في يوم البشارة - جواد بولس
احتفل يوم الثلاثاء الماضي المسيحيّون الشرقيون بعيد البشارة. وكما في كل عام احتضنت الناصرة مراسم الاحتفال الرئيسي، فهي المدينة التي بشّر فيها ملاك الرب الطاهرة مريم بأنها ستحبل وتلد يسوع، الذي صلب من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا ومغفرة خطايانا.
الناصرة، إذًا وكما جاء بالكتب، كانت مهد البشارة الأولى، مدينة صغيرة تركها يوسف ومريم العذراء، ومضيا في رحلة طويلة، كانت بداياتها تشرّدا ومنفى وصارت نهاياتها أيقونات معلّقات على طريق الآلام، أحلامًا ووجعا، كما تشهد عليها أزقة القدس وحواريها.
لم يسعف الناصرة اتفاق الأحزاب العربية، الذي أفضى إلى وحدة فتشكيل القائمة المشتركة، ولم تجنّبها تلك الوحدة، في هذا الموسم، الخوض في واحد من صراعات أهلها المسيحيّين المتحزبين، وذلك لما شاهدناه، قبل عيد البشارة، من مظاهر شقاق قديم جديد تطفو على الساحة وتذكّرنا، أن في الناصرة ما هو أعصى على وحدة، وفيها جرح كجرح القبائل: عميق وأقوى من أمل، نازف وأدوم من عين ماء كانت عذبة ذات يوم ومدرارة.
فبخطوة استباقية لدعوة البطريرك الأرثوذكسي اليوناني ليترأس احتفالات يوم العيد في الناصرة، أرسل عضوان سابقان في مجلس الطائفة رسالة حذرا فيها من حضور البطريرك، "في مثل هذه الظروف، فنحن وأنتم لا نقبل ولا نشارك ولا نحتفي به"، وذلك لمجموعة من الأسباب التي جاءت رسالتهما على ذكرها وأكّدا من خلالها أن حضوره غير مرغوب به وأنه سينغص على المواطنين أجواء البهجة والفرح. في المقابل، نشر مجلس الطائفة بيانًا حذروا فيه من "استخدام المناسبات الدينية لأغراض انتخابية مكشوفة ومن تنغيص أجواء عيد البشارة، عيد مدينة الناصرة، كما فعلوا قبل أربع سنوات".
ما يجري في الناصرة بين أبناء الرعية المسيحية الأرثوذكسية هو أمر مؤسف ومحزن، ولا يخدم في النهاية مصالح ابناء الطائفة، بل يصب، كما في الماضي اليوم كذلك، في مصلحة من يقف على رأس هذه الكنيسة وتحديدًا أعضاء أخوية القبر المقدس وهي الجسم اليوناني المتنفذ بكل مناحي هذه الكنيسة على المستويين: المادي والروحي.
الكنيسة الأرثوذكسية هي من أهم وأعرق الكنائس المسيحية في الشرق، وكانت رعيّتها هي الأكبر والأكثر تأثيرًا في الحياة الاجتماعية والثقافية والوطنية في فلسطين التاريخية، هذا علاوة على كونها كنيسة غنيّة بما تمتلكه من مواقع هامة، كالقيامة والمهد والجثمانية والعديد من الأديرة الشهيرة، وعقارات واسعة في إسرائيل وفلسطين والأردن ودول كثيرة أخرى.
شهدت علاقة الرعية العربية مع رئاسة هذه الكنيسة مظاهر توتر دائم وانعكست، أحيانًا، على شكل صدامات، لا سيما في محطات مفصلية تجلت إمّا عند انتشار أخبار عن صفقات عقارية غابت عنها الشفافية والمهنية، وإمّا انتصارًا لكهنة عرب هضم القيّمون اليونانيون حقوقهم وعاملوهم بمهانة مستفزة.
من أهم العوامل التي ساعدت رؤساء الكنيسة اليونانيين، ومكنتهم من إحكام سيطرتهم لقرون في الشأنين، الروحي والمادي، كان غياب الموقف الموحّد بين أبناء الرعيّة العرب وانقساماتهم الدائمة، التي استغلت ووظفت في خدمة تلك الرئاسات المتعاقبة.
لا مجال لمراجعة ذلك التاريخ في مقالة، لكن ما شهدته الناصرة، وهي المدينة الأهم في هذه القضية، في السنوات الأخيرة خير دليل على هذه الظاهرة، فمنذ أكثر من عقد يتنازع على رئاسة مجلس الطائفة الأرثوذكسية فريقان يعتبر أحدهما مؤيدًا بمعظم شخصياته للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، بينما يؤيد معظم ناشطي الفريق الثاني حزب التجمع الديمقراطي. بين الفريقين تفاقمت الخصومات وعلى مدار سنوات تركت بين المواطنين عداوات دامية وبغضاء بارزة ونفورًا لم يعرف الكياسة واحترام أصول العيش المشترك.
هذه الخصومات ساعدت الرئاسة اليونانية التي لم تجد سببًا حقيقيًا يلزمها على مراجعة سياساتها إزاء ابناء الرعية العرب ولا ازاء عقارات هذه الكنيسة وهي المسألة الأخطر التي يجب أن تؤرق كل مواطن وطني غيور.
ما جرى هذا العام، قبل عيد البشارة وخلال مراسمه، يستدعي تدخل الأحزاب والحركات الوطنية والإسلامية، في محاولة منهم لرأب الصدع بين جميع الجهات المتناحرة على هذا الموقع البلدي الهام، فأجواء المصالحات الشعبية التي فرضتها الوحدة وقائمتها المشتركة يجب ألا تسمح بإبقاء مثل هذه الخلافات المؤثرة، فنحن هنا لسنا بصدد منافسة ايجابية مشروعة، بل نواجه حالة من التخندق لجيشين يستعدان لمعركة ستبقي البلد يعيش حالة من الحقد والعداوة المؤذيتين.
الرسالة الداعية لعدم دعوة البطريرك ثيوفيلوس كتبها عضوان ينتميان أو يؤيدان حزب التجمع ورسالة مجلس الطائفة كتبها أعضاء ينتمون أو يؤيدون الجبهة، فلا الرسالة تحظى بمشروعية صادقة ولا الرد عليها كذلك، وكلتاهما تحتويان على قدر من الحقيقة والصواب ولكن سوء النوايا هو ما يثلم مصداقيتهما.
لقد آن الأوان ان يتحرك قادة الأحزاب الوطنية والمؤسسات القيادية للجماهير العربية ويتدخلوا في "القضية الأرثوذكسية" الحارقة، لأنها لم تكن يومًا، وهي ليست قضية طائفة ولا هي بمسألة عابرة، فالموقف من هذا البطريرك وممن يتحكمون معه في "أم الكنائس" هو موقف وطني ويجب أن يهم المسيحي والمسلم وكل وطني حر شريف في إسرائيل وفلسطين والأردن وسائر أرجاء المعمورة. فهل ستكون "البشارة" مما قد يحصل في الناصرة قريبًا بين فرقاء ما زالوا يتربصون ببعضهم مهمازًا لنسمع همس "البشارة" الحقيقة، كما سمعتها الناصرة قبل ألفي عام؟ أفلم تؤمنوا أن في البشارة كان رأس الخلاص؟