاحتلال والاستيطان ومن أجل التسوية السياسية والسلام العادل. يتعاظم طبعا الإدراك بجدلية الاقتصاد، بكونه نتاج سياسة ويؤثر على السياسة في الوقت نفسه. لكن الهوّة ما زالت واسعة بين هذا الإدراك وبين وعي حقيقة فعل هذه الجدلية على صعيد السياسة العامة الخارجية وليس الداخلية فقط. ونقصد وعي جدلية الربط بين الضائقة الاقتصادية الاجتماعية وبين الضائقة السياسية العامة، وأن العدالة الاجتماعية لا تتجزأ ولا تكتمل إلا بضمان العدالة للشعب العربي الفلسطيني والمساواة القومية والمدنية للبقية الباقية منه في وطنها.

أستدرك هنا قائلا إن هذا لا ينفي عدالة المطالب الاجتماعية الاقتصادية التي يطرحها الحراك، وضرورة مشاركة أهل البلاد العرب فيها (هذا ما سنتناوله بالتفصيل في المقال القادم والأخير من هذه السلسلة). ثم قادة الحراك غير متجانسين سياسيا، وهم من أطياف عديدة تجمعها مسألة العدالة الاجتماعية – الاقتصادية. هم يرفضون طبعا استمرار السياسة ذاتها التي أوصلت إلى الوضع البائس القائم اليوم، لكنهم يركّزون على المطالب الاجتماعية والمعيشية. ولا نستبعد أن عامل حرص قادة الحراك على تجميع وتجنيد أوسع قطاع من الناس حول مطالبهم الاجتماعية يقودهم إلى عدم طرح القضايا السياسية العامة.

لكن الملفت للنظر والجديد، ليس غياب الربط بين العدالة الاجتماعية والمسألة السياسية العامة، وبضرورة أن يؤدي الانقلاب الاجتماعي إلى انقلاب سياسي، والسياسي إلى اجتماعي. وإنما وجود هذا الربط ووعي هذه الضرورة بشكل واضح ومتزايد في وسائل الإعلام، خصوصا المكتوبة. ولم تشهد البلاد مثيل هذا لا إبان أزمة اقتصادية أو سياسية ماضية، ولا حتى بعد حرب سابقة لم تنتصر فيها إسرائيل.

سأصمت الآن وأترك المجال لذاك الخطاب الإسرائيلي الإعلامي الجديد –(وطبعا يوجد خطاب يميني وعنصري مقابله)- ليتحدث أدناه، وقد جمعته غيضا من فيض. وكله يجمع ما بين الاقتصادي والسياسي العام.

 

خطاب إعلامي جديد وواضح

يكتب يوسي سريد (هآرتس 28/9) عن حراك الشباب الاقتصادي قائلا: "في هذه الدولة التي بلا حدود –(جغرافية وسياسية) – من الجيد  أن يوجد فيها أناس يضعون لها حدّاً –(اقتصاديا وسياسيا)". أما ناحوم برنيع، المتسم عموما بموازنة، وبوسطية موقفه السياسي، فيكتب (يديعوت أحرونوت 28/9): "بيبي نتنياهو، كما في السياسة العامة كذلك في السياسة الاقتصادية، يستمر في قتل الأمل عن طريق خطاباته الأشبه بالسموم – نتناولها في البدء ثم ندمن عليها". وينبّه أفيعاد كلاينبرغ قادة الحراك وجماهيره إلى ضرورة عدم الاكتفاء بمطالب اقتصادية (يديعوت 27/9) وإلى أن "الحل المضمون هو تغيير تركيبة الكنيست، إذ يجب تغيير مجمل قواعد اللعبة السياسية". ويسخر يكير الكريف (يديعوت 14/10) من تصديق وعود نتنياهو وانتظار تنفيذها: "لن يبقى لنا إلا أن نقطع رقما ونقف في الدور الطويل منتظرين تنفيذ وعوده. لن نكون وحدنا في الدور إذ سنجد وراءنا فلسطينيين يقفون وينتظرون معنا وعدَه بدولتين لشعبين". وقادت هذه المواقف الواضحة وأمثالها إلى نرفزة الكاتب الاستيطاني اليميني إلياكيم هعتسني، فكتب (يديعوت 3/10) محذرا من "زج" القضية الاقتصادية بالسياسية وحصرها بين يمين ويسار سياسي، الأمر الذي قاد إلى "سيطرة نشطاء اليسار على الحراك، وإلى توجّه معادٍ للقومية والرأسمالية".

ويكتب أفيعاد كلاينبرغ (يديعوت 4/10) أن الحكومة تعمل على صرف النظر عن الواقع الاقتصادي القائم والاحتجاج ضده عن طريق خلق أزمة أمنية يجري تحويل الانتباه إليها. ويدعو إلى محاربة "غسل الدماغ" الحاصل في القضايا الاجتماعية والسياسية العامة، والذي "أصبح جزءاً لا يتجزأ من الثقافة السياسية في إسرائيل". ويقرر شاؤول أريئيلي (هآرتس 14/10) أن "الحقيقة" التي "قيلت في خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة" هي الحقيقة ذاتها التي "تقف وراء تقرير طرختنبرغ، والمسألة مسألة وقت حتى يربط الناس بين وجود الاستيطان وغياب الرفاه الاجتماعي". وكان قادة الحراك قد رفعوا في مظاهراتهم صورا لنتنياهو مكتوب عليها "أنت مفصول"، وشعارات تعلن: "أقامت الحكومة دولة رفاه للمستوطنين في المناطق، وقضت عليها داخل إسرائيل".

