القديسة بربارة رمز الثبات والصدق في الإيمان
التربية البيتية هي تربية مهمة في مسيرة حياة الأبناء والبنات، فهي تحتوي على تربية الأخلاق أو التهذيب والخلق، الإجتماعيات والدينية. وهناك من الآباء مَنْ يحتضن بدفئ محبتهم لأبنائهم، ومنهم مَنْ لا يعرف الدفأ والحنان، فَيُطَفِّشوا أبناءهم، وبهذا يخسر هؤلاء الأبناء المحبة الأبوية والتوجيه الصحيح في هذه الحياة، ليعيشوا حياة الضياع والمتاهة، ومنهم وهم قلائل مَنْ يصبر على هذا أملاً له في الخلاص والتوجه الى حياة مثمرة وخيِّرة لهم ولمستقبلهم، فإنهم يعملون بقول أشعياء النبي : الصبر هو منتهى الخلاص. وهذا ما حدث للقديسة بربارة التي احتفلنا بعيدها قبل الأعياد الميلادية المجيدة، فبالرغم من صغر سنّها ومن كسر جناحيها، أسلمَتْ نفسها لِمَن هو أقوى من أي جبروت بشري وغير بشري، وَصَلَّتْ وبقيت هكذا حتى آخر أيامها السوداء ولم تُبدِّل تبديلا،وكأنّ بحسها الباطني تعمل بأقوال الذي آمنت به فيما بعد،وهو ربنا يسوع المسيح وبقوله:" وأما أنتَ فمتى صلَّيْتَ فادخل الى مُخدِعكَ وأغلِق بابَكَ وصلِّ الى أبيكَ الذي في الخفاء. فأبوكَ الذي يرى في الخفاء يُجازيكَ علانيةً."
وُلدت بربارة من أبوين وثنيين في قرية تُدعى جاميس التابعة لمدينة ليئوبوليس بنيقوميدية في آسيا الصغرى ( اليوم- تركيا ). توفيت والدتها وهي صغيرة جداً، فلم تحظَ بحنان الأم وعطفها كبقية أترابها، فبقيت وحيدة والدها الذي قام برعايتها وتربيتها، إذ كان ينتمي الى أبناء الطبقة الأرستقراطية في تلك البلدة، ولم يرزقه الله عزّ وجلّ بأولاد غير بربارة. لهذا أراد أن يُربيها بحسب تفكيره الوثني، إذ كان يخاف عليها من نشر الدعوة المسيحية في تلك المنطقة آنذاك. ولدت بربارة في أوائل القرن الثالث ميلادي، وكانت الديانة المسيحية في أوج انتشارها، ولكنْ الكثيرون من المبشرين دفعوا ثمناً باهظاً لقاء هذا الأيمان، ومنهم مَن دفع حياته ثمناً للرسالة التي آمنَ بها وقام بنشرها، بالرغم من قساوة قلوب الحكام الرومان وغيرهم من الحكام الوثنيين آنذاك. كان والد بربارة معروفاً بين الأسر الكبيرة، صاحب اسم كبير وجاه وكرامة، وكان متحمّساً للوثنية، شديد التمسّك بأصنامه، ويكره المسيحيين كراهية عمياء ويقاومهم.
كانت بربارة جميلة المنظر وبارعة الجمال والحسن، فخاف والدها عليها، لأنه كان يتنقّل في نطاق عمله من مكان الى مكان، فأراد وبحسب تفكيره إبعادها عن حياة المجتمع الذي يعيش فيه، فاختار أن يسكنها مكاناً آمناً. قام والد بربارة ويدعى ديوسقورس من شدة خوفه على ابنته ووحيدته ببناء قصر لها، وجعل فيه خدّاماً لها، وضمن لها كل وسائل الراحة والترفيه في حياتها، كما ووضع فيه العديد من الأصنام. بهذا القصر لم تكن بربارة راضية بحياة الترف والخدم هذه، فكانت عصبية المزاج في طفولتها، وكانت تقوم بضرب بعض الخدم بالعصا، وفي مرة من المرات، أرادت ضرب أحد الخدم فأخطأت الهدف وأصابت مربيتها التي كانت تحبها كثيراً، وتتخذها كأمٍّ لها، فحزنت بربارة كثيراً لهذا العمل، ولامَت نفسها على هذا التصرف الذي كان سيضر بمربيتها، ومن تلك اللحظة توقّفت عن الضرب. كانت بربارة تنظر الى الأصنام وفي داخلها صوت يناديها، هذه ليست الآلهة، إبحثي عن الإله الحقيقي. شاءت الأقدار أن يكون بين الخدم مَنْ يؤمن بالديانة المسيحية أو له علم بالديانة المسيحية، فأرشدوها الى عالم مسيحي يُدعى أوريجانوس(المتوفي عام 255م) أستاذ مدرسة الإسكندرية الكبير، الذي بإمكانه أنْ يُبَسِّط أمام أمثالها من المثقفين حقائق الدين. فأرسلت اليه بربارة وكشفت له عن كل أفكارها، فأرشدها عن طريق تلميذه ويدعى فالتيانوس الذي عرَّفَها الأسرار وعمَّدها، فنذرت نفسها ليسوع المسيح دون علم والدها. كانت بربارة المسيحية تُواظب على الصلاة والتأمّل بسيرة الوالد الفادي الجديد ربنا يسوع المسيح سواد ليلها وبياض نهارها.