دروس تينة - جواد بولس
يوسف القرضاوي يحرّم على المسلمين غير الفلسطينيين، زيارة القدس خشية تطبيع هؤلاء علاقاتهم مع الكيان الصهيوني المحتل، وكي لا يَدخلوها مدموغين بنقطة حبر زرقاء تَصِم صفحاتهم البيضاء.
يوسف القرضاوي نفسه، لم يرَ غضاضةً بأن يقوم سام وتوما وهوك بتحرير أرض المسلمين في ليبيا من معمّر الكافر، فهؤلاء حلفاؤه، طاهرون، حشدٌ على الحق عيّافو الخنا، وبشدائد الأمة هم كفيلون، فأنفاسهم أنفاس الرجال تحيي العهود وتميت معارضين زنادقة وكفرة.
ويوسف القرضاوي، مثله مثل علماء كثر، آثروا العيش في "دوحة" وفَّرت لهم كلّ أسباب الكفاح بكرامة وتضحية وكدح، وفتحت أمامهم فضاءات لا حدود لها، فأتاحت لأصحاب العقول مثله، وأصحاب الفكر، حرية اجتهاد وجهاد يحميها فيء خليفةٍ وَرِعٍ، سنَّتُه "وبالوالدين إحسانا" و"كل أخ عربي أخي"، متنور يرعى الحكمة وهي كأفراخ بذي مرخٍ، يربيها ويطيّرها عظات وعطايا وهِدايات على أجنحة من أثير وصكوكٍ وسحب من غاز.
استفزَّني ما سمعت من هناك، من مؤتمر شرّع للكثيرين ممّن شاركوا فيه بوابات لصحون الإمارة والدار. باسم القدس تنادوا وللدفاع عنها تعاهدوا. زخّاتٍ من قذائف الكلام أمطروا، وتسابقوا في وصف الهزيمة وعارهم في القدس. لم يقبلوا قليلَ ما لفت نظرهم إليه الرئيس محمود عبّاس واقترحه عليهم، فالتجأوا إلى ما يجيدونه وأجاده، مثلهم وقبلهم، فرسان دجلة وبردى: هروب وبكاء على حَمْلٍ لن يكون بالتصفيق ورفع القبضات لتساند حنجرة "العريس" يقضي ليلة دخلته هاتفًا: "بدنا أولاد وبدنا أولاد".
مَن عَقد على ذلك الملتقى أملًا، كان كمن يتوقع خيرًا من حكّام الدوحة والممسكين بخيوط الدمى على ذلك المسرح المصنوع من ذهب أسود ومغطى بعهر. القضية لا تنحصر بما لم تفز القدس به عمليًا وفعليًا. فالقضية أخطر، لأن ما اقترحه صاحب النعمة في الدوحة، مثله مثل ما اعتادت العرب تسميته "جبّ المذاكير"، فحينما يُختَزَل وعدُ العذراء المرهون بشطحة عتيدة لبيادر الأمم الغريبة، لن تزغرد أمٌ ولن تتراقص شقائق. للعذراء أن تنتظر بحزنِ نبعٍ يجف ودهشةِ سفينةٍ تغرق.
والأخطر، كذلك، هو شرعنة الوقاحة والتواطؤ. فلسطين، صاحبة التاج والجرح تهيب وتنادي وا قدساه! وابن يعقوب يناجي أحفاد قيصر ويطلق للخيانة براعم وأظافر، فيختلط الأقحوان وشوك المُدى.
غريبة هي نفوس العرب تلك ومريضة. وفاءٌ تعلّمنا عنه صغارًا ما عدنا نجده بعد موت جدودنا وبعد أن أصبح خير جليس في الأنام فيسبوك وميل وفتوى! جهلٌ يفوح مع كل برميل نفط يصدّر ويسيح ريعًا على خلفاء ورؤوس قبائل وترويعًا على سلاحف فقدت دروعًا كانت تحميها. أمةٌ معظم أبنائها يجيدون أكثر ما يجيدون النفاق، يضعونه أكاليل على جباهٍ ما شاهدت شمسًا طالعة وأجسادٍ كأنّها تزمجر مكسوةً بفرو كبش.
