مقال عن الحراك الاجتماعي في إسرائيل (1): حراك تاريخي غير مسبوق للذات الجمعية وللأجندة المدنية خارج الأقفاص الأمنية - سميح غنادري
أصبح من المتعذر في إسرائيل إخراس الحراك الجماهيري، الاجتماعي ــ الاقتصادي، من أجل العدالة الاجتماعية. لم تسكته وتلغيه لا العملية العسكرية من الحدود المصرية في جنوب البلاد وما تبعها من غارات إسرائيلية على غزة وتجدد إطلاق الصواريخ من هناك، ولا تأزم العلاقات مع تركيا، ولا الهجوم على السفارة الإسرائيلية في القاهرة. ولا حتى إصرار القيادة الفلسطينية على عدم تجديد المفاوضات العبثية مع حكومة نتنياهو، وعلى طرح مطلب الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وما سبق كل هذا ورافقه وتبعه من عزلة إسرائيلية شبه عالمية، ومن إمكانية تجدد وإنطلاقة الانتفاضة الفلسطينية.
لقد خفت الحراك أحياناً، لكنه لم يختفِ. وها هو يعود للبروز ولتصدُّر الخطاب الجماهيري والإعلامي وحتى الأكاديمي، مترافقاً مع صدور توصيات وبرامج مختلف اللجان والهيئات الحكومية ـ الوزارية، والشعبية الاحتجاجية أيضاً. الأمر الذي يدلّ على عمق جذور ومسببات هذا الحراك وعدالة مطالبه واتساع قاعدته الجماهيرية، وعلى أن "الفزاعة الأمنية" في إسرائيل أصبحت أعجز من أن تكون "كاتم صوت" لمطالبة الناس بالعدالة الاجتماعية.
صحيح أن مظاهرة الحراك الاحتجاجي الاجتماعي في إسرائيل، في الثالث من أيلول، لم تكن مظاهرة مليونية كما تمنى البعض. اصلاً ليس من الممكن أن يتظاهر مليون إنسان في بلد لا يتعدى عدد سكانه السبعة ملايين ونصف مليون نسمة. شارك بها "فقط"(؟!) ما يقارب النصف مليون إنسان. فسّجلوا بهذا سابقة أضخم مظاهرة كفاحية اجتماعية تشهدها إسرائيل منذ قيامها عام 1948. لقد كشفت عظمة هكذا مظاهرة مدى خفّة وضحالة وبؤس فهم المشككين بهذا الحراك وبجماهيرية مطالبة، وبكونه امراً تاريخياً جديداً ونوعياً تعيشه البلاد.
حراك جماهيري واعتصام في الخيام نجح بعد 50 يوماً بتنظيم مظاهرات بمشاركة 500 ألف إنسان تقريبا. وكان قد بدأه 15 شابة و شاباً بنصبهم لخيمة واحدة في الرابع عشر من تموز في ساحة جادة روتشيلد في تل أبيب. وما أن حلّ الأول من آب، وإذ بالـ 15 فرداً يصبحون 15 ألفاُ تجمعهم 3383 خيمة في مدن البلاد، وينظمون مظاهرة غير مسبوقة العدد هي الأخرى في السابع من آب، بمشاركة 300,000 إنسان يمثلون 80 -90% من السكان الذين أعلنوا، في مختلف الإستطلاعات، دعمهم للحراك ولمطالبه.
قام قادة الحراك والمتظاهرون بحل الخيام في ساحات المدن الإسرائيلية بعد المظاهرة النصف مليونية، مع الإبقاء على بعضها في كل موقع لاستعمالها أمكنة للقاءات احتجاجية وتشاورية، ولندوات جماهيرية تخص مواضيع الحراك. وكانت قوى الظلام والظلم في إسرائيل قد أملت أن تكون تلك المظاهرة "النشيد الأخير للبجعة" قبل موتها (وهو النشيد الأقوى والأجمل لها). لكن الشباب واصل حراكه وأكد أن "حلّ الخيمة" لا يعني إنهاء النضال، وإنما نهاية لمرحلة وبدءً لأخرى جديدة بأساليب وأدوات جديدة. فمن دخل الخيمة لم يدخل قفصاً أو سجناً محدّدا للنضال، وإنما تحرر من اقفاص السلبية الاجتماعية واللامبالاة والعجز واليأس التي كانت تنهش عقول ونفسيات الإسرائيليين وتحد من حراكهم.
