مَن كان بحاجة لاعتذار؟ جواد بولس
لم تكن تصريحات بنيامين نتنياهو في يوم الانتخابات الإسرائيلية أبشع ما قيل في حق المواطنين العرب في إسرائيل، فمن يراجع معجم الأوصاف والمواقف التي أطلقها قادة هذه الدولة بحقّنا، نحن أبناء الأقلية العربية التي رفضت في العام ١٩٤٨ نداءات الهجرة إلى الشمال وبقيت صامدة في وطنها لتروي ما لا يعرفه الجهلة من حكايات الجرح الفلسطيني، يجدنا موصوفين تارةً بالثعابين النجسة التي يجب سحق رؤوسها والقضاء عليها، أو صراصير يجب خنقها في زجاجات سعى لتصنيعها خزّافو الخرافة كرفائيل ايتان (رفول)، الذي كقائد لأركان جيش اسرائيل صال في البلاد دهرًا وتجبّر إلى أن وجد غريقًا ذليلًا في بحر يافا.
مع هذا، تفضح استغاثة نتنياهو في يوم الانتخابات أخطر المؤشرات على ما آلت إليه الذهنية الإسرائيلية السائدة قيادات وشعبًا. فرئيس الحكومة وقائد أكبر حزب صهيوني، لم يتردّد بتفزيع الأكثرية اليهودية، جهارةً، وتحذيرها من الخطر العربي الداخلي الزاحف، وأما بين الشعب، فتتكشّف حقيقة مفادها أن هذا التحريض الأرعن، كان أهم منشط دفع آلافًا مؤلّفةً من اليهود الصامتين، للهرولة إلى صناديق الاقتراع لدعم حزب القائد القوي الليكودي، الذي صار يقف بعد هذه الانتخابات، في مقدمة معسكر يضع المواطنين العرب، سكان اسرائيل، في رأس سلّم الأخطار التي تواجهها الدولة، ويعتبرهم بمثابة المرض المباشر الأفتك الذي يتوجب اقتلاعه، ككل مرض قاتل وخبيث.
لقد كشفت نتائج الانتخابات أن الأكثرية اليهودية لم تعر أي حساب لظروفها الاقتصادية المهينة، ولم يحرّكها ما يظهر يوميًا من انهيارات خطيرة في البنى الأخلاقية والمفاهيم القيمية لمجتمع يستنسخ أهله، بوتائر فلكية، "سادومه" الجديدة، ولم تخفهم عداوة أمريكا ولا زعل أعز حلفاء دولتهم، فالشعب صوّت وصرخ كلامًا صريحًا: لتذهب كل هذه المعطيات إلى الجحيم، عدوّنا معنا وبيننا، فها هم العرب في إسرائيل، توحّدوا وبدأوا يغزون الصناديق وهم في طريقهم إلى دكّ حصوننا قريبًا.
لسبعة عقود خلت كنّا "طابورًا خامسًا" في حسابات قادة اسرائيل، فأصبحنا، في الثامن عشر من آذار، في حسابات القادة والشعب، ألد أعداء "دولتنا".
لم أنتظر من نتنياهو اعتذارًا ولا تأسّفًا، فنداءاته، أقلقتني أو ربما أخافتني، لكنّه لم يهنّي إطلاقًا، بالمقابل، شعرت بإهانة طفيفة مما حاولت أبواق حزبه الدعائية تسويقه كحفلة اعتذار قدّمه أمام رهط من العرب الليكوديين، كمّا وصفتهم الأخبار والصحف، وذلك لأنه أحس، على حد تعبيره، أن بعض المواطنين العرب قد مُسّوا من أقواله في يوم الانتخابات.
ينبع شعوري بقليل من المهانة، لسببين، الأول: أن نتنياهو، وهو لا شك مثقّف ومطّلع ومتعلّم، ما زال يعتقد أنه يستطيع أن يضحك على "ذقون" العرب كما كان يفعل آباؤه، بعد عام النكبة، يوم كان قادة "اليشوف" اليهودي يؤمون القرى والمضارب العربية ليبيعوا مختارًا جاهًا موهومًا هنا، وليشتروا وجيهًا هُناك، بدّل قمباز جدّه ببدلة "الإنكليز" فتاه بين عصا "موسى" وعقال "لورنس"! والسبب الثاني، أن بعض المشاركين، على قلّتهم، يتبوّأون مناصب ومواقع اعتبارية في مجتمعاتهم المحلية وفي بلداتهم.
