إن شئت فعِش ! جواد بولس
انعقدت في مستشفى "زيف" في صفد، يوم الخميس 9.2.2012 المحكمة العسكرية لسماع استئناف الأسير خضر عدنان على قرار محكمة البداية العسكرية القاضي بتثبيت فترة اعتقال الأسير إداريًا لمدة أربعة أشهر، كما أمر القائد العسكري في منطقته.
غرفة طعام أعدت في الأصل لراحة الممرّضين والممرّضات حوّلها هوَس الاحتلال لقاعة محكمة عسكريّة، تعج بفيروسات وبأشياء كثيرة، لكنّها نظيفة من عدلٍ ومنطقٍ وباقة أحلام.
سأكتب أكثر عن كيف يزغرد "سبّاط" الجنود فوق مساكب النعناع وأحواض الغاردينيا، وكيف يطيش صدى الأيام الأسود في المدى ولا تسمعه آذان صمّت من ضجيج الأساطير المسكِرة وقهقهات الرصاص الرخيص.
سأعود إليكِ يا صفد الغريبة، فلقد كنتِ وما زلتِ الداء فمتى ستعودين وتكونين ترياقًا ودواءً؟ أمّا الآن، فالساحة ساحة "الخضر"، حيث هناك على رأس الحلم يتربع مؤمنًا ومردّدًا "الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
لم يصدر القاضي قراره إلّا مساء يوم 13.2.2012. وكان رتيبًا كخطبة دكتاتور ومنصفًا كأسدٍ جائع. لن أكتب منّي كثيرًا "فبكولاج" غريب وعدتكم وهاكم أول الإبداع:
"بتاريخ 13.2.2012، في عوفر، تمّت معاينة ونقاش المواد السريّة وذلك بحضور ممثل عن "الشاباك"، المدعو "ليون" وممثلة المستشار القانوني لـ"الشاباك" "إيتي" والضابطة المسؤولة عن النيابة في الاعتقالات الإدارية.
إنّ مجموع المواد الموجودة أتاحت للقائد العسكري أساسًا معقولًا للافتراض، وذلك لدواعٍ أمنيّة مؤكّدة، وبناءً على تقييم الخطورة المستقبلية، أن أمن المنطقة، وبالتبادل، أمن الجمهور، يلزمان إبقاء المستأنف في المعتقل. طول الاعتقال تناسبي مع الخطورة التي تنبعث من المستأنف. كل ما تبّقى من ادعاءات المحامين المحترمين، ليس ذا قيمة.
عليه، يبقى أمر الاعتقال على ما هو عليه، كما صادقت عليه المحكمة الأولى وينتهي يوم 8.5.2012.
أمّا بالنسبة للادعاءات حول أسباب إضراب المستأنف عن الطعام والعواقب المحتملة جرّاءه، يُذكر، أنّ المستأنف هو الذي قرّر الشروع بإضراب عن الطعام (وهذه هي ليست المرة الأولى) وهو الوحيد الذي يقدر أن يقرر إيقافه. عن هذا الموضوع ردّدنا في سفر (الآباء) قسم (ج) سورة ١٥ "كل شيء متوقّع والإذن مُعْطى"، فمنذ ذلك الوقت عُرِف مبدأ استقلالية الفرد. يستطيع الشخص أن يعمل خيرًا ويستطيع أن يعمل الشر وحسب أعماله، وحسبها فقط، تأتي النتيجة".
