لقاء في قانا - جواد بولس
قبل انطلاق أعمال المؤتمر العقاري الأول في عاصمة العرب والجليل جمعتني الصدفة مع ثلاثة أصدقاء. التقينا في جنازة عزيز قوم، كريم، علم كسليمان وأبيه. صحفيّان ومحام وأنا، جلسنا على شرفة مقهى قرية عرفت بعرسها وشهيدها، برمّانها وجمال عيون حواريها وبعضه عندي وأمامي.
من حديث النعوش هربنا إلى حديث المقاهي، وهذا، وإن كان يوجع أحيانًا، يبقى كسيّدة المكان، نارها تلسع ولا تحرق، رائحتها تعبق ولا تشفق، ودخانها يستوطن في الرئتين، يمهل ولا يهمل. غصّاتنا بدّدها نهم الكلام وأزاحتها سِيَرُ الأنام.
في الحقيقة، كان الحديث تتمَّةً لأحاديث بدأناها منذ اختلفنا، عربًا، على مأوى الشياطين، كيف وأين تكون؟ وعلى "درب السعادة من أين؟". اتّفقنا على كثير ولكننا لم نتّفق على "رأس الحكمة أين"؟.
هناك على الشرفة المطّلة على ما كان مرّة كرومًا روِّيت من عرق الكادحين وعطّرت بتناهيد الصبايا، أبديتُ استحساني لفكرة ذاك المؤتمر الذي سينطلق بعد أيام (كما أوردت مواقع الأخبار والصحف التجارية والحزبية على حد سواء). لفت نظري، في حينه، أن القيمين عليه أجادوا حين انتقوا الفعل "ينطلق" فهو يشي بقوة العزيمة والتحدي والمقاومة ولنا في انطلاقاتنا عبر وحكايا.
كذلك لفت نظري أن بعض المبادرين لانطلاقة ذاك المؤتمر هم قياديون في الحاضر، وبعضهم سيكون في المستقبل، ومعظمهم تصدَّروا القيادات الوطنية في الماضي القريب. كذلك لفت انتباهي، في حينه، أن المؤتمر سينطلق برعاية السيد عيران رولز، مدير مركز البناء الإسرائيلي، وبمشاركة لافتة لكبار الشخصيّات الإسرائيلية (لم تتحدث الأنباء في حينه، ولا بعد حينه، عمّا إذا كان المشاركون الإسرائيليون يهودًا أو صهاينة، فهذه التفاصيل هامشية في موازاة انطلاقة المؤتمر!).
ما أشرتُ إليه في ذلك اللقاء، أذكر، هو ذلك النفاق في اتباع المعايير والمواقف إزاء كثير من الأحداث الحاصلة أو المجهَضة وخفة دمغها والتحرز منها أو احتضانها والترويج لها. فلو كان المبادرون لمثل هذا المؤتمر مقربين من فئة سياسية تؤمن وتنادي بوجوب العمل اليهودي العربي المشترك (وفقًا لقواعد الندية والاحترام والشراكة الحقة) لباشرت جماعات التنديد الحاضرة دومًا وأطلقت منبهات التخوين والتشكيك والقذف المباشر وغيره.
لا مجال لمراجعة شاملة لتاريخ هذه القضية، لكنني عدت هنا إلى هذا الشأن عندما قرأت بيانًا وسمعت أصواتًا تندد بزيارة رئيس الدولة بيرس للناصرة (لا معلومات لدي حول هذه الزيارة).
لقد وصف البعض بيرس بـ"القاتل والمجرم" وما إلى ذلك، ولوَّموا على من سيستقبله بتلميح واضح لتواطؤ المستقبِل مع الضيف القاتل.
بمعزل عن صحة الاتهام تاريخيًا فأنا أعتقد أن العودة لهذا المانشيت فيها من المزايدة الضارة قسط ومن الديماغوغية الفارهة أقساط. فمتى سيتفق العرب على ما ينفعهم ليؤكل وما لا يستساغ ليقذَف؟ فهل مثلًا لقاء رئيس بلدة عضو في حزب التجمع مع وزير إسرائيلي خريج وحدة قتالية في جيش الاحتلال، واستلام ذاك الرئيس لبعض ملايين الشواقل لصالح بلدته، أمر مقبول أم هو الخيانة بعينها؟ وهل مثلًا لقاء رئيس بلدة عضو في الجبهة مع رئيس دائرة أراضي إسرائيل (وهو كما تعلمون ليس من يعرب ولا قحطان بل مستوطن موغل في الاستيطان) أو وزير داخلية إسرائيل وتحصيل ذاك الرئيس بضع مئات أو آلاف من الدونمات لصالح مسطح تلك البلدة، عمل مدان وخيانة وطنية؟ هل سعيُ الجميع (وطنيون بامتياز وطنجيون بامتياز عاديون بامتياز مواطنون بامتياز بشر بامتياز) إلى الارتقاء في سلالم الوظائف العامة والحكومية والرسمية فيه من العيب والانزلاق الزئبقي على أدراج العدو والدولة الصهيونية؟ فهل سمعتم عن مسجِّل محكمة وطني لا يسعى لترقية وتقدم ليصبح قاضيًا ومن موقع إلى أعلى، وهل سمعتم عن طبيب مناضل وطني قح لا يسعى لوظيفة في كوبات حوليم (هي صناديق المرضى في لغة أهل العلم والاختصاص)؟. هل سمعتم عن معلِّم بنصف وظيفة لا يسعى عند أهل الحل والربط ليكمل وظيفته؟ هل سمعتم عن مرشّح رابع أو خامس في قائمة حزبية وطنية تحتكر الضاد أو تدمن الواو أو أي حرف ترغبون، لا يحلم ولا يقاتل ولا يفت من جيوبه وجيوب داعميه في الوطن والمهجر كي يؤمن مقعده في برلمان الدولة العبرية (هي كنيست إسرائيل).
أستطيع أن أملأ صفحات من هذه التساؤلات التي يراها بعضكم طبيعية لا تسترعي اهتمامًا ولا تساؤلًا، فنحن مواطنون في الدولة ولنا الحق، كما لكل مواطن في أي دولة، وعلى الدولة أن تؤمن حقوقنا وهي لا تفعل هذا.
نحن نناضل من أجل عيشنا الكريم وأول وأهم هذه الحقوق هو حقنا بالحياة على أرضنا وفي وطننا. ما يؤمن ذلك قانونيًا هو حقنا بالهوية وبجواز السفر. لن نكون من فئة "البدون" ولا من أصحاب هويات وجوازات قيدَ شرطٍ ونزوة.
كمواطنين علينا التعاطي والتفاعل مع مؤسسات الدولة (الواقع أن هذه المؤسسات تقصينا وتهمّشنا وتميّز ضدنا) وعلينا أن نسعى لتوثيق هذه العلاقة كي نأخذ منها حقوقنا بالقانون والنضال والمقارعة.
مقاطعة هذه المؤسسات هي حلم كثيرين ممن لا يريدوننا على أرضنا، ولذا علينا أن نتفق كيف يكون التطبيع وكيف هو التركيع وما هو الفوز البديع.
هناك مع فائز ووديع ونضال، على شرفة تطل على ما بقي من وطن، فرحتُ لانطلاقة المؤتمر العقاري الأول في الناصرة فهنيئًا للمبادرين للشراكة في الوطن.