عندما كبرت بربارة المسيحية وبلغت سن الزواج، تقدّمَ وطلب يدها أحد أبناء النبلاء من الوثنيين في نيقوميدية، ففاتحها أبوها بذلك فرفضت الإقتران به، محتجة برغبتها في البقاء الى جانب أبيها وصعوبة فراقه والإبتعاد عنه، فاقتنع أبوها الوثني بجوابها، وكان هذا بقدرة الخالق ربنا يسوع المسيح، ولم يجبرها على هذا الزواج.لم تتحمّل بربارة المسيحية الحياة والصلاة الى مسيحها والأصنام أمامها في القصر، فحدث أن سافر أبوها الوثني الى مدينة لعدة أيام في نطاق عمله، عندها قامت بتحطيم الأصنام التي في القصر، رافضة الصلاة لها وعبادتها، ومعلنة بهذا إيمانها بيسوع المسيح الذي يكرهه أبوها الوثني، ولم تعِ جزاء هذا العمل من قِبَل أبوها الوثني، وظنّت بأنها بتحطيمها للأصنام هذه، ستُقنع أباها الوثني بالعدول عن عبادة هذه الأحجار التي لا تتكلّم والتقرّب من عبادة ربّها يسوع المسيح. عاد أبوها الوثني وشاهد ما شاهدت أعينه من تحطيم لأصنامه التي يعبدها، فخاف بعد أن تأكّد من أنّ ابنته ووحيدته بربارة قد اعتنقت الديانة المسيحية، خاف على مكانته الإجتماعية واحترام الوالي وأبناء الطبقة الأرستقراطية بالبلدة له، وفضّل أن يُقاوم ابنته ووحيدته على أن يفقد مكانته واحترامه بين أبناء الطبقة الغنية، فأراد ثنيها وردّها عن عبادة يسوع المسيح لكنه لم يفلح بهذا، فتوجّه الى الحاكم أو الوالي مرقيانوس لكي يبقى في فلك رجاله واحترامه له، وأباح له بسر اعتناق ابنته بربارة الديانة المسيحية، بعد أن قام بحبسها في قبو مظلم، فيه شباك صغير منه يدخل النور الذي يُعطيها الأمل في الخلاص والتخلّص من هذا العذاب، فكان يبعث لها ربها يسوع المسيح بعصفور يقوم بإعطائها القمح، كي تأكل منه وتبقى حية صامدة أمام هذا العذاب وهذا الجوع الجسدي.وهناك رواية تقول ان والدها بعد أن سجنها في القبو، أمر خدّامه باطعامها القمح فقط. حاول الحاكم أو الوالي مرقيانوس ثني بربارة المسيحية عن إيمانها المسيحي، لكنه لم يُفلح بهذا، وكانت تستهزء بعبادتهم للأصنام التي لا تنطق ولا تشفع ولا تفيد، والأكثر من هذا كانت تعارض القيصر الوثني وتستهزء بنظامه وقوانينه وأوامره، مما جعل الدم يغلي في وجه هذا القيصر الكافر، الذي قام بتعذيبها بشتى الوسائل، علّه يجبرها بهذا العذاب الجسدي والنفسي ترك عبادة أو الإيمان بيسوع المسيح، والعودة الى عبادة ما يعبد أبوها وغالبية سكان الولاية أو المملكة وهي عبادة الأوثان والأصنام. ولكن ما توقّعه الحاكم لم يكن بالحسبان، فقد شعر بأنه يقف أمام فتاة مؤمنة بشدة وبقوة بالديانة المسيحية، ولم تُجدِ كل شتى الوسائل وأنواع العذاب في ثينها عن هذا، فهدّدها بأنه سيأمر جنوده بتعريتها من ملابسها والسير بها في الأسواق والشوارع بهدف إذلالها. هنا توجّهت بربارة المسيحية الى ربّها المؤمنة بقدرته وعظمته وجبروته، أن يساعدها في هذه المحنة والتخلص منها. وكان ربنا المستجيب لدعائها وطلبها، فلباه بسرعة وأبهرَ عيون الناس الذين لم يستطيعوا ما تمناه الحاكم أو الوالي مشاهدة بربارة المسيحية تسير عريانة، وهذا أي مشاهدتها عريانة كان بمثابة إذلال واحتقار لها كفتاة لها احترامها. لمّا عاين الحاكم أو الوالي ما حدث للناس وله، ولم يقدروا أن يشاهدوا هذه الفتاة المؤمنة عريانة، أمر بقطع رأسها للتخلص منها. فتقدّم أبوها الوثني وساقها الى خارج المدينة وقطع رأسها. لكن الله لم يُطِل عمره وعمر الحاكم أو الوالي، فأمر الصاعقة بحرقهما، ففعلت ما أمرها به الله وحرقتهما بنارها سنة 235م.
جاسر الياس داود
عبلين 3/2/2012م