فهل سمعت يا خضر! أنت حرٌّ وحر وحر، فإن شئتَ كُل، وإن شئت صُم، وإن شئتَ عِش وإن شئتَ مت، فأنت الشر وأنت الخير وعلى أعمالك، حتمًا ستجازى!. هل قال القاضي ذلك؟ لا همَّ ما قاله القاضي، فأنت الحر، ألم تطيّر رسالة للمحبين وجميع الأحرار وفيها قلت: "أهلي الأحبة ، شعبنا الكريم، وكل من يتضامن معنا اليوم، فنحن الأسرى الفلسطينيين لا نتسابق على لقب في "غينيس"، كما يظن مختلو العقول، فأنا كنت في بيتي آمنًا وهم الذين اقتحموا علي منزلي وأرعبوا طفلتي وأهلي بصورة وحشية.. وإذا كانوا عنيدين.. فأنا سأكون إن شاء الله أعند منهم .. إنّهم يخسرون وأسرانا يربحون عزَّتهم وكرامتهم وسينالون بإذن الله حريتهم... تحياتي ومحبتي لكم من فراشي في مشفى صفد العروبة والإسلام وأنا أتنفس هواء فلسطين وسوريا ولبنان".
ربي، أيّ عاشق هذا الذي من غيم؟ أي وَلِهٍ هذا الذي يرسم تناهيدَ ويحب حتى الدنف؟ أَنشِد يا خضر علِّ الصوتَ من صفد، فأنت الأقوى وإن كنت بحال، كما كتب الطبيب، يقلقنا ويقلق الطير في السماء، فمن لن يقلق حين يقرأ: "إنّني أعتقد أنّ وضعه الحالي، كما فصّل أعلاه، يلائم تأثير إضراب عن الطعام (الجوع) المستمر منذ ستين يومًا. بناءً على الأدبيات الطبية وبناءً على استشارة متخصّصين يتبين أن السيد موسى يواجه خطر موت فوري. صوم كامل لأكثر من خمسين يومًا يؤدي إلى تحلل في العضلات وذلك يشمل عضلة القلب وعضلة المعدة ويؤدي كذلك إلى إنتاج سموم في الجسم. من الجائز أن يحدث الموت بشكل فجائي نتيجة سكتة قلبية، أو كنتيجة لتلوث جرّاء انهيار في جهاز المناعة. من الجائز حصول نزيف في الجهاز الهضمي، أو فشل كلوي أو في الكبد.
يَتوقع حصول تدهور في وعيه وذلك نتيجة نقص في الفيتامينات وجرّاء نزيف في الدماغ. صوم لأكثر من سبعين يومًا لن يبقِي أملا في الحياة. تغذية بالسوائل وتعويض للأملاح، إضافة الجلوكوز والفيتامين، لن تكفي لمنع حدوث الموت المحقق نتيجة صوم طويل."
كدت أوقع لوحة الكولاج هذه، لكنني سأختمها بما جاد به قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية، فإليها توجهت بالتماسي ضد سجّانك وآسرك وقاضيك، ومنها طلبت عقد الجلسة بشكل فوري وذلك لحساسية الموقف وخطورة وضعك الصحي كما بيّنت وثائق أطباء يعملون بضمير، لكنه قضى، يوم 15.2.2012، وأمر: "يعيَّن الالتماس في القريب الممكن. جواب المدعى عليهم يعطى قبل ٢٤ ساعة من تاريخ الجلسة. بمدى ما يسمح وضع الملتمس الطبي يُحضر للجلسة. الجلسة تكون في قاعة المحكمة". خاتمة "الكولاج".
هل فهمتَ يا خضر ما فهمنا من قرار هذا القاضي؟ هل نخمّن معًا على من سيكون الرهان؟، عليك يا أيّها الحر وعلى حكمة الحجارة في صفد، ففي الطريق إليك ومع العودة منك سمعت النذير يتهادى مع أنين الفرص الضائعة وسمعت، هناك، بين الأزقة الثكلى، تنهيدة أم غفت وعلى زندها تفتَّحت زنابق بلون الكستناء. سمعت الصوت ينساب من بين حجارة كستها خضرةٌ تشبه خضرةَ منديل أحبته جدتي، ينشد: "إن شئت يا خضر فعش". "فشئ! لأنك وعدتنا بالندى وبالجرمق وبشذى الأقحوان .