ويبقّ أفيراما غولان الحصوة – البصقة في وجه سياسة الثنائي نتنياهو – باراك، الأول بمواقفه الاقتصادية والسياسية والثاني بحديثه عن "الفيلا في الغابة" (إسرائيل الراقية بين العرب الوحوش) وعن أنه "ما من شريك للتفاوض". بهذا "أبطلا التضامن في المجتمع الإسرائيلي وقادا إلى اليأس السياسي"، وأغلقا "كل شق وإمكانية للمساومة والتسوية السياسية"... و"دمجا بين الانغلاق السياسي وبين التسيّب الاجتماعي".

ونختتم استشهاداتنا بافتتاحية صحيفة هآرتس (28/9) التي جاء فيها: "إذا ما كان يوجد أمل للسنة القادمة، فإنه يكمن في الطاقة الإنسانية التي فجّرتها حركة الاحتجاج". لأن ما بدأ باحتجاج ضد غلاء السّلع والإسكان، حسب رأي الصحيفة، "اتسع إلى انتفاضة ضد تقليص أفق ومستقبل الجيل الجديد" . وتمنت الصحيفة أن يتطور الاحتجاج نحو "تمرد في المجال السياسي"، وأن تؤدي "روح الأمل وطبيعة الناس التي استفاقت هذه السنة" إلى الإطاحة "بالجمود السياسي والمعيشي الذي تقترحه إسرائيل سنة بعد أخرى".

 

بانتظار المسيح...؟!

وبعد، قصدنا بهذا الكم الكبير من الاستشهادات أعلاه أن نترك "لأهل مكة" الحديث عن "شعابها"، فهم الأدرى بالجديد النوعي الحاصل داخل مجتمعهم وعقلياتهم. وهذا الجديد هو الذي جعلهم "يبقون الحصوة". لكن لم نقصد زرع أمل مبالغ به، علماً بأن سواد وعتمة ليل السياسة الصهيونية ما زال ثقيلا وقادرا على سد الطريق في وجه شعاع صباح جديد بدأ بالشروق، ويعد بخلاص جديد. وما من أدنى شك عندنا بأن الحكومة الائتلافية الحالية في إسرائيل غير مؤهلة لا لإحداث تغيير اقتصادي – اجتماعي جذري، ولا لتوجيه دفة ومقود مركبتها باتجاه التغيير السياسي والسلام العادل.

لتحقيق هذا، لا بد من إسقاط هكذا حكومة بخطها السياسي وبائتلاف أحزابها وكتلها البرلمانية الابتزازية. ولا يمكن أصلا تلبية المطالب الكبرى لحركة الاحتجاج إلا إذا ما دفعت الحكومة مستحقات السلام العادل مع العرب، وقامت بإغلاق "سوق" دولة المستوطنين والليبرمانيين والأصوليين الدينيين الذين يبتزون الدولة. يقومون بهذا في ظل حكومة ذات غالبية ليكودية نتنياهية تستدعي هذا الابتزاز وتتساوق معه، وتقوده سياسيا أيضا. فهل تصعد حركة الاحتجاج نحو هذا الوعي وهذا الاحتمال بضرورة إسقاط هكذا حكومة – هكذا سياسة؟ السنة القادمة ستكون حاسمة في تبيان الاحتمال الوارد والأوفر حظا...

وكان قادة الحراك الاحتجاجي قد أنهوا مهرجان مظاهرتهم بتاريخ 29 أكتوبر بأغنية عبرية اسمها "بانتظار المسيح"، معبّرين بهذا عن أملهم بخلاص قريب – خلاص الرفاه الاقتصادي والسلام الآمن العادل. لا بأس، لكن ليس بالانتظار تتحقق الأحلام، وهم لم ينتظروا، ولا نحن انتظرنا. وتبقى أهم دروس ونتائج ومكاسب الحراك الاجتماعي، حتى الآن، هي القناعة بضرورة الفعل الاجتماعي الجماهيري، وبقدرة الناس على التأثير، وبهذا التفجير للطاقات الإنسانية الكامنة، وبتوفير أمل بغد أفضل عن طريق التصدي لواقع اقتصادي سياسي بائس تجب الإطاحة به. وكل ذلك دون أن يأتي المسيح المنتظر...

فإما أن يقرع الناس جدران الخزّان، أو يختنقون داخله. هذا ما علمنا إياه السيد المسيح قبل غسان كنفاني... بألفي عام، حين قال: "اقرعوا، يـُفتح لكم...".

852
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,
جاري التحميل