في الخيمة... مارس الإسرائيلي حريته الذاتية والجمعية بصفته مواطناً أصبح يعي مواطنته وقيمته وقوته ومقدرته. وفي الخيمة ذوّت الناس مسؤوليتهم الاجتماعية تجاه أنفسهم والمجتمع عموماً، بكونهم فاعلين ثاروا على سنوات بقائهم مفعولاً به. لذلك حتى لو اختفت كل الخيام، لن يعود بإمكان أحد أن يتجاهل وجودها. فكل الشعب تقريباً كان تحت سقوفها. وأكاد اقول إن ما زرعته حركة الاحتجاج من حمّى الفعالية، والمسؤولية الاجتماعية، ونفسية القدرة على التأثير، والأمل الكبير بإمكانية التغيير لدى الناس...هو، هو، الانتصار الأكبر لحركة الاحتجاج قبل تحقيقها لأي انتصار مطلبي عيني. وهو الضمان لتحقيق إنجازات وانتصارات أخرى مستقبلية.
حدث أمر جديد ونوعي في إسرائيل. القبيلة اليهودية، الخرساء النائمة، والمسجونة ضمن متاهات عنكبوت/ فزاعة الأمن والعسكر والشوفينية القومية والوطنية، تخرج للشارع لا لتمجّد ملك إسرائيل "الحي القيوم"، ولا لتهلّل للجيش الذي "لا يُقهر"، ولا لتزعق "الموت للعرب"، ولا لتطالب بالقضاء على الأغيار "الإرهابيين"... وإنما لتعلن: "الشعب يريد العدالة الاجتماعية".
بهذا نجحت حركة الاحتجاج الحالية حيث فشلت كل التحركات الاحتجاجية السابقة. لقد أحدثت ثغرة كبيرة في الخطاب الإسرائيلي الجماهيري المعتاد، وتحوّلاً هاماً في أجندة وسلم أولويات المجتمع الإسرائيلي المدني ــ من "الأمني" إلى "الاجتماعي". وهيمنت على الجدل والحديث العام بهذا الخصوص بين الناس، وفي كافة وسائل الإعلام، وأخرجت مئات الالاف للاعتصام والتظاهر الاحتجاج في مركز وأطراف البلاد. وأعادت إلى الأجندة العامة من جديد قيم المساواة والعدل والرفاه الاجتماعي والتكافل وجسر الهوة المتسعة في فوارق الدخل، حتى ينجح الإنسان العامل بالعيش بكرامة. وكلها قيم مدنية وعادلة وأخلاقية عملت حكومات إسرائيل المتعاقبة، منذ عقود، على تحييدها وطمسها لصالح "الأمن" والرأسمالية الخنزيرية المنفلتة العقال.
بين الإصلاح... والثورة
لم يطالب قادة الحراك بإسقاط النظام السياسي ولا بالثورة الاجتماعية. هم دعاة "إيفليوشن" لا "ريفليوشن" (تطور وتغيير إصلاحي لا ثورة تهدم كل ما مرّ وتبني الكون جديداً حراً...). لكن لعمق مطالبهم وجذرية بعضها، وبأجندتهم الاجتماعية، وبتحررهم من قفص وفزاعة الأمن، وبنوعية القوى والفئات الاجتماعية القائدة والمشاركة من طبقة وسطى وعدم اقتصارها على اليهود الشرقيين، وبإتساع قاعدتها الجماهيرية، واستمراريتها ومثابرتها وتجنيدها الواسع للناس... تُسجل سابقة تاريخية في مسيرة النضال الاجتماعي في إسرائيل. لذا لم يتورع بعض المحللين والكتاب الإسرائيلين عن وصف هذا الحراك بالثورة، أو بالانقلاب الثوري. ثم توافق بعضهم على تسميته بـ "ايفوليوتسيا ريفوليو تسوئنيت" ـــ إصلاح ثوري، أو ثورة إصلاحية.
تختلف أهداف وأجندة هذا الحراك في إسرائيل عما حدث ويحدث في العالم العربي مما اصطلح على تسميته بالربيع العربي. لكن لا يخفى على المراقب ملاحظة التأثر "والنسخ" الإسرائيلي لأدوات الإتصال والتواصل الاجتماعي الجماهيري الخليوية والحاسوبية، ولأساليب ولسلمية النضال، ولاعتصامات متواصلة في الساحات والميادين داخل المخيم ، وحتى لبعض شعارات ونغمة هتافات الربيع العربي: " الشعب يريد...".
