الناصرة تقرع ابواب مرحلة جديدة - عطاالله منصور
أقيم في الناصرة منذ صيف 1958 وندر ان سمعت مديحا لهذه المدينة من سكانها خصوصا لانعدام الحياة الثقافية والنشاطات الترفيهية فيها. وأذكر الناصرة شخصيا كبلدة فرضت علي - يوم كنت عازبًا- أن أتعلم الطبيخ او أن أقتصر على أكل الحمص او الفول او الشيشلك او البيض المقلي والكباب في مطاعم الناصرة المحدودة. وكان النشاط العام يقتصر على الاحتفالات بعيد البشارة في ساحة الكنيسة ومسيرة الاول من شهر أيار في عيد العمال.
ولكن الناصرة البلدة التي أزداد تعداد سكانها من 20 الى 80 ألف, وأضيف إلى فندقي الجليل والكازانوفا عددا محترمًا من الفنادق الافخم والاكبر، وللمطاعم "الشرقية" إنضمت مطاعم تقدم تشكيلة كبيرة من المأكولات التي تقدم لرواد المدينة مختلف الاكلات الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية . مكاتب نقابة العمال تحولت الى سينماتك وفي فنادق ومطاعم المدينة اجتهاد واضح يقوم فيه القائمون عليها لجلب سكان الناصرة وضيوفهم - مما أوصل الى أذني أصواتا تعبر عن سعادتها بتحول الناصرة الى مدينة يجد فيها المرء ما يسليه ويمتعه بوقت الفراغ المتيسر له.
ومن هنا اصغيت للاصوات في محاولة للتعرف على النشاطات المتوفرة اليوم لسكان الناصرة - واول ملاحظة على هذه النشاطات هو انها لا تحظى باعلام واسع يشجع الجمهور الواسع للقدوم والمشاركة. الندوة التي نظمتها مكتبة ابو سلمى التابعة لبلدية الناصرة جمعت رامز جرايسي, رئيس البلدية وا.د. غاوي غاوي أستاذ الموسيقى في جامعة النجاح الوطنية حول "دور الاغنية الوطنية" في الثورة. رئيس البلدية المهندس كشف امام جمهور محترم نفسه عاشقًا لمطرب مصر الشعبي سيد أمام ومدرسته، ولكن غاوي غاوي أصر على أن هذا الغناء لا يرقى الى المستوى الذي يطمح - وهو، بهذا، يثير موجة من الهمس الذي يعبّر عن عدم رضا الجمهور وقبل ان ينفجر البركان تطوع الشاعر الشاب تميم الاسدي ابن صديقي الشاعر سعود الاسدي وحفيد الشاعر الشعبي المعروف المرحوم ابو سعود الاسدي وأوضح موقفه الى جانب الاستاذ غاوي وصب الماء البارد على نار الهمس فخرج الحضور الى هواء جبل شنلر والنقاش دائرا بينهم حول مستوى صاحب قصيدة " نيكسون باشا توع الوتر غيت"...
وبهد ايام معدودة كانت ندوة ثانية في ضيافة ابو سلمى وندوة ثالثة في مطعم "صدفة" الذي استضاف يورام كانيوك بمناسبة صدور روايته الاخيرة "1948" والتي تدور احداثها حول تجربة الكاتب يوم كان شابًا يعمل مع فرقة من البلماخ في فتح الطريق بين تل ابيب والقدس المحاصرة من قبل المقاتلين العرب. وحين وصل يورام كانيوك للحديث عن المقاتلين العرب اثار بعض المستمعين الذين طالبوه بان يطلق عليهم تسميته لهم بالفلسطينيين. وقال لهم كانيوك ان العرب الفلسطينيين فضلوا تسميتهم بالعرب، وجاء رد أن العرب ومن فضلوا تسميتهم بالعرب كانوا من المتطوعين من الدول العربية.
لم اساهم في النقاش ولم اشعر بان ذلك كان مناسبًا فقد كنت شيخا في جمهرة من الشباب وفضلت أن أسمع على أن اضيع الفرصة المتوقرة لي للتعلم. عودة بشارات، رفيق يورام كانيوك، حاول تهدئة النقاش بتقديم مساهمة محدودة حول روايته " زيتونيا" التي صدرت مؤخرا باللغة العبرية لمجموعة من الضيوف اليهود. ولكن النقاش لم يكن جديا البتة. يورام كانيوك لا يعرّب العربية ولا الخلفية لهذا النقاش في الاوساط العربية في مطلع القرن العشرين والانقلاب الذي نعيشه هذه الايام في العقد الاول من القرن 21. في هذه الايام يصر الانسان الفلسطيني على هذه التسمية لانه يريد العالم - واسرائيل- الاعتراف بحقوق شعبه الذي يطالب بحقة في تقرير المصير في وطنه - فلسطين- ولو قات انه عربي فلماذا يعتبره الناس لاجئا وهو في قطر آخر ضمن وطنه العربي ؟؟؟
اما بعد الحرب العالم الاولى كان العرب يطمحون الى انشاء دولة العرب القومية ومن هنا تمردوا ضد اتفاقية سايكس- بيكو الذي قسّم الدول العربية شرقي المتوسط الى سوريا ولبنان وأوكل فرنسا على "اعداد" هذه الدول للاستقلال! وقسّم ما تبقى من هذه المنطقة الى دولة العراق ودولة فلسطين (التي اصرت القوى الوطنية على اطلاق اسم "سوريا الجنوبية" عليها. لماذا ؟ لانهم اعتبروا ان انشاء دولة فلسطين كان خطوة بريطانية على طريق تطبيق "وعد بلفور" لأعداد فلسطين لتكون "الوطن القومي" لليهود . (راجع الحوار حول هذا الموضوع في مذكرات خليل السكاكيني. الكتاب الثالث ص.66-72)
ومن هنا يستطيع المرء ان يشهد كيف يتغير معنى الكلمات كما تتغير الظروف. وكما شهدنا كيف تحولت الناصرة من عدة قرى متجاورة الى مدينة تواجه مشاكل المدن وتبدّلت خيارات الفلسطينية الى قومية العروبة والعودة منها الى الوطنية الفلسطينية القطرية.