كم قلت اننا على منزلق خطر! واليوم، بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، أستطيع أن أجزم، أننا الخاسرون المباشرون، وما نواجهه من خطر صار أقرب مما كان البعض يرفضه أو يراهن على حصوله؛ فعندما تعرّفنا حكومة الدولة بأننا الخطر الأول والأشد عليها، وعندما تقتنع الأكثرية الكبيرة من الشعب بهذه الحقيقة، عندها علينا أن نتصرف بناءً على هذا الواقع، وعلى قادة مجتمعنا أن يكيّفوا مفاهيم تحرّكاتهم السياسية استجابة لهذه الحالة ودرءًا لما قد يلحق بمستقبلنا من هزائم.
أما قيادات الأحزاب والحركات المشاركة في القائمة المشتركة فعليها أن تحدد مواقفها من عدة قضايا جوهرية، ستستدعي اتخاذ قرارات عملية حاسمة، وبرأيي، فإن الواقع المنجلي بعد الانتخابات الأخيرة، يتطلب مواجهتها بمفاهيم جديدة، والنظر إليها من خلال منطلقات غير مألوفة؛ فقضية لجنة المتابعة العليا، على سبيل المثال، تستوجب تقييمًا جديدًا يأخذ بعين الاعتبار مواقف جميع الأجسام المتواجدة على الساحة العربيَّة وما طرأ عليها من تطورات أدت من جهة، إلى تقزيم دور أحزاب وحركات بشكل ملموس وواضح، ومن جهة أخرى، الى نشوء تجمّعات جديدة لا يمكن إغفالها؛ هذا علاوة على ضرورة إعادة فحص المعايير التي تمكّن تلك الحركة أو ذاك الحزب، من الانضمام للجنة، خاصة إذا كانت مواقفهم المعلنة مغايرة لمواقف الأكثرية في قضايا أجمعت الأكثرية على وقوفها في رأس هرم المصالح الوطنية والنضالية، كمسألة المشاركة في الانتخابات العامة أو مقاطعتها مثلًا.
أمّا القضية الهامة الأخرى فتتعلق باللجنة القطرية لرؤساء السلطات العربيّة المحليّةِ، إذ لا يخفى على أحد أن العرب في إسرائيل يعيشون حالة انقسام مريض، وتنشط بينهم أكثر من لجنة سلطات محلية؛ فمجالس القرى الدرزية انفردت بإطار خاص بها، وهكذا فعلت بعض مجالس القرى والتجمعات البدوية. لهذا يجب أن نضيف أن كثيرًا من رؤساء السلطات العربيَّة، الأعضاء في اللجنة القطرية، ناشطون في أحزاب صهيونية وبعضهم يتمتع بصلات رسمية عليا، حتَّى وإن أصرت قيادات في الأحزاب الوطنية تنسيبهم لكوادر أحزابهم الوطنية أو الإسلامية. فمن تداعيات قصة اعتذار نتنياهو ما قراناه في بيان اللجنة القطرية لرؤساء السلطات العربيَّة المحليّة، الذي نشر يوم الأربعاء الماضي، وفيه كشفوا للإعلام والرأي العام ان نتنياهو حاول من خلال "وسطاء" تنظيم لقاء بينه وبين اللجنة القطرية للرؤساء، دون تحديد أهداف ذلك اللقاء، إلّا أن قيادة اللجنة اعتذرت عن المشاركة، "لما يحمله من حيث التوقيت من رائحة سياسية وإعلامية"، بينما أكّد البيان استعداد القيادة للقاء نتنياهو بعد تركيب الحكومة واتضاح سياساتها تجاه المواطنين العرب. لن أناقش موقف لجنة الرؤساء في هذا المقال، لكننا نعرف أن بعض رؤساء المجالس العربيَّة شاركوا جلسة نتنياهو المذكورة وصرّحوا ما صرّحوه، وهم للحقيقة ليسوا وحيدين، فقبلهم في مناسبات أخرى، هنالك من "زعل" ومن "تمزعل" ومثلهم من "تشيسن" أو "تلكود"، فحال رؤسائنا بحاجة إلى أكثر من بيان خجول ومتواضع!
وأخيرًا، فعندما قررت قيادات شعبنا قبل أربعة عقود، إنشاء مؤسسات وطنية جامعة للجماهير العربية، لم ترم تلك الفكرة إلى مجرد إقامة خيام يتجمع فيها العرب بأفخاذهم وبطونهم وصدورهم؛ بل أرادوها قلاعًا حصينة تصد أعداء الجماهير وتقف لهم بالمرصاد، وبيوتًا من صوان، على أبوابها وقفت أسود وحرست أبراجها نواطير رفضت أن يقعقع لها بالشنان أو أن تغمز جوانبها كتغماز التين، لأنّهم قيادات قدّت من حكمة و"زيّاد" وآمنوا "أن المآسي تصنع الأبطال، والشكوى علامة كل خائر".