هنالك أغنية عبرية قديمة، أصبحت اليوم وكأنها نشيد كُتب خصيصاً للحراك - "للثورة". تقول بدايتها: "فجأة نهض إنسان، شعر أنه شعب، وبدأ بالمسيرة...". هذا ما حدث في الثورات العربية، وهذا ما يحدث داخل القبيلة الإسرائيلية، التي اكتشفت وأخيراً حاجتها الحياتية لإصلاح مجتمعها المريض والمعطوب... فبدأت تتصرف كشعب، وبهذا ثارت على ذاتها أيضاً وحطمت أقفاصها القديمة ـــ القبلية والأمنية والسلبية الاجتماعية. لقد أعلن الناس الأفراد، من خلال هبتهم الاجتماعية، انهم ذات جمعية وشعب موحد حول مطلب العدالة الاجتماعية.
لم يحدث في تاريخ إسرائيل أن توحد الناس مدنياً ووطنياً حول قضية اجتماعية... مثل هذه المرة. كان الأمن "وخطر العدو من الخارج" هو الذي يوحدهم. أما الآن، فقالوا نحن هنا ولم نعد غير مرئيين ولسنا براضين إزاء وضعنا الاجتماعي الاقتصادي. وإذا كانت الحكومة لا تفهم إلا لغة القوة... سنريها من يملك القوة الحقيقية على التأثير والتغيير. بهذا كفّ الشعب عن كونه قطيعاً. وبمقدوره أن يكف يد الحكومة عن كونها مشايخ وسلاطين القبيلة. أمر جديد حقاً، يولد في إسرائيل.
وكانت البلاد قد شهدت، على مدى 63 عاماً من وجودها، عدة انفجارات لموجات غضب ونضال اجتماعي ــ اقتصادي في سبيل الخبز والعمل والمسكن. نذكر الأبرز منها: كفاح سكان وادي الصليب في حيفا، والنضال من أجل المسكن في نهاية الخمسينات وبداية الستينات وفي تسعينات القرن الماضي بعد موجة الهجرة الروسية الجماهيرية لإسرائيل من الاتحاد السوفييتي المنهار، وكفاح البحارة وعمال الموانيْ، وحراك "الفهود السود" ــ (اليهود الشرقيون)... وغيرها.
لكن كل تلك الكفاحات لم تكن جماهيرية ولعامة الشعب ولم تجنده وتُثر دعمه، وإنما كانت حراكات خاصة لفئات إما إثنية مهمشة ومميز ضدها، وإما لقطاعات عمالية معينة. وامتازت غالبيتها بالعنف ويتدخل الشرطة، وبقصر مدة تحركها وعدم استمراريتها، وباقتصارها على مجموعاتها المختلفة الضيقة بمطالبها الفئوية، وبعدم طرحها لأجندة عامة لا إصلاحية ولا ثورية لتغيير مجمل المبنى الاجتماعي الاقتصادي للدولة. وكان للأحزاب والأطر النقابية دورفي إطلاقها وفي إخمادها.
ليس هكذا هو حراك الصيف الحالي في إسرائيل، في عفوية انطلاقه وأجندته الاجتماعية، وفي قيادته وتنظيمه الجماهيري. لقد أطلق عليه البعض اسم "عجيبة الصيف" أو "ربيع الصيف". إذ حقاً نحن أمام صيف ربيعي عجيب لحراك اجتماعي من نوع جديد وغير مسبوق في تاريخ البلاد، انطلق عفوياً مستلهماً تجربة ميدان التحرير في القاهرة وغيرها، مجنداً للناس ومتخطياً للأحزاب وللنقابات، ومحطماً لمسلمات وتابوهات لم يتصور أحد في أمس قريب إمكانية تحطيمها.