فبالدوحة تكلّم من تكلّم. فلسطين أدلت ببيانها وكان بيانَ عقل وقلب وصاحب حق وضمير. لكن القول في الدوحة، وا قدساه، قول يوسف. فيوسف هذا يا أبي، ليس رئيس دولة ولا مجرّد أمير أو وزير أو محافظ، ولا حتى مواطن مثلي ومثلك، إنّه شيخُ الشيوخ وعلّامة العلماء، من مشارق الأرض إلى مغاربها، وهو إنْ قال يفقه وهو بكل شيء فقيه. جرمٌ أن نسائلَه وعظيم أن نستهمه بغمزةٍ أو بحاجب يُشدَهُ من عجب فلا ينطبق. فهناك يا أبتِ القول قول يوسف ولذا أفيقوا يا سادتي العرب واسمعوا وعوا (ولتناموا يا غَرَب) واسمعي يا فلسطين التي هناك والتي هنا: لن يأتيك المسلمون ولا العرب، إنّي كما يحلو لك أو كما تشتهي سكين صهيون، وانزفي كما عيون العذارى في مواسم هجرة الفَراش أو كما علّمك هولاكو وانسفكي دماءً كما آبار نفط صحارى عدنان المعذب تسفك على موائد التحشيد والتجييش من أجل عرسك القادم، فانا يوسف أعدكم بفرح لم تشهده عذارى بابل ولا جلّق، وأعدكم بخيل تمنّاها ابن مقدونيا وآغات ذاك الزمن الحارق، تمنوا وهيهات منهم الخيل، أمّا أنا فأعدكم بالنصر فهيهات منك يا قدس المهانة والذلة.
كدت أضيّع نهاية الخطبة وكلما رفعت صوت تلفازي لأنتشي بليل العسل وحلو الوعد رفعت ابنتي صوتها وصوت صديقتها وكانتا تحفظان بيت شعر يقول "بئسَ القضاء الذي في الأرض أوجَدَني/ عندي الجمال وغيري عنده النظرُ/ وظلّت "الدوحة" الحمقاء عارية/ كأنها وتدٌ في الأرضِ أو حجرُ". قفزت ناحيتهما مستهجنًا، فالنص، بدأت استذكر، روى عن تلك التينة الحمقاء ولم يذكر الدوحة. أسكتتني ابنتي وعلى صدى ما تناقلته الفضائيات من تلك الدوحة، راجعت معهما ما علَّمنا أبو ماضي أطفالًا، قبل ما اندثرت بيادر قرانا، كيف تكون الحماقة وعلّمنا إلي أين يؤدي الغرور ونهاية الحمق.
التبست علي مكاسب ذلك المؤتمر كما عدَّت. فهدأت حينما تذكٌرت أنّ بعضًا من قادة جماهيرنا العربية في إسرائيل شاركوا في ذاك المؤتمر، مستبعدين الاستنكاف عن مد يد العون لنداء القدس، رافضين أن يفهم البعض مشاركتهم كإشهار موقف داعم لما يقوم به الأمير وما يدعو إليه من تدخل أجنبي في سوريا، بعدما أوصل دوره ليبيا لما وصلت إليه، فهم حتمًا سيؤكدون أنّهم سمعوا الدعاء الذي سيحمي بلاد العرب مما يكيده لهم الكفرة الصليبيون أتباع بوش. وسمعوا كذلك ما دعا إليه الرئيس محمود عباس، وما دعا إليه راعيهم هناك، وسمعوا كذلك ما وعد الشيخ وما حظر، وهم طبعًا يؤيدون ذلك كله ويؤيدون كل من تحدث هناك، وطبعًا يؤيدون ما نقوله هنا.
يجب تأييد كل ذلك، طبعًا، لأنه يصب في مصلحة تحرير القدس. ومن يحاول التقليلَ من أهمية مشاركتهم فردًا فردًا ووفدًا وفدًا يكون محرضًا ولا يريد للقدس خلاصًا، ويكون عمليًا من مؤيدي باروخ مارزل. ربي، من باروخ مارزل هذا؟!