خمسون يوماً متواصلاً من الكفاح، تنزل للشارع خمسمائة ألف مواطن وتفرض أجندة اجتماعية اقتصادية كفاحية يؤيدها أكثر من خمسة ملايين إنسان (حسب الإستطلاعات). فتضطر الحكومة وغالبية وزرائها للاعتراف بالغبن القائم وبضرورة الإصلاح وتشكيل لجنة ــ برئاسة البروفيسور طرختنبرغ- لوضع توصيات ستمس بعض جوانب الفكر والممارسة الاقتصادية لنتنياهو وحكومته. وتضطر الحكومة إلى عدم رفع أسعار سلع وخدمات كان مخططا رفعهاً. ويصرح أصحاب الاحتكارات من غيلان وحيتان الاقتصاد والتسويق أنهم على استعداد " للتنازل" عن بعض امتيازاتهم وأرباحهم المبالغ بها. وتقوم شركات ومجمعات التسويق المركزية بتخفيض أسعار مئات السلع الحيوية والأولية. أي أن حركة الاحتجاج حققت انتصارات معينة وفرضت أجندتها على بساط البحث الحكومي والجماهيري، وهي ما زالت في أول طريق نضالها. إذ لا يمكن حتى لحكومة واحد مثل نتنياهو تجاهل حراك جماهيري بهذا الاتساع.
يحدث كل هذا دون تدخل الأحزاب والنقابات في الحراك وقيادته، وبدون انتماء قادة الحراك لأي حزب سياسي. إنما الشعب، بفئاته الاجتماعية المختلفة وبأجياله المتنوعة وبطبقته المتوسطة وفقرائه، وبعلمانييه ومتدينيه، وبيهوده الغربيين والشرقيين، وبسكان المركز والأطراف، وبمشاركة وإن كانت محدودة من العرب، هو الذي فجّر الحراك وملأ الخيام ووضع الأجندة، وخصوصاً الشباب. والشعب قرف من السياسة السائدة وأحزابها المتنفذة. ورأى فيها سياسة فاسدة ومفسدة وفئوية وانتهازية وابتزازية لصالح قطاعات معينة ــ الطغمة المالية أو/و المستوطنين والأحزاب الدينية الأصولية، ولضمان استمرار الائتلاف الحكومي وحكم نتنياهو و"ليكوده" و"شاسه" و"ليبرمانه"...وسائر هؤلاء السياسيين الذين لا يهمهم إلا تمثيل مصالح الفئات الضيقة التي يخدمونها، مقابل دعم تلك لمصالحهم وإعادة انتخابهم – كما أكد المتظاهرون في تصريحاتهم.
لا، لم تحدث هذه الهبّة بسبب غلاء منتوجات الألبان، ولا لغلاء أجرة وأسعار دور السكن لوحدها أو الخدمات الاجتماعية من تنشئة وتربية الأطفال، أو بسبب مصاريف التعليم أو العناية الصحية، وارتفاع أسعار كافة السلع والخدمات بما فيها أسعار المأكولات والوقود والكهرباء والمياه والمواصلات...الخ.
حدث هذا الانفجار النضالي الكبير بسبب الأمل الذي عمّ الناس بإمكانية التغيير وبقدرتهم على إحداثه. وكان الحراك طبعاً في سبيل حل كل تلك القضايا المختلفة التي ذكرناها أعلاه وغيرها... لكن معاً. لقد رفض قادة الحراك التفاوض حول مطالب فئوية وقطاعية محددة. وأفشل قادة الطلاب الجامعيين محاولات الأوساط الحاكمة لتحييدهم وشرائهم عن طريق وعود بتلبية بعض مطالبهم الفئوية الخاصة...من باب "فرّق تسد" وضرب وحدة وعمومية مطالب فئات الحراك. وذلك لأن الشعب قرر أنه "يريد عدالة اجتماعية" غير مجزأة، وفي كل المجالات والقطاعات. ويريد تغيير سلم أولويات السياسة الاقتصادية، وإحداث انقلاب اجتماعي عميق فيها لإنبات ربيعه وضمان أمنه الاجتماعي.
بين الأمن العسكري والأمن الاجتماعي
تظهر إسرائيل للوهلة الأولى كدولة ديمقراطية وعلمانية مدنية، تضمن تداول السلطة والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتصون حرية القول والفعل وحرية وسائل الإعلام. هناك الكثير من الصحة في هذا. ولكن إسرائيل بصفتها دولة احتلال واستيطان وتمييز عنصري وتجسيد كولونيالي للصهيونية، ولأنه "على حرابك تعيشين يا صهيون"، أحالت موضوع "الأمن" وتعظيم العسكرة إلى ما هو أشبه بداء الطاعون الذي تغلغل في كل خلايا الجسد. أصبح الأمن في إسبارطة الحديثة النيوليبرالية، التي اسمها إسرائيل، فزاعة بل وغولاً لا يشبع من التهام الأخضر واليابس. الأمن هو البوتقة التي صهرت وحدة شعب المهاجرين القادمين من كل بقاع الأرض... وأعاد بنائه قبيلة ــ كتيبة عسكرية. وباسم الأمن جرى زج القضايا المعيشية للناس في الخانات الخلفية من الأجندة العامة. وعن طريق الأمن جرى إسكات وإخراس المطالب الاجتماعية للناس..."صمتاً، المدافع تتكلم. والقضية هي الحفاظ على بقاء دولة اليهود الصغيرة وتمكين مواطنيها عسكرياً، إذ أن العرب الأعداء يحاصرونها ويريدون إلقاءها وإلقاءهم في البحر"...كذبت الصهيونية الحاكمة، وصدّق قطيع القبيلة المحكومة.
اخترق الحراك الاجتماعي لصيف 2011 هذا الستار الحديدي، ولا أقول فجرّه وأطاح به كليا إلى غير رجعة. ولا أقول إن الشعب في إسرائيل وعى حقيقة أن أمنه الاجتماعي الاقتصادي مرتبط بإزالة الاحتلال والاستيطان وضمان أمن وحرية الفلسطينيين وتحقيق السلام العادل. إنما أقول إنه حدثت خروق جدية في جدار الحاجز الأمني. ولم يعد الأمن ورقة التوت التي تستر وتبرّر عورة السياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة. ويكفي قادة الحراك فخراً قلبهم للأجندة وجعل القضية الاجتماعية على رأس سلّم الأولويات، وفي مركز اهتمام الناس ووسائل الإعلام.
لذا لم تُسكت التوترات الأمنية التي شهدتها إسرائيل خلال الشهرين الماضيين "الموزوت". ولم تقد إلى حل الخيام وطي الأعلام ومنع التظاهرات ومواصلتها وتصعيدها. بل ظهرت على الألسن وفي لافتات وشعارات المتظاهرين، والأهم في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، تصريحات ومقالات ونقاشات ومواقف... لم يكن بالإمكان تخيل ظهورها في إسرائيل وبهذا الشكل الواسع قبل شهرين فقط.
صرح قادة الحراك ورفع المتظاهرون شعارات تقول:" يحتاج أمن إسرائيل إلى إجراء ثلاثة تغييرات جوهرية مترابطة: اجتماعي اقتصادي، وسياسي أمني، ويهودي ديمقراطي". و "حتامَ نكون معا في التَنْك (الدبابة) ووحدنا في البنك؟". والأمن هو..."الأمن الاجتماعي أولاً"، و"النقب والجليل ليسا بحاجة إلى الجنود، وإنما للأمن الاجتماعي"، و"الأمن= تعليم وصحة ومسكن وعمل للجميع"، و"الإسكان ليس بناء المزيد من الملاجئ وإنما تشييد البيوت" و "وعدتمونا بأرض ميعاد موعودة (موفطاحت)، تدّر لبنا وعسلاً، وأعطيتمونا بلاداً (مئوفطاحت) ــ محميّة عسكرياً ومهددة لأمننا اجتماعياً". وحين صرّح وكتب البعض أن شهر أيلول حامل بأخطار أمنية وبانتفاضة ثالثة (بسبب عرض القضية الفلسطينية على الأمم المتحدة)، ظهرت في اليوم التالي على الخيام وفي مظاهرات الاحتجاج شعارات مثل: "أيلول لا يهمّ مؤخرتي".
وفي أثناء إطلاق صواريخ سكاد وغراد على مناطق الجنوب، كان يتم إطلاق صفارة إنذار لتنبيه الناس للدخول الملاجئ... تسمّى "الصفارة الحمراء". فكتب بعض المعتصمين على خيمهم: "صفارة حمراء: الشعب فقد أمنه الاجتماعي، اخرجوا للتظاهر". وحين كثر الحديث عن ضرورة توظيف المال لبناء المزيد من "القبة الحديدية" (منصات صواريخ لتفجير صواريخ العدو وهي في الجو) لضمان الأمن العسكري، ظهر الشعار "الشعب يريد قبة حديدية لضمان الحقوق الاجتماعية".
وهذا ما طالب به إيتسيك شمولي، رئيس اتحاد الطلبة الجامعيين وأحد قادة الحراك. وأضاف: "هنالك أهمية للتظاهر بالذات حين يحدث توتر أمني"! وكتب الكاتب والبروفيسور دانئييل سيفوني (يديعوت 4/9): "الإسرائيلي مسجون دوما في قفص المشاكل الأمنية، ومنغلق في إطار هوية جرى تحديدها له. لكن لا يمكن اختصار الحياة بالأمن، وخصوصاً أن الحكام يستغلون الأمن لصالح سياستهم وللمس بحقوق الشعب. وعلى الشعب تكسير القفص الأمني حتى يتحرر، هوية واجتماعياً".
لولا اتساع جماهيرية الحراك الاجتماعي وعدالة مطالبه ورفض الناس لتغذيتهم بالمزيد من "الحشيش ــ الأفيون ـ الأمني"، لقامت القيامة على كاتبي ومطلقي تلك الشعارات والمواقف. ولجرى نعتهم بـ " الخونة" و "الطابور الخامس" و"عملاء وأعوان المخربين". لم يحدث هذا، بل حدث العكس. ولم تتجاهل وسائل الإعلام هذه الأجواء والمواقف الجديدة، بل امتلأت بعشرات المقالات المؤيدة والأكثر حدة ومباشرة في هتك وجه فزاعة الأمن واستغلالها لإخراس الحراك الاجتماعي. وكشف استطلاع أمين للرأي جرى في أواخر آب أن 77% من الناس يؤيدون استمرار التظاهر والاحتجاج الاجتماعي حتى في ظل التهديد الأمني.
تكتب عينات فينشتاين (صحيفة يديعوت 22/8): "يجب منع خطاب السكاد والعمليات (العسكرية) من إخراس صوت الحرية. كفى تشويها لمشاعرنا... ولن ترضينا ثلاث غارات أخرى على غزة، وتجعلنا نترك خيامنا"، ومنها سنواصل الدفاع عن أمننا الاجتماعي، فالقضية الاجتماعية أسبق من اقتصاد السوق ومن حتى... "التهديد الإيراني وسائر كليشيهات الأمن". ويكتب أحد قادة الحراك، يوناتان ليفي (يديعوت 26/8): "ولا مرة ساد هدوء أمني تام في البلاد. ودوماً قيل لنا عندما يسود سنهتم بالقضايا الاجتماعية. كفى، لم يتبق وقت للانتظار".
ويكتب كارلو شطرنغر (هآرتس 26/8) في مقال بعنوان "العدالة الاجتماعية بدلاً من القومجية": "الحكومة تستغل الأمن والتنهديدات من الخارج لفرض القومجية وإعادتنا إلى الحظيرة ووقف الاحتجاج، بهدف استمرار طريقة حكم الأمس وجعلها سائدة حتى الغد. مع أن المطلوب هو التوظيف في المستقبل، لا الدفاع عن سياسة الأمن التي تهدد أمننا الاجتماعي". أما آسف غيفين فيكتب ( يديعوت 19/8) بسخرية جادة وبجدية ساخرة: "إذا ما تراجع أبو مازن عن إعلان الدولة في أيلول، سيعلن نتنياهو قيام دولة فلسطينية في أيلول. وإذا لم يبدأ الفلسطينيون عندها انتفاضتهم الثالثة، سيرسل نتنياهو وزير المالية شتاينتس لإطلاق الصواريخ على أشكلون (عسقلان)، على أمل أن يوقف هذا حركة الاحتجاج".
أمر جديد ونوعي يولد في إسرائيل، وهو أمر تاريخي. لقد صنعه إسرائيليون جدد أو متجددين أو مجددين ــ كل هذه التسميات لهم ظهرت في الصحف – هبّوا في حراك اجتماعي من نوع جديد. حراك لم تشهد البلاد مثيلة سابقاً، بأجندته وجماهيريته ومثابرته وتركيبة وانتماء قيادته وخطابها، وبتعاطف الإعلام معها. جديد... لم يكتف بذبح بقرات مقدسات في الفكر والممارسة الاقتصادية ــ الاجتماعية، وفي ثقافة القطيع القبلي السائدة، وإنما تعداها إلى حد المس بقدس القداسة للبقرة المقدسة الأعظم ـ الأمن. ولهذا سيستمر، ولن يكون "حلم ليلة صيف" عابر.
الشعب قرر أنه يريد... الأمن الاجتماعي أولاً!